الشمال السوري بين الاحتواء والعسكرة
يتزامن اقتراب حسم الجنوب مع التحضيرات اللوجستية لبدء معركة قريبة لا تقل أهميتها عن سابقاتها، لا من حيث موقعها الجغرافي المهم ومواردها أو التدخلات الإقليمية التي تسعى لتوسيع دائرة نفوذها من خلالها، فتأكيد الرئيس بشار الأسد منذ أيام أن أولويتنا هي التوجه نحو تحرير إدلب، هو إسقاط لكل الخطوط الحمراء التي تسعى الدول المتدخلة في الأزمة السورية لرسمها ولتسقط معها أجندات تتعلق بالتقسيم أو الانفصال أو التغيير الديموغرافي أو ما سمي بسورية المفيدة.
إذاً، عنوان المرحلة القادمة هو الشمال بقسميه الغربي والشرقي، وهو أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الاحتواء عبر التسوية والمصالحات أو المواجهة العسكرية.
بالنسبة لإدلب هذه المدينة الخاضعة لاتفاق «خفض التصعيد» يبدو أن مصيرها لن يختلف كثيراً عن سابقاتها من المناطق التي تحررت في أرياف دمشق وحمص ودرعا والقنيطرة، اللهم إلا إن حقق اجتماع الدول الضامنة «لأستانا» في سوتشي اليوم خرقاً يبدو أنه مستبعد في ظل السلوك العدواني لتركيا، واستمرار التوسع الأفقي والعامودي للتنظيمات الإرهابية المبايعة للقاعدة وخاصة «جبهة النصرة» و«حراس الدين» بعد أن تجاوز عددهم أكثر من 35 ألف عنصر، ووجود تنظيمات مسلحة غير منسجمة ومتناقضة في مواقفها ومعظمهم من المسلحين الذين فضلوا الرحيل نحو إدلب رافضين التسويات السابقة.
اقتراب انتهاء مدة خفض التصعيد في الشمال بحلول شهر أيلول، وتقلص مساحة وجود المجموعات المسلحة ضمن الخريطة السورية، والتحذيرات اليومية التركية بالذات، من مخاطر عملية عسكرية هناك، مع عدم وجود مكان آخر لترحيل رافضي «المصالحات» إليه، من المرجح أن يفضي إلى معادلة القتال حتى النهاية، مع خضوع بعض المناطق والقرى للتسويات.
بالمقابل ورغم التباين الكبير بين تطلعات ما يسمى «مجلس سورية الديموقراطية» والحكومة السورية حول مستقبل الشمال الشرقي، فإن المحادثات «المبدئية» التي بدأت علناً للمرة الأولى وبعد سلسلة لقاءات فرعية سابقة، تبدو أنها خطوة واعدة في التوصل لحل من شأنه تجنيب تلك المنطقة أي تصعيد أو مواجهة محتملة، فانطلاق هذه المحادثات من نقاط تقاطع بين الجانبين، الخدمي ومواجهة إرهاب داعش والاحتلال التركي، قد تشكل نواة بناء ثقة تؤسس لعلاقة بنيوية متينة تزيل التوتر وتدفع بمسار التسوية السوري بشكل أسرع، وما يعزز هذا المسار وجود نقاط عدة يجب التوقف عندها:
1. الرسائل الإيجابية التي أطلقتها دمشق عبر مسؤوليها نحو إقامة اللامركزية الإدارية وفق قانون الإدارة المحلية الصادر عام 2012 مع إمكانية البحث في تطويره، مع ترحيب دمشق وفق ما سرب من الاجتماع الأخير بانخراط القوى الكردية في الحياة السياسية والموافقة على تمثيلها كقوى سياسة وفق نسبتها العامة في كل جغرافية البلاد، وحصر السلاح بالجيش العربي السوري وانضمام مقاتليها للقوات الحكومية.
2. احتلال تركيا والجماعات المسلحة العاملة معه لمدينة عفرين شمال حلب والتوصل لاتفاق حول وجودها في منبج وممارسته لأبشع أشكال القتل والإرهاب، شكّل نقطة تحوّل في الموقف الكردي من العلاقة مع الدولة السورية من جهة، ومع كل من واشنطن وموسكو من جهة أخرى، فبينما تفقد القيادات الكردية الثقة بأميركا وروسيا، يزداد تقربها من الدولة السورية وإيران. فالمعلومات تشير إلى أن التنسيق بين الدولة والكرد بلغ ذروته خلال العدوان التركي على عفرين ووصولها منبج، ولم يقتصر التنسيق على الدولة والقيادات الكردية إنما تعداها إلى فتح خطوط تواصل مع الجانب الإيراني أيضاً، فبدت «وحدات حماية الشعب» ومن خلفها الأحزاب الكردية، تغير بمقارباتها من اقتطاع الجزء الشمالي للجغرافية السورية والانفصال به إلى الحفاظ على وجودها وبقائها، ما يحول دون تهجير قصري للكرد من مدنهم وقراهم كما حصل في عفرين وعين العرب وريفها وصولاً إلى القامشلي والحسكة من الاحتلال التركي وبتواطؤ أميركي.
3. تغيير موازين القوى داخل الخريطة الجغرافية السورية وضمن النظام الإقليمي لمصلحة دمشق وحلفائها، وإدراك القوى الكردية بوجود قرار إقليمي بعدم السماح بأي انفصال من شأنه أن يزيد من تقسيم المنطقة، فضلاً عن فقدان ثقتهم المطلقة بالأمريكيين وخاصة بعد أن تخلت واشنطن عن المجموعات المسلحة في الجنوب السوري، وتخليهم عن كردستان العراق، والبحث عن خروج آمن لقواتها يحفظ ماء الوجه.
4. الضغط الشعبي والمطالب بعودة مؤسسات الدولة عبر احتجاجات شهدتها المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشيا «قسد» نتيجة سلوكها الاستفزازي نحو أهالي المناطق، والانشقاقات المتتالية وهروب مسلحيها والخشية من تفكك بنيتها غير المنسجمة والدخول في صراع مع العشائر العربية والمكونات الأخرى، وعدم امتلاكها القدر الكافي من العنصر البشري اللازم لحماية المناطق الخاضعة لها في الدفاع عنها ولاسيما في ملء الفراغ الذي قد يحدثه الانسحاب الأميركي، وافتقارها لمقومات الكفاءة المادية والتقنية والعلمية لإدارة هذه المناطق وتلبية احتياجاتها.
من حيث التوقيت يبدو أن دمشق تقدم على خطوة فيها الكثير من الحنكة السياسية عبر سحب العصي من دواليب العجلة السياسية، في فرض واقع على كل من هو رافض لهذه العملية بالمواجهة العسكرية أو بالاحتواء، الذي قد يقود وفق وجهة نظر شخصية، نحو شراكة وطنية للقوى الكردية والجيش العربي السوري في تحرير الشمال السوري من الاحتلال التركي والتنظيمات الإرهابية بما في ذلك مدينة إدلب.
الوطن
إضافة تعليق جديد