الياس مرقص من الماركسية إلى الماركسية الناصرية

11-10-2013

الياس مرقص من الماركسية إلى الماركسية الناصرية

كان الفكر القومي العربي الذي انتعش على المستوى النظري وعلى المستوى العملي بعد سقوط مملكة فيصل الأول في دمشق في سنة 1920، قد بدأ يهتز بقوة بعد نكبة فلسطين في سنة 1948. وما كادت تفصيلات الهزيمة في سنة 1967 تتكشف للجميع، حتى كانت الحركات السياسية القومية قد فقدت جانباً مهماً من جاذبيتها الفكرية والتنظيمية جراء الصراع الناصري - الشيوعي في العراق، وسقوط الوحدة في 28/9/1961، وكارثة الهزيمة نفسها. وقد فضحت هزيمة 1967 ما كان مستوراً في النظم العربية، أي تخلفها العلمي والمعرفي والإداري والتنظيمي، علاوة على هشاشتها الاجتماعية وتقليديتها الفكرية. ومع أن أفكار الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية والمعاصَرَة وتحرر المرأة كانت حاضرة بقوة في المدائن العربية منذ القرن التاسع عشر، ولا سيما في مصر والشام والعراق، إلا أن هذه الأفكار راحت، بعد هزيمة 1967، تكتسب حيوية جديدة، وتستعيد تألقها، لكن بلغة ثورية راديكالية هذه المرة؛ فقد أطلقت هزيمة الخامس من حزيران/يونيو 1967 موجة غاضبة من النقد الذي طال كل شيء تقريباً: المجتمع وأنظمة الحكم والأفكار معاً. وفي هذا الميدان شرعت فكرة الثورة الاجتماعية تغمر الشبان العرب بأحلامها الجميلة ووعودها الخلابة، وصار غيفارا مثالاً للتمرد البهي، وأخذ يأسر حواس هذه الشبيبة الصاخبة والقلقة والحيرى معاً. وفي هذا المناخ المتلاطم بدأت الأفكار الجديدة الداعية إلى التحرر الوطني والقومي والاجتماعي، وحتى الجنسي، تدشن وعياً نقديًا جديداً في العالم العربي بأسره، وانتعش الفكر النقدي الجديد الذي تجرأ على نقد الناصرية والقومية العربية، فأنزل جمال عبد الناصر من موقعه السامي إلى مستوى المسؤول الأول عن الهزيمة الذي يجب محاسبته؛ وتجرأ على الشيوعية، وخصوصاً الماركسية اللينينية ذات الطراز الستاليني السوفياتي، فأنزل خالد بكداش عن مكانته المبجلة كبطريرك لا يضاهى للشيوعيين في بلاد الشام والعراق؛ وتجرأ على الدين تحت شعار «نقد السماء هو المقدمة الأولى لنقد الأرض»، أي أن نقد اللاهوت مقدمة لنقد الاستبداد. وفي خضم هذا العصف الفكري والثقافي كانت أفكار الثورة الاشتراكية والكفاح المسلح والعنف الثوري تتصاعد وتنتشر من مشرق العالم العربي إلى مغربه وحتى إلى خليجه (البحرين وظفار واليمن الجنوبي). وكان من أبرز علامات العصر الجديد تحوُّل مجموعات وأفراد من الحركات السياسية القومية إلى الماركسية مثل مجموعة ياسين الحافظ البعثية في سوريا (حزب العمال الثوري العربي) ومجموعة لبنان الاشتراكي، علاوة على مجموعة محسن ابراهيم ومحمد كشلي ونايف حواتمة الخارجة على حركة القوميين العرب (منظمة الاشتراكيين اللبنانيين). واللافت أن اليسار العربي الجديد الذي انبثق في أواخر ستينيات القرن المنصرم لم يظهر في سياق تحولات اليسار الشيوعي القديم، ولم يكن للشيوعيين القدامى أي تأثير فيه، بل ظهر نتيجة للهزة العميقة التي أحدثتها هزيمة 1967، وكانت الماركسية، في هذا السياق، ملجأ أيديولوجيًا بعد ان تخلخلت ركائز الفكر القومي بنسختيه البعثية والناصرية.
لم يشذ الياس مرقص، وصديقه ياسين الحافظ أيضاً، عن هذا الاستنتاج على الإطلاق. فياسين الحافظ الذي بدأ بعثياً في مسقطه في دير الزور، وصار شيوعياً في جامعة دمشق في سنة 1955، ثم عاد إلى البعث، حاول أن «يمركس» فكرة القومية العربية في داخل حزب البعث نفسه حين صاغ «المنطلقات النظرية» التي تبناها المؤتمر القومي السادس للحزب في 5/10/1963، لكنه لم يلبث أن خرج من هذا الحزب ليؤسس مع حمدي عبد المجيد وحمود الشوفي وعلي صالح السعدي وآخرين حزب العمال الثوري العربي. أما الياس مرقص فأراد أن يعيد الاعتبار إلى الفكرة القومية في صفوف الشيوعيين، فاتهم باعتناق الناصرية وخيانة الشيوعية. وفي خضم هذه الانشقاقات والمجادلات كان الياس مرقص حاضراً بقوة في السجالات الماركسية المندلعة آنذاك، وتمكن من أن يحفر لنفسه خطًا فكريًا مميزًا ومختلفًا في آن. غير أن الياس مرقص لم يكن واحدًا من ذلك الجيل الصاخب الحائر الباحث عن يقين، بل كان واحدًا من الجيل الرمادي إلى حد ما الذي ظهر في الحقبة التي تلت نكبة 1948 واستمر نشاطه الفكري إلى ما بعد نكسة 1967، بل إلى أواسط ثمانينيات القرن العشرين. ومن خيبات الياس مرقص أن الوقائع كثيراً ما كانت تسبق أفكاره؛ ففي النصف الأول من ستينيات القرن المنصرم شُغل بنقد ستالين والستالينية، بينما كان نقد الستالينية قد انتهى في أوروبا بعد تهتك المثال السوفياتي إبان حوادث المجر والقضاء على حكومة إيمري ناجي في سنة 1956 (أُعدم ناجي في سنة 1958)، وفي أثناء القضاء على الحركة الإصلاحية في بولونيا بقيادة فلاديسلاف غومولكا في سنة 1956 أيضاً. وعُني مرقص بالبحث عن إطار مشترك للشيوعية غير الستالينية والناصرية لتجاوز عقابيل الصراع الدامي الذي نشب في العراق في سنة 1959 بين القوميين والشيوعيين. لكن هزيمة 1967 دهمت الجميع وجعلت مثل هذا البحث متقادماً. ومهما يكن الأمر فإن الياس مرقص الشيوعي ظل حتى آخر يوم من حياته خارج الاطار التقليدي للشيوعيين العرب، فقد دافع عن بوخارين الذي كان يصفه بأنه الأمين على خط لينين، بينما كان يرى تروتسكي وستالين مجرد مجنونين. وخاض معاركه الفكرية ضد الشيوعيين لأنهم، بحسب رأيه، لم يفهموا ماركس بل شوّهوا أفكاره. وكان يتطلّع في خضم معاركه السجالية ضد الدوغمائية اللينينية، وضد قطرية الجماعات الماركسية، وضد القومية المثالية المعادية للاشتراكية، إلى صوغ ماركسية لينينية عربية، أي نظرية قومية واشتراكية معاً. ولهذا اتهمه خصومه بأن نقده الستالينية والأحزاب الشيوعية العربية قدّم سلاحاً دعائياً وفكرياً للتيارات القومية العربية المناوئة للشيوعية، وكذلك قدّم نقده القومية العربية سلاحاً موازياً للشيوعيين. وبهذا المعنى فإن الياس مرقص ظل، في جميع الأحوال، مستقل التفكير. وحين توفي في 26/1/1991 غداة الحرب الأميركية على العراق، وغداة اندثار الاتحاد السوفياتي، كان يطوي بموته حقبة مديدة وصاخبة ومثيرة. ولعل من حُسن خاتمته أنه لم يشهد سيطرة الليبرالية الجديدة على العالم، ولم يراقب انزياح الأفكار الاشتراكية وانزواءها في حلقات هامشية هنا وهناك، ولم يرَ تحوُّل الماركسيين الثوريين إلى ليبراليين جدد، ولم يشاهد انفجار المجتمعات العربية وصعود الهويات المحلية لتستولي على السياسة في كثير من الدول العربية، ولم يرَ بأم عينه موت صديقه معمر القذافي وانحلال «الجماهيرية الليبية».
لم يكن الياس مرقص قائدًا سياسيًا، بل مفكرًا مشاكساً ومعترضًا ومخالفًا للتيار الرئيس في الحركة الشيوعية العربية. كان مفكرًا يشتغل بالسياسة خلافًا لخالد بكداش أو فرج الله الحلو اللذين كانا سياسيين يشتغلان ببعض قضايا الفكر. وظل، ولا سيما في مرحلة نضوجه في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، قلقًا وحائرًا بين الفلسفة والسياسة، لكنه لم يتمكن من أن ينجز أي نص فلسفي، ولم يصبح، ولعله لم يرغب، في أن يكون سياسيًا. لكنه، بين هذا وذاك كان مفكرًا حرًا حاول دائمًا أن يبني الحقيقة السياسية على الحقيقة الفلسفية، فاجتهد في سبيل إعادة تأسيس العقلانية في الفكر العربي المعاصر، وإعادة بناء الوعي العربي، والارتقاء به من وحدة التأخر إلى مستوى العصر الحديث (أنظر: جاد الكريم الجباعي، جدلية المعرفة والسياسة: حوار مع الياس مرقص، دمشق: دار النايا، 2011).

شيء من أفكاره

شُغل الياس مرقص بمقولات عصر النهضة العربي التي اعتقد كثيرون ان عهد جمال عبد الناصر قد طواها. أما المقولات التي تصدى لها في هذا الحوار، أو تحرش بها فهي: الحرية، الاستبداد، الأمة، الشعب، الوطن، المجتمع، الحقوق المدنية، الدستور، الحريات السياسية، العَلمانية، الديموقراطية، التقدم، الثورة... وغيرها. وكان يفرّق بين التقدم والتغير، فليس كل تغيّر تقدمًا، وليس كل تحول تقدمًا، لأن فكرة التقدم، بحسب مرقص، تفترض الذهاب إلى الأمام، أي التغير نحو الأرقى. أما فكرة التحول فهي التحول من حال إلى حال. فعكس التقدم هو التقهقر، بينما التغير الذي يفترض الحركة والصيرورة، فعكسه هو السكون والركود. وثمة فارق آخر بين الثورة والتقدم هو أن الثورة انقلاب. والثورة هي الدرجة الأولى على سلم التقدم إلى الأمام، أي التاريخ. لكن الثورات لم تحول الأرض جنة. وعلاوة على ذلك يرفض الياس مرقص فكرة الزمان الدوراني، ويقول إن قانون البشرية هو الارتقاء المتدرج، وليس صنع الجنة على الأرض. ويلاحظ مرقص ان الفكر العربي الحديث لم يُعنَ بفكرة التقدم، بل تمسك بفكرة الثورة. وهناك أسس لاهوتية لفكرة التقدم، أولها «الخلق الإلهي» الذي هو، في جوهره، صعود من العدم إلى التكوين، ويستند في هذا الشأن، إلى أرنست بلوخ في كتابه «فلسفة عصر النهضة» الذي يقول فيه: «إذا كان الله خلق العالم من العدم، فإن العدم في هذه الحال مادة». والعالم، بحسب رأيه، وجود وعدم، بينما الله وجود بلا عدم، وتاريخ البشرية هو صراع بين الوجود والعدم. والثورة لديه تعني التحول، أي الانتقال من حال إلى حال، أو من نظام اجتماعي إلى نظام اجتماعي آخر. أما الانتفاضة فهي غير الثورة، إنما هي احتجاج على نقصان العدالة أو الحرية، وربما هي التطلع إلى السلطة. وهذان المعنيان منفصلان؛ فجميع الانتفاضات مثل «ثورة العبيد» في روما التي قادها سبارتاكوس، أو «ثورة العبيد» في الصين التي قادها يونوس، انتهت الى الفشل. وكذلك انتفاضة الفلاحين الألمان التي قادها توماس مونزر، وانتهت أيضًا إلى الفشل. غير أن بعض الانتفاضات كان ينتصر موقتًا، ويوزع المنتصرون الأراضي على الفلاحين، ولكن، بعد نحو خمسين سنة تعود الأمور إلى ما كانت عليه. أما أول ثورة منتصرة فهي الثورة البرجوازية، لأن طبقة كادحة تملك وتعمل في الوقت نفسه هي من أطلقها. بينما ثورات الكادحين غير المالكين وجميع ثورات الفلاحين والبدو كانت تنتهي إلى الفشل.
يرفض الياس مرقص إنكار مقولة عصر الانحطاط الذي امتد من عهد المماليك إلى عهد العثمانيين. وهو يتّهم أصحاب هذا الإنكار بأنهم يريدون ترسيخ فكرة عصر الاستعمار بدلاً من عصر النهضة لإعلاء شأن حقبة العثمانيين الاتراك. ويقول: إن أحوالنا كعرب كانت قبل الاستعمار الغربي في أسوأ حال، وصارت في أثناء عهد الاستعمار أفضل. وعلى سبيل المثال كان عدد سكان مصر في حقبة البطالسة ثمانية ملايين، وتدهورت الحال إلى أن بلغ عدد المصريين مليونين ونصف المليون في سنة 1800، ولم يزيدوا على المليونين في العهدين الفاطمي والأيوبي، بينما ارتفع عددهم إلى أربعة ملايين في حقبة الاستعمار البريطاني، ثم إلى عشرة ملايين... وهكذا. كذلك انخفض عدد سكان مدينة دمشق في القرنين السابع عشر والثامن عشر إلى ثلث عددهم قبل 250 سنة، وفي سنة 1520، يضيف الياس مرقص، كان في بلاد الشام خمسة آلاف قرية تدفع الضريبة، وفي سنة 1800 لم يَبق من هذه القرى إلا ما بين 1500 و2000 قرية، وانخفض عدد سكان بلاد الشام إلى مليون نسمة في تلك الفترة بعدما كان نحو ثلاثة ملايين قبل الفتح العثماني.
سيرة المفكر
ولد الياس مرقص في مدينة اللاذقية في 25/9/1929، ودرس في مدرسة «الفرير»، ونال البكالوريا القسم الأول في سنة 1945، والقسم الثاني في سنة 1946. ثم سافر إلى بلجيكا في أول بعثة تعليمية سورية بعد الاستقلال، والتحق بجامعة بروكسيل الحرة. وفي بلجيكا بدأ يتعرف إلى الفكر الشيوعي، واطلع على تاريخ الثورة الفرنسية وتأثيرها في التحولات الكبرى التي شهدتها أوروبا في نهاية القرن الثامن عشر. نال الاجازة في علم الاجتماع والتربية في سنة 1952، وعاد إلى سوريا ليعمل في سلك التعليم الذي استمر فيه من سنة 1952 حتى سنة 1979. تعرف إلى المفكر ياسين الحافظ في سنة 1953 في أثناء خدمته العسكرية الالزامية، وصارا صديقين حميمين حتى قبل أن يتحوّل ياسين الحافظ لاحقًا إلى الشيوعية. بدأ الياس مرقص الكتابة والترجمة منذ سنة 1955 فصاعدًا. وفي تلك السنة انضم الى الحزب الشيوعي السوري اللبناني الذي كان يقوده خالد بكداش. لكن الياس مرقص سرعان ما اختلف مع الحزب بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي في شباط / فبراير 1956 الذي كشف فضائح مروّعة ارتكبها الشيوعيون في عهد ستالين، فطرد من الحزب الشيوعي في سنة 1957 لإمعانه في نقد النهج الستاليني البكداشي.
أسس مجلة «الواقع» في بيروت التي ظهر العدد الأول منها في نيسان / ابريل 1981، وتوقفت في سنة 1982. ثم ساهم في تأسيس مجلة «الوحدة» في الرباط في سنة 1984، التي أشرف عليها «المجلس القومي للثقافة العربية» في ليبيا، وكان من أركان هذه المجلة أحمد محمد خلف الله وجورج طرابيشي ومحيي الدين صبحي. وكان ينشر مقالاته في مجلة «دراسات عربية» وفي مجلة «الفكر العربي»، وشارك مع صديقه ياسين الحافظ في تأسيس «دار الحقيقة» في بيروت. وكانت له علاقة غير مباشرة بحزب العمال الثوري العربي من خلال صلته بياسين الحافظ وعلي صالح السعدي، ولكنه لم ينتمِ فعليًا إلى هذا الحزب.
اشتُهر بالسجالات الفكرية والسياسية ضد صادق جلال العظم وناجي علوش وبسام طيبي وقيس الشامي (الاسم المستعار للكاتب السوري عزيز عظمة)، علاوة على كثيرين من الشيوعيين السائرين في نهج الاتحاد السوفياتي آنذاك. توفي في 26/1/1991 تاركًا إرثًا كبيرًا من المؤلفات والترجمات والمخطوطات.

[ مقاطع من مقدمة لكتاب حواري مع الياس مرقصأجراه طلال نعمة يصدر قريبا

صقر أبو فخر

المصدر:السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...