تجارة العذاب
هل كان يدور في خلد أي سوري أو سورية ممن اضطرتهم ظروف الحرب والقتل والدمار لمغادرة بلادهم أن يجدوا تعاملاً على نحو ما يتعامل به معهم بعض أشقائهم العرب من جحود واستغلال وإهمال.
هل كان أحد من مئات الآلاف من السوريين النازحين يتوقع أن تصبح قضيته موضوع اتجار بالعرض ومتاجرة بالعذابات، في المخيمات التي أقيمت من أجلهم، فواجه أهلها النار من بنادق الشرطة في غير مكان، ولاقوا افتراساً لأعراضهم وبناتهم في أماكن متعددة، إما باسم «زواج السترة»، أو بمهر لا يتجاوز الـ 500 جنيه مصري (أي ما يعادل 75 دولاراً أميركيا) كما كشف تقرير للمجلس القومي للمرأة في مصر صدر قبل أيام عن «12 ألف عقد زواج بين مصريين وسوريات معظمهن قاصرات».
لقد صدّق هؤلاء ما كانوا يسمعونه على لسان بعض المسؤولين العرب من «غيرة» على الشعب السوري وحرص على حريته، وصدّقوا أيضاً ما كانت تردده بعض وسائل الإعلام، بأن كل ما تشهده سوريا من قتال ودمار وتدخل خارجي إنما يهدف إلى «حماية المدنيين السوريين» وهو شعار يذكّرنا «بحماية المدنيين الفلسطينيين» في مخيمات صبرا وشاتيلا إثر الغزو الصهيوني للبنان عام 1982.
ثم لقد صدّق هؤلاء ما كانوا يسمعونه من أنصار «الثورة السورية» واعتقدوا أن مناطق اللجوء التي سيصلون إليها ستكون مفروشة بالورود والرياحين، وربما سيحلّون ضيوفاً على فنادق سبعة نجوم التي تجري عادة فيها مؤتمرات «أصدقاء» سوريا و«زعمائها».
لقد سمع هؤلاء بالمليارات من الدولارات الاميركية تنفق على تسليح وتمويل وتحريض على الاقتتال في سوريا، فلم يعتقدوا مطلقاً أن هؤلاء المانحين «بسخاء» على الحرب، سيبخلون على نازحين اضطرتهم الحرب إلى مغادرة بيوتهم وديارهم هائمين شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، بحراً وجواً، حيث تسمح لهم القوانين بالدخول دون تأشيرة.
ولقد أطمأنت قلوبهم، وفرحت ضمائرهم، إلى شعار كريم وجميل مليء بالعزة والعنفوان، رددته بعض الحــناجر في مــدن سوريــا قــبل عامــين ونيّـف: «الموت ولا المذلــة..» ولكــن لــم يخــطر ببال أحد أن يتــحول هذا الشعار ليصبح «الموت داخل سوريا.. والمذلة خارجها».
وحين ظنّ سوريون كثر وعرب أكثر، أن ما يجري في سوريا يستهدف نظاماً أو حزباً أو رئيساً، اكتشف كثيرون منهم أن الأمر يستهدف أولاً دولة بمكانة سوريا، ومجتمعاً بتنوع المجتمع السوري، وتاريخاً بعراقة التاريخ السوري، وجيشاً بعظمة «جيش تشرين»، بل عروبة جامعة طالما أشعّت من عاصمة الأمويين الشام دعوة لوحدة العرب...
لقد صـادفت نازحــة سورية في سيــارة عمــومية، تريد التوجه إلى سفارة دولة معيّنة لتحصل على تأشيرة سفر إلى تلك الدولة التي يعمل فيها زوجها، خصوصــاً بعــد أن تشــتت أهلــها، ودمر منزلهــا، وقــالت لراكبي السيارة: «لقد خرجت قبل سنة من تلك الدولة مؤقتاً من أجل الحصول على تأشيرة تسمح لي بالإقامة مع زوجي.. ومنذ ذلك الحين وأنا أحاول ولا أجد سوى ما يشبه الإهانة على أبواب تلك السفارة التي طالما ذرف مسؤولون فيها الدموع على الشعب السوري».
إذا أردت أن تعرف ماذا يدور في سوريا، فما عليك إلا أن تنتقل في شوارع عواصم العديد من الدول العربية، أو أن تذهب إلى أحد تجمعات النازحين السوريين أو النازحين الفلسطينيين من سوريا، لتدرك حقيقة «المؤامرة» على سوريا وشعبها ودورها، وهي «مؤامرة» اعترف مؤخراً الشيخ أحمد معاذ الخطيب بوجودها لتقسيم سوريا.
ويبقى السؤال: هل يعجز النظام الرسمي العربي، ولا سيّما بعض الدول النفطية، عن أن تخصص نسبة ضئيلة مما تخصصه لشراء أسلحة وأجهزة وتذاكر طائرات وإقامة في فنادق، لأبناء سوريا النازحين خارج بلدهم، وداخلها في آن؟
أم أنها عقوبات جماعية مستمرة لشعب حمل مشعل العروبة وفلسطين والمقاومة على مدى سنوات في ظل ذريعة «ممجوجة» هي إسقاط النظام... تماماً كإسقاط دول كالعراق وليبيا وربما غيرها.
إنها قراءة سياسية في قضية إنسانية.
معن بشور
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد