تكتيكات الولايات المتحدة في الشمال السوري
في إطار التصعيد الخطر الذي تشهده المنطقة والذي وصل إلى حد حافة الهاوية بعد مروحة من التجاذبات والتصريحات والاتهامات والسلوكيات الأمنية والعسكرية بأبعادها السياسية، في مؤشر إلى عدم القدرة ببعض الأحيان على تجنب الحروب المباشرة واستخدام القوة المفرطة، أو بهدف تهيئة المناخات للجلوس على طاولة المباحثات بعد الحصول على تنازلات تحت التهديد باستخدام القوة، ما زالت الولايات المتحدة الأميركية تنتهج سلوك سياسات فرض «الأمر الواقع» في تنفيذ مشروعاتها وأجنداتها ضمن سياق تكتيكاتها التصعيدية في المنطقة بشكل عام.
فالتحالف القائم على التناقضات بين حلفاء واشنطن، وإعادة خلط الأوراق لكسب المزيد من الوقت، والتلويح بالعصا والجزرة بين الفينة والآخرة، واعتماد الحرب الناعمة بوسائلها كافة السياسة والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، هي من أهم ملامح هذا التوجه وأهم مساراته في التعاطي مع الحرب على سورية وبخاصة عبر ما يسمى في علم الأزمات «الإدارة بالأزمة»، بمعنى آخر افتعال الأزمات داخل الأزمة بهدف تعقيد الطريق أمام الحلول السياسية التي لا تتناسب مع تطلعات واشنطن، وبخاصة في المنطقة الشمالية الشرقية «الجزيرة السورية» حيث تسارع واشنطن بعد العدول عن قرار الانسحاب لإيجاد صيغة سياسية تشكل نموذجاً للانفصال بموارد ذاتية وبغطاء محلي، يتلافى أخطاء النماذج السابقة التي كان آخر محاولاتها في إقليم كردستان العراق، يشكل بما يمتلكه من موارد قوة نفوذ واشنطن في أي مباحثات سياسية، وملامح هذا التوجه برز في:
1- الضغط الأميركي على السعودية للمسارعة في إتباع مقاربة وسلوك يعيدها للمشهد السوري بعيداً عن الانفتاح وإعادة العلاقات مع دمشق، وهذا برز بشكل واضح أثناء الزيارة الثانية لوزير الدولة لشؤون الخارجية السعودي ثامر السبهان إلى الجزيرة السورية، في توقيت سياسي يحمل الكثير من الدلالات والمؤشرات التي أفصح عن بعضها أثناء اجتماعاته بعدد من شيوخ قبائل هذه المدينة بحقل العمر، وبحضور وفد أميركي يمثل الخارجية يترأسه نائب وزير الخارجية جويل رايبورن عندما طلب من العشائر «التفاوض مع «قسد» وعدم الاصطدام معها»، وذلك بهدف إعادة تعويم الأخيرة وجناحها السياسي «مسد» ضمن ما يسمى «التيار العربي المستقل» الذي أعلن عن تأسيسه منذ ستة أشهر تقريباً، وتخفيف وطأة الاحتجاج والرفض الشعبي والعشائري بالخصوص لتسلط «قسد» على إدارة السلطة والثروات الباطنية في المناطق التي تحتلها والتي تطلق عليها «الإدارة الذاتية»، وهنا يبدو التعويل الأميركي على صلات القرابة العشائرية حاضراً في حسابات خارجيتها، وبما ينسجم مع مساعي السعودية للعودة للتأثير بالمشهد السوري والإقليمي، من خلال توحيد العشائر و«قسد»، فضلاً عن استثمار هذا التكتل أو الصيغة التوافقية بهدف إحكام قبضة الحصار الاقتصادي على سورية وعزلها باستهداف الخط البري عبر التحكم بالخريطة الجغرافية من غربي الفرات باتجاه الحدود التركية السورية وصولاً إلى التنف، وبما يخدم رفع وتيرة تصعيد الصراع مع إيران وقطع أي طريق أمامها أو أمام المسعى الروسي في استقطاب العشائر والقوى الكردية للجلوس على طاولة المباحثات مع الحكومة السورية، وكذلك للضغط على تركيا من واشنطن والرياض والاستفادة من انشغالها في معارك إدلب، حيث وصف وزير الخارجية الأميركي مايك بامبيو في تصريح هو الأول من نوعه «الأكراد في سورية: بالشركاء العظماء» كرد على التمسك التركي بشراء منظومة «إس400» ومسعى الرياض لتسجيل نقطة إضافية في إطار صراعها النفوذي مع المشروع التركي الإخواني.
2- التوجه الأميركي لاستقدام الاعتراف الضمني والعلني بميليشيات «قسد» وجناها السياسي من الفاعلين الإقليميين والدوليين، حيث شهدت المنطقة زيارات دبلوماسية مكثفة منذ بداية شهر حزيران تمثلت بستة وفود خارجية من فرنسا والنرويج وبلجيكا وهولندا، وسبقها أيضاً زيارات دبلوماسية وأمنية من كازاخستان والسودان، عنوانها العام والمعلن هو تسلم ما يسمى أسرى تنظيم داعش الذين يحملون جنسيات هذه الدول من ميليشيات «قسد»، ولكن في مضمونها تسعى واشنطن من خلال الزج بـ«قسد» في استقبال هذه الوفود والتباحث معها، هو فتح قنوات اعتراف بها وإقامة علاقة تدريجية معها بمختلف المجالات وقد تشكل طرح إقامة محاكم دولية في مناطق ما يسمى الإدارة الذاتية لإنهاء ملف عناصر داعش ومحاكمتهم، بداية تتويج لهذه العلاقات وفق وصف رئيس مركز الأزمات في الخارجية الهولندية إيان بيجان، وبذلك تكون واشنطن قد حققت اعترافاً دولياً بـ«قسد» وعززت من طموحاته الانفصالية بشكل يدغدغ جغرافية المنطقة ويهدد أمن دولها، وقدمت لها الدعم المادي الدولي عبر المنح والمساعدات، وعرقلة أي جهود للدخول في حوار داخلي سوري.
3- البحث عن وسائل وآليات لتطوير العلاقات بين «مسد» والكيان الإسرائيلي والارتقاء بها نحو التعاون والتطبيع المتبادل، بما يمهد الطرق نحو تل أبيب لتكون في داخل الساحة السورية، فللمرة الثالثة تقوم قناة «12 الإسرائيلية» ببث إعلان ترويجي لفيلم وثائقي أنجز داخل مدينة الرقة، حيث نشرت مراسلة الكيان العدو إفرات لاشتر صوراً ومقاطع فيديو برفقة مقاتلات يتبعن لميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد»، فضلاً عن معلومات مفادها أن الوحدات الكردية أرسلت 20 عنصراً من مسلحيها في القامشلي باتجاه الأراضي الفلسطينية، عبر مدينة أربيل شمالي العراق، لتدريبهم بإشراف جهاز الموساد الإسرائيلي بعد تجاوزهم لعدة اختبارات خضعوا لها من ضباط من التحالف من بينهم عدد من الإسرائيليين، وذلك ضمن السعي الإسرائيلي للتعاون مع «قسد» لتأسيس جهاز أمني عسكري، شمالي شرقي سورية يطلق عليه اسم «الموساد الكردستاني السوري».
يبدو أن التعقيدات التي تعتري المشهد السوري من قمة هرم الدول المعتدية عليها وصولاً إلى قاعدتها، لن تتوانى عن استخدام الخيارات كافة للحفاظ على هذا التعقيد، فالرئيس الأميركي دونالد ترامب لن ينسحب من سورية قبل خوض معارك الانتخابات الأميركية كي لا يتعرض لضغوط جديدة تتهمه برفع الراية البيضاء وترك الساحة السورية لروسيا وإيران، عدا عن الثقل الذي يمثله بعض صقور إدارته، والسعودية ما زالت تبحث لها عن دور في العملية السياسية انطلاقاً من الدور العدائي مغلقة الآمال التي عقدت مؤخراً عن انفتاح مع دمشق من بوابة العودة للتوازنات السابقة، وميليشيات «قسد» التي تنجر بشكل غوغائي وغير عقلاني خلف التوجهات الأميركي تراهن على ما تمتلكه من عناصر داعش المحتجزين لديها للمساومة على أمن هذه الدول أو الحصول على اعتراف دبلوماسي وسياسي ودعم مادي ومعنوي لإنشاء كيانها الانفصالي وفرضها كأمر واقع على دمشق وعواصم دول المنطقة.
الوطن
إضافة تعليق جديد