حسم «معركة الحدود»: البوكمال في يد الجيش العربي السوري
بعد أشهر طويلة من المعارك المنسّقة على طول الجبهة ضد تنظيم «داعش»، والممتدة من ريف حلب الشرقي وحتى ريف دمشق، عادت مدينة البوكمال إلى كنف الدولة السورية. المدينة التي كانت دوماً بوابة سوريا إلى العراق وبالعكس، ظلّت هدفاً لكل الأطراف المتحاربة على الأرض، خلال سنوات الحرب. وفرض موقعها الاستراتيجي، امتداد الصراع حولها على مسرح ميداني واسع، لا يلتزم الحدود الرسمية.
وفي الوقت الذي كانت فيه دمشق مشغولة بمعارك في وسط البلاد، جرّبت واشنطن لمرات عديدة، «اختطاف» المدينة من «داعش»، ولكنها مُنيت بالفشل. وتعددت تلك الأسباب تبعاً لتغير المعادلات على الأرض، فبينما سحق «داعش» عناصر «جيش سوريا الجديد» الذين دفعت بهم واشنطن نحو المدينة، عاد الجيش وحلفاؤه لقطع الطريق على القوات الخاصة الأميركية المرافقة لـ«مغاوير الثورة» بعد محاولتهم التقدم عبر البادية الشرقية انطلاقاً من التنف. وليس سرّاً أن واشنطن راهنت حتى اللحظة الأخيرة على حشد فصائل «عربية» في ريف الحسكة الجنوبي، لقيادتهم نحو البوكمال (كما نحو دير الزور)، ولكنها فشلت في تحقيق «وفاق» بين هؤلاء وقيادة «قوات سوريا الديموقراطية» ذات الغالبية الكردية ــ عدداً ونفوذاً، في الوقت والشكل المناسب.
في المقابل، كانت طريق الجيش وحلفائه نحو المدينة، شاقة ومكلفة، غير أنها في الوقت نفسه ظهّرت معالم مرحلة مختلفة من الحرب، عاد نفوذ دمشق خلالها إلى غالبية الأراضي السورية. وعلى طريق البوكمال، عادت أهم الحقول النفطية في المنطقة الوسطى، كما مناجم الفوسفات، وطُرد «داعش» من أرياف حلب والرقة وحماة وحمص، والآن يجري ذلك في دير الزور. التضحيات الكبيرة التي قدمها مقاتلو الجيش والحلفاء في الميدان، مهّدت الطريق لاستعادة دير الزور وتدمر والسخنة وغيرها من المدن والبلدات السورية. وبتحرير البوكمال، كسرت دمشق وحلفاؤها الإرادة الأميركية بعزل بلدانهم (العراق، سوريا، لبنان) بريّاً. وحملت العمليات الأخيرة نحو المدينة رسالة مهمة في هذا السياق، إذ التقت القوات العاملة على جانبي الحدود، ونسّقت لهجوم مشترك في جبهة واحدة امتدت على أراضٍ سورية وعراقية. فالمدينة ومعبرها، سيبقيان البوابة الأهم؛ سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. واتضح ذلك عبر توقيع اتفاقيات سورية ــ عراقية ــ إيرانية في مجال الطاقة، قبل أيام من تحرير المدينة، لشبكة وصل كهربائية تمرّ عبرها نحو دير الزور. ومن المرتقب أن توقَّع اتفاقيات مماثلة ضمن قطاعي النفط والغاز، خلال وقت قريب.
وفي موازاة ذلك، ثبتت معارك الشرق الدور الروسي البارز على الساحة السورية، إذ إن الجهد الديبلوماسي والعسكري الكبير لموسكو، كان شرطاً رئيسياً ولازماً لإنجاح مبادرة «تخفيف التصعيد»، التي أتاحت التفرغ للحرب ضد «داعش» شرقاً. وساهم تنسيقها العسكري المتواصل مع واشنطن وأنقرة، في تحييد معارك جانبية، في محيط الباب والتنف وريفي الرقة ودير الزور، كان من شأنها إشغال الجيش وتأخير تحركه نحو الحدود، إلى جانب دعمها الجوي والتقني الكبير والفاعل، الذي ساعد في إضعاف قدرات «داعش» وتسريع حسم المعارك على الأرض. ومن المحتمل أن يكون لروسيا دور مهم خلال المرحلة المقبلة التي ستشهد أفول التنظيم نهائياً من الأراضي السورية، في تأطير العلاقة بين دمشق وواشنطن (ممثّلة بـ«قوات سوريا الديموقراطية») في الشمال والشرق، لتجنّب أي صراع محتمل في الميدان.
وعلى الأرض، شهد محيط مدينة البوكمال الجنوبي، أمس، تقدماً واسعاً للجيش وحلفائه في محاذاة الحدود. وترافق التحرك بفتح جبهة مماثلة انطلاقاً من الأراضي العراقية، نحو مدخل المدينة الشرقي. وخلال ساعات من الهجوم تمكنت القوات من السيطرة على حقل عكاش النفطي (جنوب المدينة) والوصول إلى أطرافها الجنوبية، قبل أن تتمكن من فرض طوق حولها، وتبدأ التمهيد لاقتحامها. وخلال وقت قصير من تقدم الجيش وحلفائه داخل الأحياء، شهدت مواقع «داعش» انهياراً لافتاً، مع انسحاب غالبية عناصره من المدينة، ليُعلَن ليل أمس تحريرها رسمياً. وسيعمل الجيش حالياً على تعزيز مواقعه داخل البوكمال، وعلى طول الطريق التي قادته إليها عبر البادية. وتشكل تلك الخطوة ضرورة ميدانية مهمة لصدّ هجمات التنظيم المحتملة على مواقع الجيش الممتدة جنوباً بين المدينة والحدود، ومن هناك غرباً نحو محطة «T2»؛ فالسخنة. وبعد استكمال تلك المهمات، يتوقع أن يتحرك الجيش من محورين متقابلين على طول وادي الفرات، لإنهاء وجود التنظيم واستعادة البلدات التي ما زالت تحت سيطرة التنظيم هناك. إلى جانب التحرك لتطهير جيب يوجد فيه مسلحو التنظيم، في محيط وادي الوعر على الحدود مع العراق، ضمن مثلث رؤوسه كل من محطة «T2» والبعاجات من الجانب السوري، وأطراف عكاشات على الجانب العراقي.
ومن المنتظر أن يفتح تحرير البوكمال صفحة جديدة في الصراع مع واشنطن، التي تراهن على نفوذها الكبير ضمن العراق، للتخفيف من مفاعيل الوصل بين القائم العراقية والبوكمال السورية. وهو ما بدا واضحاً الأسبوع الماضي، في تصريح لقائد عمليات «التحالف الدولي» الجنرال جيمس ب. جرارد، رداً على سؤال عمّا إذا كانت إيران ستسيطر على المعبر الحدودي بين القائم والبوكمال، قال فيه: «لا أعتقد أنه سيكون هناك أي تحكم لإيران على الحدود من داخل العراق (الجانب العراقي)... ولكن هذا احتمال موجود في سوريا». كذلك من شأنه أن يثير أسئلة عن الوجهة الجديدة للجيش السوري وحلفائه، خاصة أنه صعّد على طول الجبهة الممتدة بين ريف حماة الشمالي وريف حلب الجنوبي، ضد «هيئة تحرير الشام»، في تحرك تتقاطع خطوطه في مطار أبو الضهور العسكري. وضمن هذا المحور تمكنت قوات الجيش أمس، من السيطرة على قرية بليل في ريف حماة الشرقي. وأوضح مصدر ميداني أن الجيش اعتمد على «كسر التحصينات الممتدة على مسافة يزيد طولها على 30 كيلومتراً، في موازاة طريق حماة ــ حلب... شمال أثريا والشيخ هلال». وأشار إلى أن الهدف المرحلي للعمليات هناك، هو السيطرة على بلدة الرهجان، التي تعد أكبر تجمع سكني في المنطقة، وعقدة رئيسية للطرقات بين ريف حماة وإدلب.
(الأخبار)
إضافة تعليق جديد