خـسـائـر أميـركـا في سـوريــا
تعجّل البعض عندما ظنّ أنّه يمكن احتواء سوريا بالغواية والتخويف أو اسقاطها بحروب داخلية متفرقة. كانت الاندفاعة العاطفية في توليفتها العقائدية، أو العقائدية في توليفتها العاطفية، أكبر من محتملات الواقع. وتبيّن مع الأيام أنّ القتال تترجمه موازين قوى، لا مبالغات الأطاريح السياسية وغلو الفتاوى الدينية، وأنّه من الصعب بمكان الدفاع عن افتراض ما، أمام قوة الطبيعة والوقائع الميدانية، ثم أنّ المدارات الصراعية ليست على مرجعية معيارية واحدة لكي يُعلِن البعض عن نتائج كاملة ومطلقة ويقينية قبل ان ينجلي غبار المعارك.
وبعد أن طنّ في آذان الدنيا أن سوريا ستسقط بعد أسبوع واحد على دوي أول رصاصة، لم يعد أحد اليوم يثق من تنبؤاته وخصوصاً بعد أن شقّت المفاوضات الروسية الاميركية طريقاً لفك الاشتباك بعد هستيريا الاستقطاب الحاد ومخاطره على الحياة الدولية، وقبل أن تقع الكارثة على بقية شعوب العالم ومناطقه. كان يكفي عند البعض هذا الحدّ من الحقيقة، وهذا الحدّ من التهور والمقامرة خصوصاً أنّ خيط الوقت بات دقيقاً جداً، وأن المعاجلة إلى صنع حل للأزمة أفضل من تدحرج صخرة سيزيف على صدر العالم الذي يضيق، كأنما يصعّد في السماء.
صحيح أنّ لوحة الحل ما زالت في مرحلة التشكيل ولم يستكمل أصحابها كامل مقوماتها وعناصرها الفنية لعرضها، لكن الجهود المبذولة تتقدم وتقترب من انجازها. هذا ما يظهر من المواقف المعلنة التي عكستها تصريحات وزراء خارجية عدد من الدول العربية كقطر والسعودية وبعض أبرز مسؤولي الاتحاد الاوروبي وتركيا وأميركا الذين لم يكونوا راغبين في البداية بخسارة ذرة واحدة من كبريائهم، إلاّ أن استمرار نزيف الدم والموارد وعدم تحقيق إنجازات ملموسة جعلاهم يوقنون أكثر فأكثر بقاعدة «من لا يتقدم هو في الحقيقة يتراجع».
ـ 2ـ
كل من نفخ في نار الأزمة السورية أيقن أنه سيكون أمام احتمالين أحدهما يستدعي الآخر. الأول: صدام إقليمي عنيف، والثاني: صدام عالمي مخيف له قدرة هائلة على عبور الجغرافيات وقطع المسافات. واستعجال الحل هو الساتر الترابي الذي يمنع حركة الطوفان من تجاوز البؤرة السورية، خصوصاً أنّ أي بادرة على هذا الصعيد لا تتعلق فقط بسد ثغرة تخرج منها الخسائر، وإنما ستكون عامل تأمين حتى لا يتجاسر بعض الصقور ويهم بمغامرات جديدة بعيدة عن التقديرات الدقيقة، وأيضاً ستكون هناك فرصة للخروج من التعبوية إلى العقلانية، ومن الجدل السياسي إلى الحقائق السياسية، ومن إطلاق النار إلى إطلاق آليات الحل. ويكفي التوقف اليوم، بعد أن أصبح النزاع باهظ التكاليف، عند نقطة تشعر معها كل الأطراف المتنازعة أنها لم تهزم ولكنها لم تحقق نصراً حاسماً أيضاً.
عندما بدأت أميركا مواجهتها المفتوحة مع سوريا أبدت نوعاً جديداً من التكتيك يتخطى النمذجة القديمة من دون أن تلغي عناصرها بالكامل. كياسة هذه المواجهة تقتضي توليفة مركبة من حرب ناعمة (ربيع الشعوب) وحرب بالنيابة والمناوبة (استقدام الجماعات المتطرفة تباعاً حسب الحاجة ). قاعدة الحرب الناعمة تتطلب السير مع الزمن وتتوخى تحصيل نتائج كمية تراكمية، أما قاعدة حرب النيابة والمناوبة، فتتطلب السير مع الأرض وتتوخى تحصيل فاعليات وديناميات تسمح بنشوء حقائق ميدانية. خطأ أميركا هذه المرة أنها تصورت أن الحقائق هي ما تضعها في اعتبارها وما تظنها وما تعتقدها، وليس ما تراه على الأرض، فتعثرت عربتها وباتت عاجزة عن التقدم خطوة إلى الأمام، بعدما غرقت في الوحول السورية. وأميركا التي تعاني تراجعاً تاريخياً على المستوى العسكري والاقتصادي والسياسي (الانسحاب من العراق، تعهد اوباما مؤخراً بسحب 34 ألف جندي من أفغانستان جراء الضغوط الداخلية، أزمة الديون السيادية، الفشل في معالجة الملف النووي الإيراني والكوري، الفشل في تحجيم دور الصين الاقتصادي وروسيا الاستراتيجي)، أعجز من أن تقضي على النظام السوري بالحرب. وآخر تجليات هذا العجز ما جاء على لسان أوباما في خطاب حالة الإتحاد عندما أعلن أن سياسته تقضي بالضغط على النظام فقط من دون الإشارة والتلميح إلى إسقاطه. ثم يلحقه بعد ساعات وزير خارجيته جون كيري الذي صرح بأنّ لديه أفكاراً جيدة سيعرضها أو سيرسلها إلى الأسد، وهو يأمل أن يقتنع الأسد بها للدخول في مفاوضات مع المعارضة لحل الأزمة السورية . هنا يبدو عجز أميركا عن حسم المعركة مترافقاً مع عجز آخر في بناء الحل، وعندها أنّ صنع التسوية أكثر مشقة وصعوبة من لحظة إعلانها المواجهة المفتوحة على سوريا. في معتقد أميركا أنّ الوقت ليس ملائماً لوقف إطلاق النار على نحو كامل، كما أنّه ليس صالحاً للإعلان عن تسوية شاملة ونهائية تُريح من خلالها خصومها. تطلب اميركا الحل ولكنها تسير بدقة وحذر، وإن كانت قد نجحت في تحميل الآخرين تكاليف الحرب فهي غير مستعدة لتحمّل تبعات الحل.
ـ3ـ
لا شك أنّ الانتقال من مناخ المواجهة إلى مناخ التسوية يخلف وراءه في العادة عوارض مادية ونفسية واستراتيجية، ولأميركا وحلفائها أن يقدّروا ذلك. فبالنسبة إلى المعارضة سوف تظل، في أحسن الفروض، في حدود ما نراه الآن من احوالها.
أما روسيا العائدة بقوة إلى المنطقة فقد كانت الأزمة السورية فرصة مناسبة لتؤكد تعافيها وحيويتها وقدرتها على تحويل السياسات إلى أفعال وإمكانات وظروف. في ليبيا كان حسن نيتها بالغرب سبباً لفشلها وخروجها المذل، وعندما أساءت النية به في سوريا ربحت التحدي، وبدت كما لو انها أعادت التصالح مع نفسها. فهي لا ترضى بمشاركة شرفية في رسم الواقع الدولي وإنما تطمح لمشاركة حقيقية تمتد خطوطها في طول العالم وعرضه. الإيرانيون على يقين بتجاوز الأزمة السورية بكل أثقالها واقتحام أبواب مرحلة جديدة. وكثيراً ما نرى الإيرانيين يتعاملون مع حركة المتغيرات في المنطقة وحتى مع حركة العقوبات الاقتصادية والتطويق العسكري من خلال القواعد العسكرية المنتشرة على حدود إيران في البر والبحر على أساس بيتِ شعرٍ للمتنبي يقول فيه: ووضع الندى في موضع السيف بالعلى «مضر كوضع السيف في موضع الندى». أما «حزب الله» فقد كانت الأزمة السورية بمضاعفاتها المذهبية والسياسية والعسكرية تحديّاً إشكالياً حرجاً وخطيراً، ولكن الأزمة بذاتها قد هيأت إمكانية تاريخية لتبلور إرادة عربية وإسلامية خالصة من شوائب التمذهب الديني والتحالفات المصلحية والخروج من واقع الصمود إلى فعل التغيير المنشود على مستوى الأمة. إنّ أميركا تدرك أنّ أي تسوية للأزمة السورية ستجعل حالتها أكثر سوءاً وستدفع خصومها إلى سباقها. هي لن تتخلى عن سياسات الفتن الطائفية والقلاقل والاضطرابات، ولكن ذلك لن يغير من الحقيقة شيئاً، فما تمنته في سوريا لم تدركه، وها هي تعيش خيبة سفنها حين جرت الرياح على عكس ما اشتهته!
صادق النابلسي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد