دمشق بين «باب الصغير» و«أوركسترا ماري»
تتقاسم العواصم العربيّة موت أبنائها الذين سيصبحون بعد ساعات قليلة فقط «خبراً بائتاً»، تزامناً مع «السنوية السادسة» لواحدة من أسوأ الحروب في تاريخ المنطقة. على إيقاع مآذن «الأموي»، تسير الحياة دون ارتباك كبير بين البزورية والعصرونية والحميدية. يعيش السوريون اليوم في ظل ظروف اقتصادية ومعيشية قاسية وغلاء فاحش في أسعار السلع والمواد الغذائية.
يعمل فادي، ابن حي القابون، في فندق صغير من فنادق «الشام القديمة» ويقصد المنطقة يومياً على دراجته الهوائية قادماً من «مساكن برزة» التي يقطنها مؤقتاً بعد خروجه من القابون. يقول الرجل الأربعيني إنه يتعرض يومياً للتفتيش و«الإهانات» عند الحواجز العسكرية، فقط لأنه من عائلة يوجد فيها عشرات المطلوبين للدولة. يأمل نجاح التسوية في القابون بعد تعثرها أخيراً، لتجنيب المنطقة كارثة إنسانية جديدة. يقول إنه «لا ذنب للمدنيين هناك، هم ضحايا المجموعات المسلحة من جهة وهم متَهمون بنظر الدولة»، مشيراً إلى أن «فئة من المسلحين محسوبة على طرف إقليمي معروف هي من عرقلت التسوية». لم يبق منفذ إلا استهدف عبره السوريون في عيشهم. باستثناء «تجار» وسماسرة الحرب، صار همّ أغلب السوريين اليوم هو تأمين قوت يومهم وعودة الأمان إلى بلادهم. «محظوظ من يهاجر من البلد»، يقول سائق التاكسي الذي يتذمر من زحمة السير في شارع «شكري القوتلي» (شارع بيروت سابقاً). في السنوات الماضية، برزت ظاهرة سائقي التاكسي من أبناء السلك العسكري، نتيجة للظروف المادية الصعبة التي يعيشها هؤلاء. يبسّط الرجل القصة على طريقته: «أنا ما بدي أسرق. يا بدك تعفش وتتقاسم الغلة مع الضابط المسؤول عنك، أو بدك تشتغل عالخط... وتتقاسم الغلة كمان مع الضابط»!
يكثر المتسولون في شارع «الثورة» وشوارع أخرى في دمشق. أخيراً، حذر نائبٌ في مجلس الشعب السوري من مخاطر الظاهرة، مطالباً وزارات العمل والشؤون الاجتماعية والداخلية بوضع آلية مشتركة لضبط الظاهرة و«توفير المناخ المناسب لمنع استغلال الأطفال من قبل شبكات الاتجار بالبشر». تشير اللوحة المثبتة على جدار قلعة دمشق إلى أنها بُنيت أولاً في العهد السلجوقي وأعاد بناءها «الملك العادل الأيوبي وجعلها أكثر تحصيناً». كيف ستروي الحجارة غداً حكاية سنوات الحرب الأليمة فيما لو نُفِخت فيها الروح؟ مَن يكتب حكايات الناس الذين تحولوا أرقاماً في عدّاد الموت المفتوح منذ 6 سنوات، وبلغ مئات الآلاف من القتلى والجرحى؟ يروي وسام، وهو شاب ثلاثيني من سكان القصاع، أنه لم يغادر منطقته حتى في أصعب الظروف التي أصبح فيها مسلحو المعارضة على بعد مئات الأمتار من الحي المقابل لجوبر وبلدات الغوطة الأخرى. ولأهل وسام، اللبناني الأصل، قصة قد تجد مثيلات لها أيضاً. هاجر أهله من عين الرمانة قرب بيروت في 21 تموز 1977 وجاؤوا إلى دمشق هرباً من جحيم الحرب اللبنانية في ذلك الحين. أما المفارقة فكانت أن عائلته هاجرت في التاريخ ذاته 21 تموز (2012)، لكن باتجاه معاكس إلى بيروت!
يصعد التلاميذ الصغار إلى باصاتهم عند مدخل روضة للأطفال في ساحة الميسات، وهي إحدى أكبر ساحات دمشق التي تربط أحياء ركن الدين والصالحية والمزرعة. بائع الورد قبالة الموقع الأثري في وسط الساحة يعرض بضاعة لموسم الدفء المقبل. تركض فتاة جميلة نحو حبيبها الذي انتظر خروجها من مكان عملها ويسيران معاً. يحمل رجل حصته من الخبز ويمشي سريعاً إلى غده المحفوف بالمخاطر!
دردشة في «مجلس الشعب»
التاسعة صباحاً بتوقيت دمشق. نسمة الهواء الباردة التي هبت من قاسيون لا تلفح رأس الجندي الواقف عند مدخل مساكن النواب في مشروع دُمّر. مرّ على الشاب النحيل شتاءٌ قاس هذا العام، كما على عموم أهل الشام الذين عانوا أزمات متعددة كنقص وغلاء مواد التدفئة، إضافة إلى أزمة المياه خلال حصار وادي بردى. ينطلق الباص المخصص لنقل أعضاء مجلس الشعب في مساره اليومي من «المشروع»، مروراً بعدد من أحياء العاصمة، وصولاً إلى مقر مجلس الشعب في منطقة الصالحية. يشكو السائق أبو يوسف، الموظف في «المجلس» منذ 40 عاماً، ما سماه «عدم وفاء» الذين وعدوه بتأمين فرصة عمل لأبنائه. يفكر الرجل جدياً بنقلهم إلى بيروت للبحث عن عمل يخفف عنه أعباء الحياة اليومية. «لكن أنت تعرف الوضع في لبنان يا أبو يوسف». يقول له نائب من دير الزور بلهجة أقرب إلى العراقية. يأسف أبو يوسف لواقع الإجراءات اللوجستية التي استجدّت في لبنان تزامناً مع أزمة النزوح، متذكّراً «أيام العز» يوم كان يشارك في تنظيم لقاءات وزيارات لوفود متبادلة بين البلدين. يحضر عدد من النواب إلى المجلس بسيارة التاكسي، فيما الترتيبات الأمنية على طريق المجلس تبدو أقل تعقيداً من تلك الموجودة في الطريق إلى ساحة النجمة في بيروت مثلاً! في البهو الخارجي لقاعة المجلس، يسأل أحمد مرعي رفاقه في «الكتلة السورية القومية» عن جدول الأعمال لتنسيق الموقف. يتحدث نائب دائرة مناطق حلب عن تجربة الكتلة المؤلفة من سبعة أعضاء، واصفاً إياها بـ«المشجّعة» في سنتها الأولى. يؤكد النائب مرعي أن بلاده مقبلة حتماً على مرحلة سياسية جديدة «من الضروري أن نواكبها بإحداث تغيير على المستويات الاجتماعية والاقتصادية». يبدو الرئيس السابق لفرع لبنان في «اتحاد الطلبة السوريين» شديد الحماسة للحوار السوري السوري في موازاة المباحثات التي تجرى في أروقة جنيف وأستانة. يؤكد: «لا سبيل لخلاص السوريين إلا بالحوار في ما بينهم، وقطعنا شوطاً كبيراً على هذا الصعيد». كما يشير مرعي إلى أنه خاض داخل المجلس في موضوع كان يعدّ من «التابوهات» وهو مسألة حضور الدين في مفاصل الدولة. برأيه «لا بد من الذهاب الى علمنة الدولة بشكل كامل»، معتبراً أن العلمانية في سوريا «تشوبها نواقص كثيرة مرتبطة بطبيعة المجتمع». في مثل هذه الأيام من العام الماضي، أعلن الحزب السوري القومي الاجتماعي ترشيح ابن مدينة جرابلس، الذي عاش 22 عاماً في بيروت، وللأخيرة الفضل الكبير في تشكيل وعيه السياسي والثقافي والاجتماعي. «لو أراد أحد ما اليوم تأسيس مدينة على شاكلة بيروت لما استطاع»، ميزة بيروت برأي مرعي، أنها تشكلت طبيعياً بما تحمله من «تعددية سياسية ودينية وثقافية». ويرى دمشق «ساحة النضال الحقيقي اليوم»!
حكايات على طريق الشام
المكان: نقطة الأمن العام السوري في «جديدة يابوس». رجلٌ سبعيني وصل قبل ساعتين إلى مطار بيروت الدولي، آتياً من الأرجنتين، ووجهته النهائية «يبرود» في القلمون السورية. يجري التحقيق معه لساعة من الزمن بـ«تهمة» تهرب ضريبي جمركي تعود للعام 1991. في السيارة، امرأة من مدينة جبلة الساحلية ستبيتُ ليلتها في دمشق قبل أن تغادر صباحاً إلى الساحل لإجراء معاملات تخص ابنتها الصغيرة. ولكن أين والدها؟ «بقي في بيروت لأنه مطلوب للخدمة العسكرية». تاجر مجوهرات لبناني يقصد الشام في مهمة عمل أسبوعية ينزل في خلالها ليلتين في أحد فنادق العاصمة الزهيدة الأجر. طالبان جامعيان سوريان يدرسان في بيروت يعودان إلى عائلتهما في الصبّورة في إجازة قصيرة. 5 نقاط عسكرية ثابتة قبل الوصول إلى مداخل دمشق؛ أبرزها حاجز «الرابعة» المعروف بتشدُّده في إجراءات التفتيش.
رجال الجمارك لا يكتفون بالنقطة الحدودية، فربّما ينصبون «كميناً» في مكان غير متوقع. «كل حاجز له تسعيرة»، يقول أحد السائقين من أصحاب الباع الطويل على خط بيروت ــ دمشق. على طول طريق الشام، يمكن للقلب أن «يتمرجح» صعوداً ونزولاً بين بيروت ودمشق، وأن يتقاسم حُب المدينتين دون انحياز لواحدة على حساب أخرى. ويمكنه أيضاً أن يجري مفاضلة بين مدينتين ظلتا على الدوام في علاقة متأرجحة بين حُب وجفاء، لكنها لم تبلغ القطيعة الكاملة يوماً. لطالما كانت طريق الشام هي العصب الرئيسي للتجارة البرية بين البلدين، ومنهما إلى دول أخرى. لم تقلل الحرب القائمة من أهميتها الحيوية. تراجع دور «مصالح» كثيرة على جانبي الطريق وازدهرت أخرى! الخامسة مساء في موقف «كراج السومرية» عند أطراف دمشق في الطريق إلى بيروت. عجوز طرابلسية في طريق عودتها من زيارة لأقاربها في الشام للمرة الأولى منذ 5 سنوات. مواطن سوري يقصد الأوزاعي والغبيري للبحث عن قطع غيار سيارات. امرأة من القامشلي برفقة صغيريها التوأم تسافر للمرة الأولى إلى بيروت براً لإتمام معاملات السفارة الفرنسية للالتحاق بزوجها المقيم في باريس. تاجرٌ فلسطيني من سكان مخيم اليرموك أقام تجارة رابحة في محلة الرّحاب في المنطقة التي استحالت اليوم سوقاً شعبياً كبيراً. مواطنة نازحة تعود إلى مدينة عاليه بعد تفقد منزلها قرب العاصمة، تقول «أشعرُ كأنني فعلاً بين أهلي، فالحي الذي أسكنه في عاليه معظمه سوريون»! عمار، الشاب العشريني من مدينة حلب يسافر للمرة الأولى إلى مدينة جدّة السعودية للإقامة عند أقاربه. قبل ذلك، لم يعرف هذا الشاب الحياة خارج «أسوار» حلب. ليس غريباً عندها أن يسأل السائق عن الأفق الملبد بالغيوم قرب الحدود اللبنانية: «هل هذا بحر»؟!
يتشدد «رجال الحدود» في أوراق المواطنين المطلوبين للخدمة العسكرية أو لـ«الاحتياط». لا يسمح الرجل ذو الملامح الحادّة لعمار بالخروج إلى لبنان في طريق سفره إلى «الخليج» لعدم حيازته ورقة موافقة من شعبة التجنيد على «التأجيل» الذي تمت الموافقة عليه أخيراً. عاد بصحبة أخيه إلى دمشق لإتمام المعاملة وللسّفر في اليوم التالي. في داخل مبنى الأمن العام اللبناني عند نقطة «المصنع» الحدودية، يوجه العسكري اللبناني كلاماً صارماً لا يخلو من لهجة استعلائية غير مبررة لأحد المسافرين السوريين. يشير أحد السائقين في الخارج إلى طريق ترابية قريبة لـ«تهريب النازحين بشكل غير قانوني وبعلم السلطات المعنية»! للسائقين على «طريق الشام» حكايات كثيرة لا تخلو من متاعب. منهم من تمرّس بالعمل منذ سنوات طويلة ويحنّ الى زمن «الشغل الكتير» قبل الحرب. ومنهم من بدأ «المصلحة» في السنوات القليلة الماضية بفعل الأحداث في سوريا التي أفقدتهم أشغالهم وتجارتهم السابقة. سائقو طريق الشام سوريون ولبنانيون؛ بينهم لبنانيون مقيمون أصلاً في دمشق وغالباً ما يتحدثون بلكنة «مطعّمة». هؤلاء يعرفون أكثر من غيرهم معنى الجغرافيا بين بلدين متجاورين، يشهد أحدهما اليوم حرباً قذِرَة ستصير غداً في ذمة التاريخ. في بيروت، لاحقاً، وصل الخبر من «قصر العدل» في دمشق هذه المرّة. هناك كان دمُ السوريين مباحاً دون حدود!
«حُب ونساء» في «دار الأسد»
في المنشور الخاص بالأمسية الموسيقية، كتب المنظّمون الكلمات الآتية: «نهدي نغماتنا إليهنّ في العيد. إلى من رحلوا ولمن هم باقون بنبض قلب ولهان. الملكة، المناضلة، المقاتلة، العالمة، المغنية والحبيبة بينهن... ننتقي من كل بلد امرأة لحناً من وطنها عنواناً سمعياً للمقطوعة: كليوباترا، جميلة بوحيرد، دلال المغربي، زها حديد، أسمهان». ولكن من هم هؤلاء المنظمون؟ في عام 2006 تأسست أول أوركسترا سمفونية للفتيات السوريات تضم اليوم أكثر من 60 عازفة من جميع المحافظات السورية، وأطلق عليها تسمية «أوركسترا ماري». تهدف الأوركسترا، على ما يقول مؤسسوها، إلى «تطوير اللحن العربي وميزاته المتآلفة ضمن طابع إيقاعي تآلفي جديد، كما تقديم الألحان العربية بصياغة عصرية حديثة». 45 دقيقة من الموسيقى تحت عنوان «حُب ونساء» في «دار أوبرا دمشق» بقيادة مديرها المبدع رعد خلف، تخلّلها مرور العراقية بيدر البصري، التي غنّت لـ«اللحظة الجاي» ولـ«خد الحبيب» ولـ«الأجمل بين الوجوه». خارج «المسرح» حضورٌ من نوع آخر جاء للمشاركة في «الأيام السينمائية الصينية». تحضرُ الصين في مجالات مختلفة في الحياة السورية، بما فيها الفنية مواكبة للمرحلة المقبلة. ولكن هل يعلو صوت الموسيقى في دمشق على صوت المعركة في سوريا؟
فراس خليفة
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد