رواية "غريق المرايا" لإلياس فركوح: الخروج على المألوف وسؤال "الهوية"
الحديث عن هوية الجنس الروائي قَلـِق المعنى، يطمئن إلى اللغة لا إلى غيرها، منذ أن اتخذت الرواية من "الزمن الإنساني" مرجعاً لها. ولهذا يعالج التصوّر المدرسي "هوية الرواية" عن طريق السلب، فيمايزها عن الشعر والمسرحية والقصة القصيرة، مؤكداً أن لها صفات يفتقر إليها غيرها، وأن قوامها قائم في الزمن التاريخي الحديث الذي أنتجها. وقد يتجاوز التصور مدرسيّته، مشيراً إلى المتخيّل والنثر، وإلى جنس كتابي مرن يتسع إلى ما تقول به العلوم الاجتماعية، وإلى "وثائق" الحياة اليومية وعوالم الإنسان الداخلية.
جاء إلياس فركوح، الروائي المقيم في الأردن، كما يقول، في روايته الأخيرة "غريق المرايا"، بعمل مقلق إلى تخوم الاستفزاز، يجمع بين المألوف في الكتابة الروائية، وما هو غير مألوف فيها. وقف في الحالين أمام سؤال "هوية الرواية" ونفاه، أو عالجه بشكل ينفيه، واختار منظوراً لا يترك لهوية الإنسان، من حيث هو، مكاناً واسعاً. تطلّع الكاتب إلى "كون إبداعي" لا فواصل فيه، وإلى كون إنساني صادر عن فرديات متنوعة لا تقبل بالتجانس.
يظهر المألوف في "غريق المرايا" في متواليات حكائية، إذ لكل إنسان حكاية تفضي إلى غيرها، في انتظار الموت الذي يُخرج من لا نَسْل له من عالم الحكاية، ويستبقي غيرهم في حكايات الأولاد والأحفاد. ويتكشّف المألوف الروائي في تاريخ واسع المساحة 1940 ـ 2000 ـ مستدعياً فلسطين وعمّان وبيروت ومصائر مَنْ لا مراتب لهم، ومصائر آخرين كان لهم سلطة أو مرتبة، حال "هزاع المجالي" و"وصفي التل"، اللذين أجبرهما "الاغتيال" على مفارقة الحياة، والطبيبين الفلسطينيين جورج حبش ووديع حدّاد، اللذين مرّا على مدن كثيرة، وماتا ودفنا خارج فلسطين. اشتقت الرواية شخصياتها من زمن مأساوي طويل العمر، ضاعت فيه فلسطين وعلا صراخ الوحدة العربية وأشعل النار، لاحقاً، في بيروت وانتهى إلى خيبة لا يعترف فيها، عادة ، "تجّار الوعود".
إذا كان المألوف في رواية واضحة الجهد والطموح، تجلّى في فضاء حكائي يوحّد بين دلالة التاريخ وأقدار بشر أخطأوا ما وعدوا أنفسهم، فإن اللامألوف، الذي يثير فضول القارئ، يظهر في مواد غير حكائية تزامل النص من البداية إلى النهائية: الصور الفوتوغرافية الأقرب إلى الرسم، الذي تحيل على بلدان من العالم كله، موحية بوضوح الإنسان وغموضه، وبتوازن الوجود واضطرابه، وببعد ثالث يومئ إلى إبداع الإنسان وعجزه في آن. وإلى جانب اللوحات الفوتوغرافية، التي تصوّر الوجوه و "التماثيل"، يوجد ملصق سينمائي شهير يصرّح بالحب والرغبة، كان هناك ذات مرة فلم واسع الجمهور وصالة رحلت وممثل واضح الأناقة انطوى، وملصق إعلاني يعود إلى عالم 1928، مأخوذ من "أرشيف حيفا"، تتوسطه صورة "الآنسة أم كلثوم"، مقمّطة الرأس بشكل أنيق وتطفو على وجهها ابتسامة، جاءت إلى فلسطين كي تغني في حيفا، وكي "تُحيي حفلة على مسرح سينما عدن بالقدس"، حيث "الدرجة الأولى 530 ملاً والدرجة الثانية 430 ملاً، وللسيدات أمكنة خصوصية".
تثير المواد غير الحكائية فضول القارئ مرتين: فهو يستطيع قراءة النص بمعزل عنها دون أن يخسر شيئاً، وهو في اللحظة عينها مدفوع إلى السؤال التالي: هل تشكل هذه المواد تقنيات زخرفية صغيرة، أم أن فيها ما يفضي إلى غير ذلك؟ يعيّن الجهد البعيد عن العفوية "المواد الفنية" المضافة مدخلاً إلى قراءة منظور العالم عند إلياس فركوح، أكان ذلك داخل النص الروائي أم خارجه. فتلازم الكتابة والصورة الفنية، وفقاً للتشكيل الروائي، يحذف المسافة بين الصورة والكتابة، مصيّراً الصورة امتداداً للكتابة، ومعتبراً الكتابة تصويراً فنياً مختلفاً. ومع أن في الصور الفنية ما يوسع الرؤية ويمد النص الروائي بأبعاد جديدة، فإن المضمر والواضح معاً ماثل، على مستوى المعنى، في مقولة: النقص والوعي به، إذ الروائي يقول ما استطاع ـ أن يقول ـ ، محتفظاً بوطأة اللايقين، الذي يقصد التعدد ويتكئ عليه، هو الذي يحوّل عناوين الفصول والعناوين الثانوية الملحقة بها إلى وحدات فنية مستقلة بذاتها، كما لو كان لها أقوال خاصة بها، قبل أن تنفتح على ما يصرّح به "المتن الروائي" الموزّع على فصول متلاحقة. فعنوان الفصل الأول: "الغريق" الذي لن يحيل على ماء منتظر، يتلوه عنوانه الثانوي الذي يقول:"علّمته المدن الغريبة أن للمتروك في الظل كل الوقت من غير محاصصة"، ولن يكون ما يعقبه مختلفاً : "مرايا وكهوف"، حيث يشير عنوانه الفرعي: "الموتى لا ينطقون في مراياهم، الكهوف تبقى مسدودة مهما انفتحت". ومع أن في العنوانين، الأساسي والثانوي، ما يستدعي مصطلحاً مدرسياً هو: عتبة النص؛ فإن فركوح، المهجوس بالتعدد واللايقين، يجعل من مطالع النصوص الروائية وحدات متصلة ومنفصلة معاً، حال اللوحات الفنية التي هي رسم وكتابة، وحال الكتابة المتعددة المستويات، التي هي شكل آخر من التصوير.
الأسلون
يتعيّن اللافت واللامع في "غريق المرايا" بالوحدة الفنية بين القول الروائي والعناصر التي تبنيه، إذ اللايقين ماثل في الشكل قبل غيره، وإذ التعدد، الذي يترجم اللايقين، قائم في العلاقات الروائية جميعها. تنفي هاتان العلاقتان، على مستوى البنية، الهوية الروائية، مرجعة النص إلى جملة نصوص متوازية ومتقاطعة معاً، يحتمل السرد التاريخي الدقيق، الذي نقل سيرة هزاع المجالي ومصرعه، و"السيرة الذاتية الصوفية" المتقطعة التي تستهل بها الرواية، ومقاطع "متفلسفة"، مكتفية بذاتها، تخترق الفصول جميعاً، يمكن حذفها واستبقائها، وفقاً لوجهات النظر، وسيرة شوارع مدينة عمّان، "المدينة التي بنيت على عجل"، بلغة الراحل غالب هلسا. يساوي تفكك الهوية الروائية، بلغة معينة، تهجين الكتابة الروائية، بلغة أخرى، حيث النص الهجين إعلان عن الحرية، ونقض لنص روائي مفترض يتوهم الهوية وينتسب إليها، وحيث الكتابة المهجّنة احتفاء بالتجريب وتقصير للحدود بين أجناس كتابية وفنية متنوعة.
تعمل رواية "غريق المرايا"، بقصدية واضحة وعفوية مستريحة، على نقض دعوى "الهوية الروائية" مستبقية حيزاً وحيداً له هويته هو: الأسلوب. فلا وجود لأديب حقيقي من دون أسلوب في الكتابة، يخلقه ويتخلّق فيه، وينتج به، ومنه، القول الذي يريد، ذلك أن في الأسلوب ما يُخبر عن فكر الكاتب ونظرته إلى العالم. وواقع الأمر أن عمل فركوح يُقرأ كله في أسلوبه الذي يحوّل مواضيعه المختلفة إلى علاقات جمالية ترد إلى "أنا في الأسلوب" وتترجم بشكل "معدّل" منظوراً رومانسياً للعالم، يقول بالنقص ويتطيّر من الكمال. وبهذا المعنى، فإن القول بالنقص، الذي يلازم النظر إلى الوجود، تقابله، على مستوى الكتابة، "أنا متفردة" يمنحها أسلوبها الصفة التي تتعرّف بها. فكما أن الشاعر من الأسلوب الذي يكتب به قصيدته، فإن الروائي من الأسلوب الذي يكتب به "روايته". ولهذا لا تُقرأ رواية "غريق المرايا" في موضوعها العام، مهما تكن مقاصده، بل في طريقة الكتابة التي تقترح جملة معينة، وترتاح إلى كلمة دون أخرى، وتصوغ، في النهاية، "فكرة" جاء بها الفعل الكتابي، ولم تأت من خارجه. يصبح شكل الكتابة، في ذاته، منظوراً للعالم، مذكِّراً بأفضل عمل كتبه صنع الله إبراهيم، هو روايته الأولى: "تلك الرائحة"، حيث اقتصاد اللغة المتقشف، الأقرب إلى الصمت، احتجاج على مجتمع لا يسمح بتعدد الكلام. أما في رواية فركوح فإن اللغة، الممتدة من التواصلي اليومي إلى لغة مكتنزة طبقات مليئة بالإشارات، تصريح بحيرة الوجود، وبوجود "مبهم" مزيج من الصمت والإعلان.
نقضت رواية فركوح، على مستوى البنية، الهوية الروائية وعملت، على مستوى المادة الحكائية، على تقويض الإدعاء القائل بـ "هوية محلية" متسقة. فمكان الشخصيات موزّع على شيء من فلسطين، وعمّان، وبيروت، وحوران، وشيء من الصحراء التي تختصر البشر إلى عادات معدودة. تستضيف الأمكنة إنسان الرواية وتجرّده من طباع وتضيف إليه عادات لم يألفها. بل إن حكايات الرواية هي حكاية الالتباس الذي يزامل الشخصيات وينتقل معها، شاهداً على بشر تُعْطِبُ أقدارهم رغباتهم: فالجدة، في حضورها المحدود، تحكي عن زوج انبثق من الصحراء ورحل سريعاً، كما لو أن "ابنته" برهان وحيد عن وجوده، و"الابنة" التي ولدت في الصحراء وجاءت إلى المدينة، اقترنت بإنسان غادرها بعد أيام تاركاً ولداً يشهد بدوره على حكاية غائمة. تأتي كل شخصية من اتجاه لا يحتمل اليقين، وتشكّله طبقات من الانتقال، ويولد في مكان ويموت في مكان آخر، فالولد ذو الأصل الفلسطيني يولد في عمّان ويموت في بيروت، والسوري يولد في حوران ويعيش في حيفا ويموت في عمّان. ليست هوية الإنسان، التي تتبدّد في الطرقات، إلا ميلاده الذي لا شأن له به، وموته الأكيد الذي لا يذهب إليه مختاراً.
ومع أن الهوية التي هي افتراض موروث، تخترق الرواية بنية وخطاباً، فقد شاء الروائي أن يشخصن المعنى في شخصيتين: الولد الذي يفتش عن ملامح أبيه الغائب في صورة منشورة في صحيفة قديمة متآكلة الأطراف. والذي أورثه "شيخ من بخارى" مكتبة ومنزلاً قديماً، وتعرّف على بشر حسمهم الموت، وأم الولد، الخادمة المسلمة البسيطة، التي يقودها العشق إلى رسام أيقونات مسيحي يوناني. لا هوية خارج الموت والميلاد، وما بينهما فراغ تملؤه المصادفات، ذلك أن الهوية تبني ذاتها ولا تورّث. ولهذا يقول السارد، الذي ينوب في حضوره المستمر عن الشخصيات كلها: اسمي هو "أنا" والآخر "أنا" مغايرة، والهوية في "الإنساني"، المشتق من صفات البشر جميعاً، لا من "الإنسان" الذي هو كلمة مجردة. ولعل تكوّن الهوية في الطريق وتبدّدها في الطريق أيضاً، هو ما يبقي الموت ثابتاً وحيداً، يستدعي "الهويات" ويسخر منها في آن. للموت في الرواية أشكالاً مختلفة: بدوي تصرعه الطلقات، وآخر يذهب إلى "حرب مقدسة" ولا يعود منها، وامرأة شابة تموت مرضاً، وعجوز يرحل وحيداً في غرفته، وسائق يبغته الموت بينما يبول في الخلاء، ومقاتل شاب يخسر حياته في حرب خاسرة، والزعيم "أنطون سعادة" نصيبه الإعدام، ...
واجه الروائي "عبث الهوية" بيقين الموت، وأراد أن يسائل الموت بطموح الكتابة، التي تثبت آثاراً لا سبيل إلى ثباتها. تصدر عن هذا التصور جماليات الكتابة، أو ممارستها كفعل إبداعي جميل، ويصدر عنه انجذاب الروائي إلى جمالية القيم الإنسانية، المساوية بين الخير والجمال، وفعل الإنسان وروحه طاردة، ضمناً، التاريخ و"هالته"، ما دام تاريخ البشر من قيمهم. لن تكون هوية مدينة عمّان ، "المبنية على عجل" كما قال غالب هلسا، التي اجتهد الروائي في إبراز ملامحها، إلا قيم ساكنيها، ذلك أن المدن بأهلها، وأن المكان في ذاته لا يصرّح بالكثير.
ينطوي منظور "غريق المرايا"، التي استعانت بوثائق تاريخية، على بعد رومانسي لا التباس فيه، مرجعه إنسان يحتكم إلى "أناه"، ويرى البشر في "أناءاتهم" التي إنْ لحقها القبح والشر فسدت. وما "غريق المرايا" إلا إنسان خنقته هويات زائفة، على خلاف "الإنسان الناجي"، وهو السارد الحر، الذي يحرّره فعله من الهويات الموروثة.
في رواية إلياس فركوح ما يُذكِّر، من بعيد، برواية المصري إدوار الخرّاط، الذي واجه القبح بالجمال والدنس بالطهر، مرتكناً إلى بطولتين: بطولة "الإنسان الكامل"، الذي يعيش في الأرض ويستلهم السماء، وبطولة اللغة التي تدور حول ذاتها باحثة عن "معجزة". استعاض فركوح عن "الإنسان" بالإنساني، وجمع البطولتين في بطولة اللغة التي تعنى بالتفاصيل والكليات معاً مأخوذة، بلا انقطاع، بالنقص الذي يلازم المخلوقات جميعاً، وبـ "فتنة اللايقين" التي ترمم علاقة بأخرى، وملامح إنسانية بملامح مجاورة، ذاهبة إلى "لغز المتعدد"، الذي يقوّض البطولات جميعاً.
تطلع فركوح، بجهد معرفي وفني واسع، إلى مساءلة المألوف في الكتابة الروائية، محرراً الرواية من هوية مفترضة، ونافياً الهوية داخل النص وخارجه. قدّم في الحالين اقتراحاً طموحاً، وعمل على إنجازه بأدوات فنية متعددة.
"غريق المرايا" عمل يتسم بتكامله، يقترح منظورُه أدوات فنية تلبّي المنظور وتفيض عليه.
صدرت الرواية عن دار أزمنة، عمّان، والدار العربية للعلوم، بيروت، 2012. 240 صفحة.
فيصل دراج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد