ساركوزي بعد زيارة "الساعات الخمس"
الجمل: جاء الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي إلى العاصمة اللبنانية بيروت في زيارة استغرقت خمس ساعات رافقه فيها وفد ضخم من الشخصيات الرسمية والسياسية الفرنسية من اليسار إلى اليمين، على حد تعبير صحيفة الحياة اللبنانية، والتي أشارت أيضاً إلى مأدبة الغداء التي أقامها الرئيس اللبناني ميشيل سليمان والتي ضمت 14 شخصية لبنانية رسمية وسياسية، وبعد هذا التوصيف لوقائع الزيارة يبرز السؤال الأكثر أهمية والمتمثل في: ماذا حملت زيارة الخمس ساعات إلى لبنان؟
* الإليزيه: دبلوماسية لبنان أم دبلوماسية الشرق الأوسط؟
درجت الوسائط الدبلوماسية العربية على تبنى واعتماد واقع الدبلوماسية القطرية مع الأطراف الأوروبية بما في ذلك فرنسا، وبالمقابل من ذلك درجت الأطراف الأوروبية على اعتماد دبلوماسية التعامل الثنائي مع الأطراف العربية ضمن منظور الشرق الأوسط كما يعتمده ويؤكد عليه الإدراك الأوروبي. بكلمات أخرى، تتعامل الدبلوماسية الأوروبية ضمن الإطار الثنائي الجزئي مع الدبلوماسيات الأوروبية التي تتعامل مع العرب ضمن الإطار الثنائي الكلي.
بكلمات أخرى، حاول ساركوزي التعامل مع سوريا على خط دمشق – باريس، وكانت دمشق تركز على الإطار الموضوعي للعلاقة القائم على أساس اعتبارات تبادل المنافع بين الطرفين، ولكن تبين أن دبلوماسية ساركوزي كانت تركز على الإخلال بتوازن الأطر القيمية والبنائية لهذه العلاقة بهدف ابتزاز سوريا ومحاولة استخدامها كبروكسي للدبلوماسية الفرنسية إزاء لبنان، بما يلحق الأضرار بمصالح حلفاء سوريا اللبنانيين، ويعزز من منافع حلفاء أمريكا – فرنسا وغيرهم من الذين تمتدحهم صحف يديعوت أحرونوت وهاآرتس وأورشليم بوست يومياً.
* قصر الإليزيه: لعبة الدبلوماسية الشرق أوسطية إلى أين؟
تقول دراسة مركز أي سي إن السويسري حول السياسة الخارجية الفرنسية الراهنة بأن ساركوزي قد استلم إرثاً دبلوماسياً صعباً، لأن فرنسا قد فقدت نفوذها ووزنها المؤثر في السياسة الدولية خلال فترة ولاية الرئيس السابق جاك شيراك وقد كان ذلك في جزء منه بسبب حرب العراق التي خلقت التوترات على خط باريس – واشنطن، وفي جزئه الآخر بسبب رفض الرأي العام الفرنسي للدستور الأوروبي الموحد في الاستفتاء الذي تم إجراءه وهو أمر ترتب عليه تغيير الإدراك الأوروبي لفرنسا باعتبارها البلد المرشح لقيادة أوروبا في المستقبل.
عندما صعد ساركوزي إلى قصر الإليزيه كان طبيعياً أن يضيف الكثير إلى ضعف الدبلوماسية الفرنسية في الشرق الأوسط، وإذا كان شيراك خلال أعوامه الأخيرة قد لجأ إلى دبلوماسية مزدوجة تتحدث في جانبها المعلن عن دعم الحقوق العربية المشروعة في الشرق الأوسط وفي جانبها غير المعلن تتضمن الكثير من نظريات المؤامرة المشتركة على خط باريس – تل أبيب، فإن ساركوزي أعلنها صريحةً بأنه صديق وحليف إسرائيل الأول، وبأنه لن يتعامل مع الذين يرفضون الاعتراف بإسرائيل ووصل إلى تل أبيب مشاركاً في الذكرى الستين لقيام دولة إسرائيل التي ترتب عليها تشريد الشعب الفلسطيني من أراضيه وتحدث صراحةً بأن قيام دولة إسرائيل هو الحدث الأكثر أهمية في التاريخ العالمي خلال القرن الماضي!!
قصر الإليزيه الحالي كما هو واضح، لا يفرق بين دبلوماسية سوريا ودبلوماسية لبنان، وإنما يجمع الطرفين ضمن دبلوماسية سوريا – لبنان وإن كان ذلك يتضمن الصحة على أساس اعتبارات ووحدة الواقع الجيوسياسي والجيوثقافي السوري – اللبناني فإن الدبلوماسية الفرنسية ارتكبت خطأً فادحاً عندما قامت بتتبع خط دبلوماسية سوريا – لبنان لما يتم التفاهم والاتفاق عليه مسبقاً على خط باريس – تل أبيب – واشنطن وبكلمات أخرى تتعامل دمشق مع باريس بغض النظر عن علاقات باريس – تل أبيب ولكن عدم توازن العلاقة يأتي من جراء قيام باريس بالتعامل مع دمشق على أساس اعتبارات دبلوماسية باريس – تل أبيب، وهنا تكمن المشكلة، وهي ليست مشكلة دمشق التي تتمتع بالاستقلال في قرارها الدبلوماسي وإنما مشكلة باريس التي لم تعد قادرة على تجاوز تل أبيب فهل ستكسر باريس قيود تل أبيب وتعود مرة أخرى كما حررتها الثورة الفرنسية وكومونة باريس، أم ستذعن لقيود تل أبيب وترضخ للأجندة الدبلوماسية التي يلعب الكنيست الإسرائيلي والليكود الإسرائيلي وكاديما الإسرائيلي ومركز جافي الإسرائيلي وحزب شاس وغيرهم دوراً رئيسياً في وضع بنود مشروطياتها؟
* الأبعاد غير المعلنة لزيارة ساركوزي:
بسبب تفاهمات خط باريس – تل أبيب – واشنطن كان طبيعياً أن تكون لزيارة الساعات الخمس الساركوزية الكثير من الأبعاد والأجندة غير المعلنة:
• تنقل ساركوزي خلال الغداء بين طاولات أقطاب مؤتمر الدوحة، والمعلن هو أن فرنسا مع الجميع ولكن غير المعلن يتمثل في ماذا قال ساركوزي لكل واحد منهم، وما هي أجندته إزاء كل طرف من الأطراف اللبنانية، وهل تخلى ساركوزي عن التمييز بين توجهات 14 آذار و8 آذار وقرر التخلي عن إدراك تنل أبيب وواشنطن الذي مازال يميز بين الطرفين أم أن ساركوزي يحاول التمهيد للجولة القادمة من اللعبة.
• أشار ساركوزي في أحاديثه إلى أنه اتصل بالرئيس السوري بشار الأسد التزاماً بالعهد الذي سبق أن قطعه في حالة تسهيل سوريا انتخاب الرئيس اللبناني الجديد وهو المعلن، أما غير المعلن فيتمثل في عدم قدرة ساركوزي على الإيفاء بالتزامات العهد الذي قطعه على نفسه بشكل يجسد الإيجابية الحقيقية، وإذا استطاع ساركوزي أن يحرر دبلوماسية الإليزيه الشرق أوسطية من نفوذ محور تل أبيب – واشنطن فإنه بلا شك سيدرك الحقيقة الواضحة التي تقول بأن الدبلوماسية السورية تقوم بتنفيذ التزاماتها دون انتظار مكافأة من أحد، وذلك ببساطة لأن دولة في مركز سوريا تملك عقلاً دبلوماسياً قادراً على التقاط الإشارات الدبلوماسية وفك شفراتها ومعرفة أن ساركوزي الذي يقدم الوعود هو نفسه واقع فريسة وعود جورج بوش المتكررة بفضح تدفقات رأس المال الأمريكية المباشرة وغير المباشرة بما يتيح لقصر الإليزيه إخراج الاقتصاد الفرنسي من محنته القاسية والهزة التي تعرض لها من جراء إضرابات عمال السكة الحديدية. وبالتالي فإن دمشق تفهم جيداً أن ساركوزي لن يستطيع التحرك بإيجابية إزاء سوريا إذا لم يجد موافقة محور تل أبيب – واشنطن.
* ساركوزي: إدارة الأزمة اللبنانية إلى أين؟
يعتبر الرئيس ساركوزي نفسه حليف الولايات المتحدة الرئيسي والفاعل السياسي الأول في قصر الإليزيه ويعد الفرنسيين بأنه القائد ورئيس الجمهورية الذي سيجعل من فرنسا بمثابة الولايات المتحدة في أوروبا، ولكن رغم ذلك، لم تكف جماعة المحافظين الجدد عن مواصلة لعبة الكيل بمكيالين، حتى في مواجهة ساركوزي حليف إسرائيل الأول في أوروبا، طالما أنه رئيس فرنسا، وبهذا الخصوص فقد كتب مفكر جماعة المحافظين الجدد اليهودي الأمريكي ريتشارد بيرل خلال الشهرين الماضيين مقالاً مشهوراً نشره الموقع الإلكتروني لمعهد المسعى الأمريكي طالب فيه الإدارة الأمريكية بالآتي:
• عدم اعتبار فرنسا بلداً صديقاً لأمريكا مهما يكن الأمر.
• عدم اعتبار السعودية بلداً صديقاً لأمريكا مهما يكن الأمر.
ويرى بيرل بأن مشاعر الدفء والصداقة التي تصل إشاراتها من باريس والرياض ويلتقطها يومياً البيت الأبيض الأمريكي هي إشارات واهية، وذلك لأن الإسلام سيبقى في السعودية ولأن نزعة القومية الفرنسية ستظل باقية في فرنسا وعلى واشنطن أن تضع في اعتباراتها تلك الحسابات.
يستخدم قصر الإليزيه دبلوماسية الشرق الأوسط وتحديداً دبلوماسية باريس إزاء سوريا ولبنان كوسيلة للتقارب مع واشنطن دون أن يدرك الإليزيه بأنه مهما قدم من تنازلات سياسية لواشنطن فإن وجهة نظر "أمير الظلام" ريتشارد بيرل لن تكون غائبة عن ذهن ستيفن هادلي وإبليوت إبراهام وديك تشيني وغيرهم من الذين يمسكون بخيوط صنع واتخذا القرار الأمريكي.
سبق أن تفاهمت دمشق وباريس حول لبنان وبعد ذلك بيومين تحدث ساركوزي في القاهرة معلناً تخليه عن تفاهمه مع دمشق. والآن بعد أن دعمت سوريا انتخاب الرئيس اللبناني الجديد هل سيتحرك ساركوزي باستقلالية وإيجابية تجاه دمشق أم أنه سيطرح المزيد من المشروطيات التي بالتأكيد ستكون إدارة بوش قد أرسلتها ضمن بريد "عبر الأطلنطي" إلى باريس؟
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد