سعاد جروس :منزل الشجعان
الجمل ـ سعاد جروس : في أكثر من لحظة, ونحن نشاهد الفيلم الاميركي «منزل الشجعان», لا بد من ان يشدنا الطرح الإنساني لمعاناة الجنود الأميركيين العائدين إلى بلادهم من حرب العراق. في فيلم كهذا يحمل إدانة إنسانية صارخة للحرب, لا بد لنا أيضاً من التعاطف معهم, لكنها لحظة سريعة وخاطفة, ستكون لا محالة بمثابة خيانة لمشاعر الحقد والغضب جراء المآسي التي يتعرض لها الشعب العراقي. ففي هذا الفيلم للمخرج إيروين وينكلر والذي يلعب دور البطولة فيه صمويل جاكسون نحن أمام قصة لثلاثة جنود أميركيين تم وصفهم في الفيلم بـ«جنود شباب شجعان خائفين» يشاركون في مهمة أخيرة قبل عودتهم إلى الوطن, توصف بأنها «إنسانية», هي إيصال مساعدات إلى قرية قريبة من النجف, تتعرض مركباتهم حين يدخلون إليها لهجوم كثيف من قبل مسلحين, ويموت بعض رفاقهم في الاشتباكات, وتفقد مجندة كف يدها اليمنى, في انفجار استهدف مركبتها وهي تحاول الهرب.
المشاهد الأولى في الربع الأول من الفيلم, تعطي نموذجاً لما يواجهه جنود الاحتلال في العراق من رعب مهيمن وقتل عشوائي تذهب ضحيته النساء والأطفال في معارك مباغتة ينبع فيها النار من قبور الأموات, قبل نوافذ بيوت الأحياء, ليكون الموت رحمة في أرض يتسيد فيها الخراب لاغياً ملامح الحياة. تؤسس هذه المشاهد لما سيسرده الفيلم عن حجم الدمار النفسي الذي تخلفه الحرب داخل طبيب عسكري فشل في إعادة الحياة لجرحى من الجنود, وإذا نجح في شيء, فلا يتجاوز بتر أطرافهم المصابة. وتظل تلك الصور الفظيعة تروعه كل ليلة وتكاد تدفعه إلى الجنون, فيدمن الخمر, ويدخل في صراع مع زوجته ويتهمها بأنها كغيرها من الأميركيين الذين يسألون عما تعرضوا له هناك كشيء روتيني, أما التفاصيل فيريدونها نظيفة. كما يعجز عن مناقشة ابنه المراهق الرافض للحرب, فلا يتمكن من دحض اتهامه بأنهم ذهبوا الى العراق للسيطرة على النفط ولا شيء آخر, فيما هو يصر على أنه كان هناك دفاعاً عن الوطن, لكن أي وطن وأي معركة خاسرة!! كذلك المجندة التي عادت مبتورة الكف محملة بمشاعر الكراهية على الأميركيين الذين لا يهتمون لحقيقة ما يجري في العراق, وتغضب عندما يعرضون عليها مساعدة للحصول على كف اصطناعي تُمكنها من صيد السمك, فيما هي بحاجة الى كف تصفع به ابنها وطلابها في النادي. المجند الثالث رجع بجثة رفيق عمره وبعض أشيائه الخاصة التي أوصى بتسليمها الى صديقته, عبارة عن صورة وحرز أهداه له طفل عراقي. تسأله صديقة المتوفى, كنت أظنهم يكرهوننا. فيجيب, ليس جميعهم. وفيما يفشل بالعثور على عمل يسقط في أزمة نفسية خانقة, ويشعر رغم مساعدة عائلته وجلسات الاستماع النفسي, أنه غريب في مجتمعه البعيد عما يجري في العراق, وأنه لم يعد يجيد أي عمل آخر غير القتال, فيقرر العودة بعد صدمة مريعة يتعرض لها جراء موت رفيقه على يد الشرطة الأميركية, ثم يصاب بعاهة دائمة في الظهر تدفع صديقته لهجره, بالإضافة إلى فشله بالحصول على مساعدة حقيقية تمكنه من العيش, فيرفض المساعدة النفسية ويلجأ إلى عملية احتجاز رهائن يقتل خلالها في مشهد مؤثر.
فيلم «منزل الشجعان» لا يختلف في مضمونه عن مئات التقارير الصحفية الأميركية التي تسلط الضوء على المعاناة الإنسانية للجنود «الشجعان», فهؤلاء بشر من لحم ودم لديهم أصدقاء وصديقات وزوجات وأصحاب أفكار ومشاعر. ومع أن تلك الأفلام والتقارير لا تدين العراقيين مباشرة, بل تلقي بعض المسؤولية على السياسيين, لكنها ترسم صورة غاية في النبل الأخلاقي للجندي الأميركي, لا يملك حيالها المشاهد الا الحقد على الخصم أو «العدو» العراقي الذي تعددت تسمياته «ارهابي مسلح متمرد» ليبدو وكأن العراقيين هم من يحتلون أميركا ويقتلون الجنود الشباب الشجعان الذين يدافعون عن وطنهم!!
البلية أن أي إدانة لهذه الأفلام المناهضة للحرب, لن تكون سوى تعبير عن بؤس العاجز, فحين لا تستطيع الدول العربية مجتمعة إنتاج فيلم واحد على مستوى عالمي ينقل وجهات النظر العراقية والعربية حيال ما يجري, لا نستطيع لوم الآخر لقدرته على ذلك, وببراعة تجعله يؤثر في الرأي العالمي عميقاً وفينا نحن أيضاً. فتدمع العين على صديقة الجندي وهي تقلب أشياءه الخاصة, وننسى في هذه اللحظة الإنسانية أكثر من نصف مليون عراقي تحولوا إلى أشلاء, وكأنهم ليسوا بشراً وليس لديهم آباء وأمهات وأطفال وحبيبات... بل كأنما ولدوا ليكون وقوداً لحرب أميركية مجنونة!!
المؤسف أن غياب سينما عربية لديها القدرة على الإقناع, تعنى بقضايانا الوجودية ليس لقصر ذات اليد. إن جزءاً بسيطاً مما ينهب من ثروات العراق كاف لإنتاج مئات الأفلام, هذا إذا لم نذَّكر بالأموال المهدورة في قنواتنا الفضائية التتفيهية. المشكلة المستعصية هي غياب سياسات عربية تسمح بعرض وجهات نظر متضاربة تظهر في أفلام رفيعة المستوى, من دون التدخل لتعقيمها ومسخها وتفريغها من جدليتها لمصلحة تلميع فكرة وطنية أو قومية, أو عدم إحراج أحد الأنظمة, أو فلان من الأصدقاء العرب أو الدوليين, لا نستثني منهم إسرائيل التي صار لها في كل عرس للسينما العربية قرص, فتحتج وتعترض وكأنها من أهل البيت, وتمون على رقاب العرب لتملي عليهم ما تريد من تصحيح لمعاني الإرهاب ونبذ الصراع معها... فالاجتهاد والجدال والرأي السياسي ممنوع في وسائل الإبداع الجماهيرية العربية. ولم ننس بعد ما تعرض له مسلسل «الطريق إلى كابول» حين قامت الدنيا ولم تقعد من تنظيم القاعدة, مروراً ببعض الأنظمة وحتى أميركا, الجميع استنفروا لوقف العرض, بينما سمحت إدارة بوش لفيلم مايكل مور 11 9 فهرنهايت بحصد 120 مليون دولار في دور السينما بأميركا وكندا !!
«منزل الشجعان» يصح ليكون اسماً لفيلم عربي يحكي قصة ضياع المال العربي والخراب الفكري الذي عممته عمداً وقسراً, أنظمة استطاب لها نقر العصا على الرؤوس الخاوية, كأبلغ رنين يعبر عن خواء لا يشغله سوى فوضى الضجيج المبدع لتلاوين نظريات ميتة, إن لم تكن هدامة.
بالاتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد