سورية في الأجندة الإسرائيلية
تمثل سورية بتاريخها السياسي هاجساً دائماً لدى العقل الإسرائيلي لا باعتبارها حليفاً عقائدياً لإيران أو داعماً سياسياً لـ «حزب الله» لكن أيضاً لأسباب بشرية وجغرافية جعلت من ذلك القطر العربي مصدّاً طبيعياً لأطماع الدولة العبرية ومخططات ساساتها منذ أكثر من خمسة عقود. وعلى رغم أننا نسلم بأن المثلث المقلق لإسرائيل يبدأ من طهران ويمر بدمشق ليصل إلى «حزب الله» إلا أننا نظن أن سورية تبقى همزة الوصل لكل القوى القومية المتشددة تجاه سياسة العدوان والتوسع التي تنتهجها الدولة اليهودية خصوصاً في السنوات الأخيرة بعدما سقط الاتحاد السوفياتي، وغاب الشارع العربي أو كاد، كما سبق ذلك كله تحولات جذرية في علاقات دول الجوار بإسرائيل بعد اتفاقيتي السلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن، ولكي نفصل ما أجملناه فإننا نطرح القضية من خلال المحاور الآتية:
- أولاً: إن الواقع «الجيوسياسي» للدولة السورية واستقراء تاريخها الطويل يؤكد أنها كانت هدفاً أولياً للغزوات الاستعمارية والتدخلات الأجنبية لأنها بوابة الشمال الشرقي للمنطقة العربية فضلاً عن أنه توجد لدول الشام أو سورية الكبرى جاذبية خصوصًا لدى الطامعين والمغامرين باعتبارها الأرض التي جاءت إليها وخرجت منها وعاشت فوقها الديانات السماوية الثلاث، فقد عرفت اليهودية مبكراً واحتضنت السيد المسيح منذ ولادته كما قامت في دمشق - أقدم مدن الشرق الأوسط - بعد ذلك أول دولة للخلافة الإسلامية عندما سيطر الأمويون على الإرث الروحي والفكري والسياسي لنبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم).
- ثانياً: لقد شهدت سورية ومنطقة الشام الكبير كلها من الاضطرابات والتقلبات ما جعلها دائماً بؤرة للاهتمام ومركزاً للمواجهة فعلاقات هذه المنطقة بالخلافة العثمانية طويلة ومتداخلة وخضعت لعمليات شد وجذب إلى أن بلغت حدودها القصوى قبيل انهيار الخلافة العثمانية وموت «الرجل المريض» على يد أتاتورك بعد أن وصلت المأساة إلى ذروتها بمشانق جمال باشا في دمشق، لذلك فإن سورية لم تكن أبداً ذلك البلد الضعيف أو الوديع الذي يستسلم لمقتضيات الجغرافيا والتاريخ ولكنها عاشت دائماً بمنطق سياسي ذكي يدرك مفهوم المكسب والخسارة في العلاقات الإقليمية والدولية لأن السوريين عملوا منذ فجر التاريخ في التبادل السلعي ومع قوافل البيع والشراء وتعلموا منها فنون التفاوض وأساليب تحقيق الهدف.
- ثالثاً: إن العقل السوري الذي عرف التجارة مبكراً هو من أكثر العقول العربية تمرساً بأصول الجدل السياسي والحوار الفكري والتشدد التفاوضي وهو عقل لا ينسى بطبيعته الحسابات العلوية في علاقته بالآخر بل إنني أظن أن لواء الاسكندرونة المغتصب لا يزال قابعاً في الذاكرة السورية وقد يستيقظ عند اللزوم كما أن سورية التي تبنت في القرنين الأخيرين كل الأطروحات القومية والشعارات العربية يصعب عليها أن تخرج عن النص أو تبتعد عن السياق فهناك ثوابت تقليدية تحكم حركتها وتضع إطاراً لأسلوب تعاملها مع الواقع الإقليمي في كل مراحله، كما أن السوري قومي بفطرته عربي بطبيعته فلو أنك سألت مصرياً في أحد شوارع القاهرة عن هويته لقال لك إنني مصري مسلم أو مسيحي ثم يشير بعد ذلك إلى عروبته، أما السوري فإذا سألته فسيقول لك أنه عربي من سورية وقد يشير إلى ديانته بعد ذلك، فالهوية القومية لدى السوريين تسبق الهوية الدينية وتجعل ارتباط ذلك الشعب العربي بقضايا الأمن القومي ارتباطاً أكثر حساسية من باقى شعوب المنطقة.
- رابعاً: إن علاقات الدولة السورية بأوروبا الشرقية وخصوصاً الاتحاد السوفياتي السابق كانت دائماً علاقات تتميز بالخصوصية والاهتمام المشترك لذلك كانت «موسكو» داعماً تقليدياً للسياسات السورية سواء كان ذلك في الحرب أو في السلام ولا شك أن انهيار الاتحاد السوفياتي وجه ضربة قوية للموقف العربي عموماً تجاه إسرائيل ولكن القطر السوري اختص بالنصيب الأكبر من ذلك التأثير السلبي مع أن الملاحظ أن دمشق لم تغير مواقفها النظرية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عن ما كانت عليه قبله وظلت تبحر بصعوبة في بحر الأمواج المتلاطمة خصوصاً بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 وهو ما يعني أن الموقف السوري ظل على تمسكه بالثوابت وإن كان اتجه إلى بعض المرونة في العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً في مسعى دمشق الى رفع اسم سورية من قائمة الدول الداعمة لما يسمى بالإرهاب لأنها تؤي منظمات عربية فلسطينية تسعى لتحرير الأرض العربية والفلسطينية المحتلة وترفع شعار المقاومة في وجه الانتهاكات الإسرائيلية ولكن ذلك لم يمنع أبداً البراعة السورية من أن تقيم جسوراً للحوار مع واشنطن خصوصاً في ما يتصل بالقضايا السياسية والأمنية. ولقد استمعت ذات مساء إلى السفير الأميركي المعروف ساترفيلد، والذي كان سفيراً لبلاده في بيروت ثم مبعوثاً في المنطقة بعد ذلك، سمعته يشيد بالتعاون الأمني بين دمشق وواشنطن بعد أحداث أيلول 2001 وكان حديثه أثناء عشاء دعانا إليه السفير الأميركي السابق في القاهرة على شرف زميله الذي كان يقوم بجولة بين عدد من دول المنطقة.
- خامساً: إن مرحلة الانقلابات العسكرية التي شهدتها سورية مع نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن الماضي تشير في مجملها إلى حالة التسييس المستمرة والمستقرة في أعماق السوريين - عسكريين أو مدنيين - ونحن نظن أن المزاج السوري برغم قوميته المفرطة إلا أن حساباته تقوم على سياسة النفس الطويل وإمكانية التفاوض عبر فترة زمنية ممتدة لا يستعجل فيها القرار ولا يقبل بأى حل وهو أمر يزعج الدولة العبرية ويجعلها تستهدف سورية وتضعها في موقع خاص من أجندة سياساتها في المنطقة، وستظل علاقة دمشق بـ «حزب الله» مصدر إزعاج لا يتوقف لدى إسرائيل إذ أن «حزب الله» قوة ذات إطار عقائدي وتنظيمي تسعى لتحرير الأرض من مواقعها المباشرة وقايضت بالفعل الدولة الإسرائيلية برفات القتلى وعشرات الأسرى كما أنه يصعب نظرياً دمغ ذلك الحزب بصفة الإرهاب لأنه يمارس نشاطه العسكري من فوق أرضه ويعرف متى وكيف يوجه ضرباته. ولقد استقبلت شخصياً غداة 11 أيلول 2001 البرلماني الإيراني السيد محتشمي الذي كان زعيماً لكتلة الإصلاحيين ووزيراً سابقاً للداخلية وسفيراً لبلاده في دمشق عندما فقد عدداً من أصابع يده في رسالة مفخخة وصلت إليه باعتباره أحد الآباء المؤسسين لـ «حزب الله»، وقال لي الرجل يومها أنه يعزي الشعب الأميركي في ذلك الحدث المأساوي ويدين الإرهاب العشوائي لكنه يدعم وبغير حدود الكفاح الوطني المسلح خصوصاً للشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، وكنت أدرك يومها أن حادثي نيويورك وواشنطن سيجران على المنطقة ويلات كثيرة ويضربان النضال المشروع للشعوب من أجل الحرية ويخلطانه بالحرب ضد الإرهاب.
- سادساً: إن العلاقات السورية - اللبنانية خصوصاً منذ استشهاد الشيخ رفيق الحريري أصبحت مبرراً للضغط على سورية ولبنان في وقت واحد وفتحت أبواباً للخلاف بينهما على نحو يجرى استثماره من جانب قوى أخرى بشكل فاعل ومؤثر ولقد حان الوقت الذي يجب أن نركز فيه على ضرورة التعامل مع هذه العلاقات الوثيقة في إطارها ومن دون الخروج بها كي تصبح أداة في الصراع العربي الإسرائيلي كله، وأنا ممن يؤمنون بأهمية سيادة القرار اللبناني ويعتقدون أيضاً بضرورة المحافظة على الموقف السوري في إطار النزاع الدائم داخل المنطقة ولست أظن أن هناك من يجادل في مشروعية مواجهة إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل في الفترة الأخيرة على نحو غير مسبوق تشير كل الدلالات إلى احتمال استمراره وتصاعده.
- سابعاً: تمثل العلاقات السورية الإيرانية مشكلة مقلقة لا بالنسبة الى اسرائيل والولايات المتحدة الأميركية والغرب عموماً لكن أيضاً بالنسبة الى بعض السياسات العربية حيث يجرى التخويف الشديد من الخطر الإيراني ولو على حساب التهوين من الخطر الإسرائيلي وسورية تقف بين الخطرين - المستبعد والمؤكد - على أرضية قومية قد تحتاج منها إلى جهد كبير لفك الاشتباك في هذه المسألة التي تجعل الدور السوري أكثر صعوبة أحياناً وتصور موقف دمشق دائماً وكأنه موقف غير واضح في ظل تداخل القوى واختلاط الأوراق عبر السنوات الأخيرة... إنني أريد أن أقول من هذه السطور أن إسرائيل تضع سورية في موضع خاص من أجندتها السياسية والعسكرية وتسارع إلى توجيه الاتهامات إليها لأسباب تخلق بها المبرر لمحاولة فرض العزلة على النظام السوري وتصوير «دمشق» وكأنها تعيش في مناخ سياسي مختلف ولعلنا نتذكر أنه عندما اختطف المقاومون الفلسطينيون جندياً إسرائيلياً سارعت الأخيرة إلى اتهام سورية! ألم نقل منذ البداية أن لسورية مكاناً منفرداً لدى صانع القرار في الدولة العبرية؟
مصطفى الفقي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد