سيناريو الصراع التركي بين العلمانيين والإسلاميين
الجمل: تزايدت موجة التحليلات والدراسات الغربية الأمريكية والغربية، حول الانتخابات الرئاسية التركية الجارية حالياً، وقد أجمعت كل التحليلات داخل وخارج تركيا، بأن هذه الانتخابات الرئاسية، تمثل نقطة تحول هامة سوف تترتب عليها انعطافة حاسمة في الوزن الإقليمي والدولي الذي ظلت تلعبه تركيا في السياسة العالمية والإقليمية.
الوزن الجيوبولتيكي لتركيا
الدول مثل الأشخاص، لها وزن وكاريزما، وعادة ما تتم معايرة حضور الدولة إقليمياً ودولياً على أساس اعتبارات ما يعرف بالقوام الاستراتيجي الذي يقوم على عناصر قوى الدولة: الاقتصادية، العسكرية، الاجتماعية، الطبيعية، التكنولوجية، والسياسية. وعند تطبيق هذه المعايرة على تركيا فهي تتميز بالعناصر الأربعة الآتية.
- قوة اجتماعية: وذلك لأن عدد سكانها يبلغ حوالي 75 مليون نسمة.
- قوة عسكرية: وذلك لأن الجيش التركي يعتبر من الجيوش الكبرى القوية في المنطقة من حيث العدد والعناصر.
- قوة سياسية: وذلك بسبب ارتباط تركيا بالتحالفات العالمية الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وحلف شمال الأطلنطي.
- قوة طبيعية: وذلك لأن موقع تركيا يتميز بحساسيته الفائقة إزاء منطقة القفقاس شمال وجنوب أوروبا، ومنطقة شرق المتوسط (العراق وسوريا) جنوباً، وإيران في الجنوب الغربي، وبلدان آسيا الوسطى.
إشكالية الأمن السياسي التركي
ترتبط السياسة الداخلية بالأمن السياسي الداخلي، وترتبط السياسة الخارجية بالأمن السياسي الخارجي، ومن الصعب الفصل بين الأمن السياسي الداخلي والخارجي وذلك لارتباط الاثنين بما يعرف بتوازن الدور والمكانة.. فالسياسة الخارجية تمثل سلوك الدولة في علاقاتها مع الكيانات السياسية الأخرى الموجودة في النظام الدولية.
وبتطبيق هذا الأمر على تركيا نلاحظ الآتي:
- اكتسبت تركيا مكانتها القوية في الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى الآن، بتقديم المزيد من التسهيلات لأمريكا والغرب خلال فترة الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي.
- انضمت تركيا بشكل مبكر لحلف شمال الأطلطني (الناتو).
- ظلت تركيا تقوم بدور القاعدة العسكرية والاستخبارية الأمنية المتقدمة لأمريكا وحلفائها.
- دعمت تركيا ترابطها مع أمريكا والغرب عن طريق ترابطها مع إسرائيل.
- استخدمت ووظفت النخب التركية مفهوم العلمانية، كمبرر لتجاوز نسق القيم الشعبي التركي القائم على العقيدة الإسلامية السنية.
السير في طريق العلمانية من جانب الدولة التركية، ونمو الإسلام السني السياسي، أوصل تركيا إلى نقطة حرجة أدخلت تركيا في نفق إشكالية الأمن السياسي، والذي بدأت مواجهاته تتضح وتبرز أكثر فأكثر، فحزب العدالة مسنوداً بأغلبية الشعب التركي الذي ينتمي إلى الإسلام السني.. أصبح يقف في مواجهة المؤسسة العسكرية التركية، حامية العلمانية مسنودة بالنصوص الدستورية، وبالأقليات التي فقدت رصيدها في الشارع التركي خلال الفترة السابقة.
توازن الدور والمكانة
مكانة تركيا كقاعدة أمريكية متقدمة، أعطتها السند القوي لكي تحاول القيام بدور في منطقتي الشرق الأوسط والأدنى، وظلت الحكومات التركية تستخدم الاعتبارات المتعلقة بالسياسة الخارجية في علاقاتها، ضمن الأطر الجهوية الآتية:
- العلاقات التركية- الأوروبية: تعزيز الروابط الثنائية ودعم الأمن الأوروبي.
- الاتحاد الأوروبي: السعي من أجل الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي.
- العلاقات التركية- الشرق أوسطية: دعم السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والتعاون اللامحدود مع إسرائيل.
- العلاقات التركية- الأمريكية: التعاون الاستراتيجي اللامحدود مع الولايات المتحدة الأمريكية.
- العلاقات التركية- القفقاسية: وتحاول تركيا العمل في منطقة القفقاس كقوة إقليمية موازنة لروسيا.
- علاقات تركيا- بلدان آسيا الوسطى: وتعتبرها تركيا منطقة نفوذ تركي، وحالياً تحاول تركيا إدماج بلدان هذه المنطقة ضمن دائرة النفوذ التركي الاقتصادي، الاجتماعي، والسياسي.
العملية السياسية ونقاط القوة والضعف
يقوم النظام السياسي التركي على أساس مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية، التشريعية، والقضائية والتعددية الحزبية الليبرالية، وفقاً لنظام دستوري ينص على أن القوات المسلحة التركية تمثل حامي العلمانية كمبدأ أساسي دستوري للدولة التركية، الأمر الذي أعطى المؤسسة العسكرية حق ممارسة الفيتو، عن طريق التلويح باستخدام القوة أو استخدامها الفعلي في حالة عدم التزام الحكومة بالتوجهات العلمانية.
ومن أبرز السوابق الدالة على ذلك في الماضي، القرار الدستوري الذي أبطل شرعية حزب الرفاه ونشاط زعيمه نجم الدين أربكان، وبرغم ذلك فقد قام أتباع أربكان، عبد الله غول، ورجب طيب أردوغان بتأسيس حزب العدالة والتنمية (AKP)، والذي استطاع السيطرة على السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية تحت يد هذا الحزب، وفقط تبقت لهذا الحزب السيطرة على رئاسة الجمهورية، لكي يكمل سيطرته على السلطة القضائية والقوات المسلحة.
بسبب توجهات حزب العدالة والتنمية المرتبطة بقاعدة الإسلام السني التركي، وما هو أهم مواقفه إزاء الصراع العربي- الإسرائيلي والوجود الأمريكي في العراق، والعلاقات المنفتحة مع الدول العربية وبلدان آسيا الوسطى، أصبحت الإدارة الأمريكية، وإسرائيل وحلفاؤهما الغربيين ينظرون إلى سيطرة حزب العدالة والتنمية على مقاليد الأمور في تركيا باعتبارها نقطة البداية المؤدية لقيام تركيا بإدارة ظهرها لأمريكا وإسرائيل والغرب.. وبسبب التأييد الذي يتمتع به حزب العدالة والتنمية وحلفاؤه داخل تركيا، فقد بدأت المؤسسة العسكرية تلميحاتها باستخدام فيتو العلمانية ضد النظام القادم، وفي الوقت نفسه مارست أمريكا والاتحاد الأوروبي وبلدان غرب أوروبا لعبة مزدوجة إزاء تركيا، فهم من يدعمون الخيار الديمقراطي في تركيا، ومن جهة أخرى يريدون تدخل الجيش من أجل القضاء على إرادة الأغلبية، على النحو الذي يترتب عليه إغلاق ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي من جهة، ووضعها من الجهة الأخرى تحت السيطرة الأمريكية الكاملة، القائمة على عسكرة الدولة والمجتمع التركي، تحت ذرائع حماية العلمانية، والقضاء على الخطر الكردي.
العلاقات مع سوريا وإدارة الفرص والمخاطر:
ترتبط تركيا بعلاقات عميقة مع سوريا وذلك وفقاً للمفاصل الآتية:
- اقتصادياً: تتدفق حركة السلع والخدمات بانتظام بين تركيا وسوريا، كذلك تعتبر سوريا ممر ترانزيت لحركة السلع التركية إلى الأردن ولبنان والسعودية وبلدان الخليج العربية.. كذلك تقوم سوريا بإمداد السوق التركي بالكثير من السلع والخدمات.
- اجتماعياً: ترتبط الجماعات الاثنية والطائفية السورية بتركيا، وذلك على أساس ظاهرة الامتداد الاثني- الطائفي العابرة للحدود التركية- السورية.
- سياسياً: ظلت العلاقات السورية- التركية تخضع للكثير من التقلبات خاصة في مرحلة الحرب الباردة، وكانت الحكومات التركية أكثر تورطاً في القيام بدور الوكيل (أو البروكسي) الذي يمارس الضغوط نيابة عن أمريكا وإسرائيل والغرب ضد سوريا، وأبرز الملفات التي ظلت الحكومات السابقة تستخدمها: ملف المياه وملف الأكراد.
بعد وصول وسيطرة حزب العدالة والتنمية إلى البرلمان ومجلس الوزراء التركي، أصبحت التوجهات التركية إزاء سوريا أكثر انفتاحاً، إضافة إلى أن المواقف التركية إزاء قضايا الشرق الأوسط أصبحت أكثر اعتدالاً، وحالياً، فإن سيناريوهات إدارة الفرص والمخاطر من جانب تركيا إزاء سوريا:
• سيناريو سيطرة حزب العدالة والتنمية على السلطة: سوف يترتب عليه إتاحة المزيد من الفرص إزاء تركيا للاستفادة من توسيع هامش علاقاتها مع سوريا خاصة وأن استقرار العلاقات التركية- السورية يفتح المنطقة الجغرافية العربية بالكامل أمام تدفقات حركة السلع والخدمات التركية إلى الأسواق العربية، إضافة إلى معدلات تدفقات رأس المال غير المباشرة مثل الأموال والسندات الاستثمارية العربية التي سوف تزداد في الأسواق التركية، التي تعاني حالياً من ضعف الاستثمارات الأوروبية والأمريكية غير المباشرة.
• سيناريو الصراع التركي- التركي: وهو سيناريو (الوسط) وسوف يترتب على هذا السيناريو احتدام الخلافات بين المؤسسة العسكرية وحلفائها من جهة، وحزب العدالة والتنمية والأغلبية الشعبية المؤيدة له، وداخل تركيا سوف يترتب على هذا السيناريو تزايد العداء لأمريكا وإسرائيل والاتحاد الأوروبي باعتبارهم المسؤولين عن دعم تدخل المؤسسة العسكرية التركية في التطورات السياسية، وبالنسبة للعلاقات مع سوريا، فسوف لن تجد أولوية في اهتمامات الأطراف التركية بسبب انشغالها بالصراع الداخلي.
• سيناريو إقصاء حزب العدالة والتنمية: وهو السيناريو (الأسوأ)، وذلك لأنه يحرم الأغلبية التركية من ممارسة حقها في الحكم، ويسمح لقوى الأقلية السياسية التركية بالصعود إلى سدة الحكم بدعم المؤسسة العسكرية وأمريكا وإسرائيل، وسوف يترتب على ذلك المزيد من اعتماد النظام السياسي التركي على أمريكا وإسرائيل.. وبالمقابل سوف يكون هذا النظام أكثر عداء لسوريا وبلدان المنطقة العربية الأخرى، إضافة إلى أن هذا النظام الجديد سوف ينخرط بشكل مباشر وداعم للأجندة الأمريكية الإسرائيلية ضد إيران، إضافة إلى الاحتمالات الكبيرة بأن يتورط الجيش التركي بالمشاركة في تحالف القوات الأجنبية الموجودة حالياً داخل العراق.
وعموماً، الحرب الباردة بدأت داخل تركيا بين قوى الأغلبية بزعامة حزب العدالة والتنمية، وقوى الأقلية بزعامة المؤسسة العسكرية والأحزاب الصغيرة.
أبرز المحطات المتوقعة في الصراع التركي- التركي سوف تتمثل في المحكمة الدستورية، والانتخابات البرلمانية المبكرة المتوقع إنشاؤها.. وبكل الحسابات فإن المعطيات تشير إلى أنه ليس من مصلحة أمريكا وإسرائيل وحلفاؤهما داخل تركيا (الجيش والأحزاب الصغيرة) الانخراط في مواجهة مع الرأي العام الشعبي التركي، والذي أصبح أكثر اقتناعاً بضرورة عودة تركيا إلى بيئتها الإقليمية الشرق أوسطية، وعدم المضي قدماً في مشروع الانضمام للاتحاد الأوروبي الذي لن يجلب لتركيا سوى المماطلة في المفاوضات والمزيد من التورط في معاداة جيرانها.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد