شهادة من زمن الثورات التي انقلبت على نفسها وأكلت أبناءها
الجمل ـ سعيد زكريا : هل انقضى زمن الثورات؟ ربما كان هذا السؤال هو الذي سيدور في ذهن القارئ وعلى مدار الكتاب. وهو أيضاً السؤال الذي طرحه فواز طرابلسي عنواناً لمقدمته، في شهادته عن ثورة ظفار سنة 1970/1971، في كتابه عن الثورة المنسية لتحرير الخليج العربي المحتل.
يشتمل الكتاب على تحقيق نشره المؤلف على حلقات في مجلة الحرية البيروتية. في هذه الاستعادة يؤكد الكاتب بأنه لا يرغب بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على انتهاء الثورة، وبعد أن أصبحت جزءاً من التاريخ، في إجراء مراجعة نقدية لها، وإنما يطمح إلى أن تكون مساهمة في بناء الذاكرة الحية، دونما تعديلات على ما خطه عن تلك الفترة من تاريخنا المعاصر.
يُعرّف الكتاب بقضية أهالي ظفار، الأوضاع السيئة للأهالي، والاستعمار في عمان والخليج، إلى البدايات الصعبة، الانعطاف الكبير، وظهور الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل مع وصف للحياة في المناطق المحررة، ومراحل الثورة، إخفاقاتها، انشقاقاتها، التساقطات المتوالية، الحرب ضدها بمساعدة جهات خارجية، نهاية الثورة. كذلك، يفضح التدخل العسكري البريطاني في الحرب.
شكلت ثورة ظفار تطبيقاً شبه حرفي لنظرية البؤر الثورية كما نظَّر لها ومارسها ثوري حرب العصابات أرنستو تشي غيفارا، انطلاقاً من تجربة الثورة الكوبية التي قادها كاسترو.
قارب ثوار ظفار في تحليلاتهم، التحليلات الني نشأت عن أدبيات حروب التحرير الشعبية، فقاسوا "ظفار" على أنها "الأرياف"، وحرب ستنتهي بهم إلى محاصرة "المدن" وتحريرها، المدن التي هي إمارات ومشيخات الساحل وعمان والخليج. وليس من الضروري اكتمال الظروف الموضوعية؛ كان تأسيس البؤرة الثورية والمسار النضالي التي ستتخذه الثورة يكفلان التعويض عن عدم اكتمال إنضاج العوامل الموضوعية بواسطة تفعيل دور الجماهير ونضالاتها وتضحياتها. كانت هزيمة 1967 قد أوجدت ما دعي بالرافعة التاريخية، وانطلاقاً منها سيجري استنهاض حركة التحرر العربية وتثوير المنطقة بأجمعها، مطلقة قوى لن تكتفي برد الهزيمة على أعقابها، وبل وتؤدي إلى تحقيق النصر.
تلك الفترة بالذات، بداية السبعينيات، تميزت بأحداث بالغة الخطورة وجذرية في موازين القوى والسياسات: قبول الرئيس عبد الناصر بمبادرة روجرز، أحداث أيلول الأسود الدامية واقتلاع منظمة التحرير من العاصمة والمدن الأردنية، وفاة الرئيس عبد الناصر، البدء بتنفيذ الانسحاب البريطاني من الخليج ودخول الولايات المتحدة بقوة كطرف في تلك المنطقة من العالم العربي، كذلك الحركة التصحيحية التي قادها حافظ الأسد وسقوط البعث اليساري السوري، والحركة التصحيحية في جمهورية اليمن الديمقراطية. في حين كان التراجع على المستوى العربي يكاد يكون شاملاً، كانت ثورة ظفار على العكس تتقدم وتسيطر على القسم الأكبر من الإقليم، باستثناء العاصمة صلالة.
هذا التقدم لم يستمر، وستشهد الثورة تراجعات خطيرة، تمهيداً للقضاء عليها، فالانشقاقات الداخلية ستشق صفوفها، والقرار البريطاني بعزل سعيد بن تيمور وإحلال ابنه قابوس محله، عجلت بهما العملية العسكرية الناجحة للثورة على الجبل الأخضر، فابتدأ عهد جديد في السلطنة، على أثره بدأت التساقطات بإصدار عفو عام عن الثوار، فغادرها الكثير من القبائل، واستمالة السكان بإنفاق الأموال على تحسين الإقليم الجنوبي، وإعادة الاعتبار لشيوخ القبائل، وأخيراً اتباع سياسة القوة سعياً إلى الحسم العسكري، بمساعدة الضباط والجنود البريطانيين والقبائل والمنشقين، ومن ثم تعريب الحرب، بإسهام الدول العربية بالمساعدات المالية والتدريب، في حين أسهمت إيران بالدعم العسكري.
إن ارتداد أكثر القبائل عن الثورة، يفسره أن هذه القبائل لم تحمل السلاح ضد السلطة إلا بسبب إهمال مناطقهم وتهميشها، وما كانت تلاقيه من عسف مزمن من سلاطين مسقط. ففي تقرير لها، تقول إحدى لجان الأمم المتحدة عن ظفار 1962/1963 إبان حكم سعيد بن تيمور: " يعامل السلطان أهالي ظفار كالعبيد. إنه شرس، يفرض القيود الكيفية على الشعب. فهم ممنوعون من السفر ومن بناء المنازل، ولا يستطيعون شراء المواد الغذائية إلا في سوق مسورة، كميات الغذاء فيها مقننة. ولا يسمح باستيراد أو تصدير السلع. البطالة تعم ظفار. لا حياة اقتصادية فيها، أو مساواة، أو حق الإسهام في السياسة." بالإضافة إلى معاناة الأهالي من سوء التغذية والسفلس والتراخوما وشلل الأطفال والملاريا. وبالطبع الافتقاد إلى الكهرباء والمجارير والمياه النقية.
لا تتوسل الثورة الأساليب العنيفة، إلا عندما تخفق السلطات الممسكة بالحكم في إجراء تغييرات سلمية، وتلجأ إلى العنف ضد المطالبين بالإصلاحات، مما يحول عملية المطالبة المشروعة في ظروف وشروط معينة إلى عملية ثورية، تهدف إلى التغيير الجذري في السلطة والعلاقات الاجتماعية والقيم والمناخات الثقافية. ولهذا تحظى بتأييد فعال من قسم واسع من الجماهير، بل وبمشاركة شعبية واسعة في عملية التغيير. ما الثورة إلا عارض يشهد على أزمات عميقة لم تجد حلاً لها، سوى بالانفجار. وهي إعلان على فشل الحكام في الإصلاح، ولهذا تأتي الحركات الثورية من انسداد الحلول أمام الحركات الإصلاحية.
هل يجوز الحديث عن ثورات فاشلة؟ ليس من ثورات فاشلة بالمطلق. وليس من الضروري أن تظفر الثورة بالسلطة حتى تعد ناجحة. إذا عدنا إلى التاريخ العالمي، الغربي والشرقي؛ نلاحظ أن الثورات المخفقة تترك آثارها عميقاً، فترتد بثورات أخرى، أو بإصلاحات وتحولات مستمرة، قد لا تظهر نتائجها إلا بعد آماد غير منظورة، من الصعب التنبؤ بها آنئذ.
اليوم، يمارس الاحتجاج وطلب التغيير، أقصى درجاته العنيفة والمدمرة سواء بالإرهاب أو الحروب الأهلية، فهل هذه هي البدائل عن الثورات؟ أم هل نعتقد أن الثورات المخملية، هي ثورات بحق، ابتدعتها القناعة بتغييرات جذرية بلا حروب عصابات وتفجيرات وهدير مجنزرات وقصف طائرات وآلاف الضحايا، ثورات بلا دماء، تتناسب مع الديمقراطيات عابرة القارات؟!
وكما يبدو العالم اليوم، تسيطر عليه قوة عظمى، في زمن على الأقل لن يسمح للثورات بمعناها الكلاسيكي بالعودة، على الثورات أن تنتظر أزمنة قد تأتي أو لا تأتي، أما الثورات المخملية، فقد ظهر أنها من تدبير أمريكا، والمثال الجورجي حاضر، لم يمض عليه زمن. لم يعد هناك متسع إلا للانقلابات، هذه التي مازالت تحدث في أفريقيا المنسية، المتروكة نهباً للمجاعات والأمراض. فمازال هناك متسع للمؤامرات، تلك التي ينكرها الجميع، وتفعل فعلها في الخفاء، وتوفر على البشر ثورات تنقلب مع الزمن على نفسها وتأكل أبناءها، وتكتم أنفاس شعوبها.
إذا كانت فكرة الثورة قد ارتبطت بفكرة التقدم، فهي لم تحرز تقدماً إلا على مستوى الفلسفات والأفكار، لكنها على أرض الواقع، لم تحقق مُثُلها حتى فوق أشلاء الإمبراطوريات وجثث ملايين الضحايا. وربما نحن سائرون إلى زمن لا تقدم فيه إلا للتكنولوجيا، ولا ثورات إلا للعلم. وقد تكون البشرية محظوظة إذا أتيح للعقل فيها، مجال يحول بينها وبين توظيف تقدمها وثوراتها ضد الإنسانية.
الكتاب: ظفار.
شهادة من زمن الثورة.
المؤلف: فواز طرابلسي.
الناشر: رياض الريس للكتب والنشر.
الجمل
إضافة تعليق جديد