صواريخ «حزب الله» تقصف الصمت العربي
سعاد جروس : «التخاذل العربي مش غريب, إنما إعطاء الموافقة على شن حرب على لبنان, هو الأمر الغريب», بهذا التصريح يكون وزير خارجية قطر محمد جبر آل ثاني, قد أشار بشكل غير مباشر إلى التداعيات الخطيرة لحرب لبنان في الشارع العربي والإسلامي, الشارع الذي حافظ على هدوئه الحذر تحت قبضة حكوماته, إلى أن راح يتفجر غضباً مع وقوع مجزرة قانا البشعة, التي قلبت الطاولة على رؤوس الحكومات الصامتة والمتخاذلة, وحتى الداعمة.
فهل يمهد تدمير لبنان في المستقبل غير البعيد إلى زلزلة عروش وجمهوريات كما جرى بعد هزيمة 1948؟
هذا السؤال طرح نفسه بعد مضي أكثر من عشرين يوماً على الحرب الأميركية الإسرائيلية الشرسة على لبنان, أظهرت فيه المقاومة اللبنانية بسالة منقطعة النظير في الصمود والتصدي الحقيقي, لا صمود الشعارات الفضفاضة, وفضحت عجز الجيوش العربية الجرارة. إلياس جرجور, لم يخف إعجابه الكبير بقوة المقاومة اللبنانية, وتساءل عن النتائج المبهرة التي كانت ستحققها لو امتلكت سلاح جو. فيما قارن فايز بين حالة الاحتلال الأميركي للعراق وكيف قطعت الدبابات الأميركية المسافة بين أم قصر وبغداد في غضون 18 يوماً, فيما لم يتمكن جيش إسرائيل الجبار من قطع مسافة كيلومتر واحد في مارون الراس وبنت جبيل, دونما أي تشكيك بقدرات المقاتلين العراقيين, وإنما على سبيل تأكيد أن الحروب التي تقودها قيادة مقاومة فعلاً مؤمنة بأهدافها وبقضيتها, أقوى بما لا يقاس من جيوش جرارة تمتلك هذا الإيمان, لكن فاقدة الثقة بقيادتها. ويعتبر كثيرون أن المقاومة حققت انتصاراتها الكبيرة على مستوى الأمة, وكل النتائج اللاحقة حتى لو كان الحسم العسكري لمصلحة إسرائيل لن تلغي هذه الانتصارات, والتي في مقدمتها إعادة توحيد صفوف الأمة العربية والإسلامية في مواجهة العدو الإسرائيلي رغم استقالة بعض الأنظمة العربية من الصراع العربي الإسرائيلي, مع أنهم استمدوا شرعيتهم منه.
التظاهرات التي خرجت في مختلف الأرجاء العربية والإسلامية من فلسطين الى لبنان وسوريا والعراق وليبيا ومصر ودول الخليج, وحتى في غالبية الدول الأوروبية, ضمت خليطاً غير متجانس من التيارات السياسية والشرائح الاجتماعية, وحَّدها في البلاد العربية العداء لإسرائيل, وفي الدول الغربية جمعها التنديد بوحشية العدوان. وما تخوف رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الفيدرالية الروسي ميخائيل مارغيلوف, من تداعيات الهجمة الإسرائيلية الهمجية على لبنان وقتل المدنيين, إلا لأنه كما قال: «تتمثل نتائج مأساة قانا في تنامي المشاعر المعادية للسامية وتراجع مكانة منظمة الأمم المتحدة. وتظاهرات التأييد للبنان وفلسطين تعم عددا من البلدان الأوروبية حالياً, وتؤكد أن العملية العسكرية الإسرائيلية تسفر عن تدني سمعة إسرائيل في أنظار المجتمع الدولي». وأكد مارغيلوف أنه «من الصعب تبرير حملة مكافحة الإرهاب, إذا كانت قد أودت بحياة أكثر من 800 شخص من السكان المدنيين, بمن فيهم مئات الأطفال والنساء».
مما لا شك فيه, أن رصيد أميركا في المنطقة شارف على النضوب نهائياً, وبات من الصعب جداً تحسينها. ففي الكويت, وكانت إحدى الدول الداعمة للحرب الأميركية على العراق, وجه عدد من نواب مجلس الأمة الكويتي نقداً شديد اللهجة إلى الولايات المتحدة الأميركية في جلسة ساخنة, تمَّ تخصيص ساعة منها لمناقشة الوضع في لبنان. ووصف النائب الإسلامي خالد العدوة صانعي السياسة الأميركية بأنهم «أبناء كلب». وقال: «أميركا تدين الإرهاب وتمارسه أيضاً». والدرجة ذاتها من النقد وجهها نواب آخرون نقداً للحكام العرب الذين أعطوا ضوءاً أخضر للعدوان, وقالوا علناً «تباً للحكام المتخاذلين».
وفي تظاهرة نادرة بالكويت إثر إذاعة خبر مجزرة قانا, أحرق المتظاهرون العلم الأميركي أمام مبنى السفارة الأميركية. وقال شهود, إن التظاهرة المناهضة للحرب قادها كويتيون من الشيعة. ونشرت صحيفة واحدة صورة للمتظاهرين, وهم يحملون الراية الصفراء لجماعة «حزب الله» الشيعية اللبنانية وصور زعيمها السيد حسن نصر الله. وحملوا أيضاً لافتة كتب عليها عبارة تطالب بوقف «الإرهاب الصهيوني». وتبعها تظاهرات حاشدة في شارع الصحافة نقلتها قناة €المنار€ لتكون شاهداً على موقف الشعب الكويتي الغاضب من الحكام أكثر من غضبه على قوى العدوان.
أحدثت مجزرة قانا فورة غضب في الشارع العربي, لم تكن موجهة نحو أميركا وإسرائيل كما كان الوضع في فلسطين وسوريا وإيران, حيث خرجت نساء سوريا متشحات بالسواد ويحملن نعوشاً صغيرة للتنديد في المجزرة, بينما خرجت نساء إيران يرتدين الأكفان ومزنرات بالأحزمة الناسفة. ومع أن مشهد الغضب كان ذاته في أمكنة أخرى, إلا انه يضاف إليه سخط كبير على الموقف السياسي في الدول الموافقة على هذه الحرب, وهو ما دفعها إلى حد ما إلى التراجع عنها بمواقف رسمية سجلتها الدول العربية الثلاث التي أعطت موافقة ما على الحرب, وهي الأردن ومصر والسعودية. فبعد صمت الأردن الرسمي طوال الأيام العشرة الأولى من الحرب, شهد هذا الصمت تحولاً تحت ضغط شارع أردني أبدى تأييداً كاملاً للمقاومة, وبُدئ بإرسال المساعدات الإنسانية لتحقيق توازن بين موقف الشارع والقوى والتيارات السياسية وبين الموقف السياسي الرسمي, وسُمح للأردنيين بالتظاهر, بل إن النساء الأردنيات أظهرن جرأة غير مسبوقة في التعبير عن غضبهن على الشاشة, وخاطبت شابة أردنية بصوت عال الحكام العرب: «نحن مع المقاومة ومع المغامرين ولسنا مع الخونة», كما أظهر الأخوان المسلمون تعاطفاً وتأييداً كاملاً للمقاومة, لم يكن متوقعاً لدى الذين ينظرون الى ما يجري من ضمن منظور طائفي. كما لم يكن متوقعاً تآلف التيارات السياسية المتباينة ما بين الشيوعيين والمتدينين حول موقف واحد داعم للمقاومة ومقاطعة إسرائيل, حيث وقَّع أكثر من 57 نائباً أردنياً على عريضة تطالب بطرد السفيرين الأميركي والإسرائيلي من عمان, فيما خرجت تظاهرات حاشدة تطالب بإعلان المقاطعة وإلغاء اتفاقية «وادي عربة» للسلام الموقعة بين الأردن وإسرائيل. في مصر, لم تكن مطالبات المتظاهرين أقل, إذ عمت التظاهرات المدن المصرية من ديماط الى الإسكندرية والقاهرة, وخرج المصريون ليعلنوا غضبهم على موقف حكومتهم من حرب إسرائيل الوحشية والسياسة الأميركية في المنطقة, وقال أكثر من مواطن مصري على الشاشات الفضائية, إننا نحن من يمثل الشعب المصري وليس الحكومة. وصرخت امرأة مصرية, إن من يمثل العرب والمصريين هو السيد حسن نصر الله لا الحكام المتخاذلين. وأخرى تساءلت بخصوص الرئيس, إلى متى يظن نفسه سيبقى على كرسيه سنة أو سنتين, وأقسمت أنه لن يهنأ بذلك. واعتبر المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري مذبحة قانا, بأنها إدانة لقيادات الدول العربية, وليس للمقاومة اللبنانية, مؤكداً أن الهدف الإسرائيلي من هذه المجزرة البشعة, أن تكون بمثابة النموذج والعبرة أمام هذه الأنظمة.
إلى جانب الفنانين والنقابيين والحقوقيين وشرائح المجتمع المصري كافة, كان لافتاً موقف الأخوان المسلمين في مصر الذين رأوا في المقاومة اللبنانية شرفاً وعزاً للإسلام, منذ بدء الاعتداء. فيما صدرت تصريحات عن ناشطين في حركة «كفاية» تشير إلى أن الحكومة تُضيّق عليهم كثيراً, وأن الشعب المصري كله يؤيد المقاومة. وتبين صحة هذا الكلام في التظاهرات التي اندلعت بعد مجزرة قانا, إذ لم يعد بإمكان الحكومة المصرية ضبط غليان الشارع أمام هذا الانتهاك الصارخ للمواثيق الدولية. وقد أعلن الفنان والنجم المصري حسين فهمي اعتذاره عن الاستمرار بمهمته كسفير للنيات الحسنة لدى الأمم المتحدة, كما قال المخرج المصري العالمي يوسف شاهين: «إن المقاومة شرف للإسلام». وأشعل عادل إمام مع حشد من الفنانين الشموع لأجل المقاومة. ومن الأزهر انطلقت تظاهرات غاضبة تدعوا بالنصر للسيد حسن نصرالله حفيد رسول الله, وهي المرة الأولى في تاريخ مصر الحديث يتم فيها الدعاء لرجل دين شيعي. وقد رفع الشارع المصري شعار «كلنا مقاومة» مع تعالي المطالبات بقطع العلاقات مع إسرائيل. كل ذلك أجبر الرئيس المصري على التراجع عن مواقفه السابقة نوعاً ما, فبعدما صرح أنه غير مستعد لدخول حرب مع إسرائيل لحماية لبنان, عاد ودان مجزرة قانا, وقال مخاطباً الشعب المصري: «ما زال العدوان الإسرائيلي مستمراً على لبنان متجاوزاً كل الخطوط الحمراء مستهدفاً شعب لبنان وبنيته الأساسية ومنتهكا سيادته ووحدة أراضيه... قانا هي شاهد على انتهاك إسرائيل الصارخ للقانون الدولي وانزلاق عدوانها على لبنان الشقيق لمنزلقات خطرة».
الغليان المكتوم
السعودية التي سجلت موقفاً مفاجئاً من «حزب الله» لدى قيامه بأسر جنديين إسرائيليين باعتباره مغامراً, وعليه تحمل نتيجة مغامرته, فبدت وكأنها أعطت الموافقة لإسرائيل كي تقوم بضرب «حزب الله» في لبنان, ارتدت مع تصاعد الاستنكار الشعبي العربي لهذا الموقف, وبدأت بإرسال المساعدات, ودفعت 50 مليون دولار مع بداية الحرب, أتبعتها بـ500 مليون دولار, ووضع مليار دولار وديعة في حساب مصرف لبنان لحماية الليرة اللبنانية. وكان واضحاً أن هناك غلياناً مكتوماً في الشارع السعودي رافضاً لهذا الموقف الرسمي, رشح من اتصالات أجراها مواطنون سعوديون مع الفضائيات العربية, أعربوا فيها عن موقفهم المؤيد للمقاومة, كما تظاهر عشرات من السعوديين ضد الحرب في شوارع المنطقة الشرقية في تحرك نادر بالمملكة. ونقلت وكالة رويترز عن شاهد عيان: «إن رجالاً ونساء من الشيعة, تمكنوا من تنظيم تظاهرتين في بلدتي القطيف والعوامية». وقد نشر موقع شيعي صوراً للمتظاهرين حاملين صورة للامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله, رغم ما تفرضه المملكة من حظر على التظاهر؛ على أن وسائل الإعلام السعودية, لم تورد أي خبر عن التظاهرات. وقد أفادت مصادر إعلامية, عن انتشار أفراد الشرطة بشكل مكثف, مما منع تنظيم التظاهرات, إلا أن حوالى 870 امرأة من الشخصيات البارزة في السعودية أصدرن بياناً وصفن فيه الهجوم الإسرائيلي على لبنان بأنه «إرهاب دولة», وطالبن زعماء العالم وصناع القرار بالتحرك الآن لوقف الحرب ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني؛ وهو موقف جاء منسجماً مع الموقف الرسمي السعودي الذي راح يسعى بعد أكثر من عشرين يوماً من الهجمات الشرسة على لبنان إلى إصدار قرار لوقف فوري لإطلاق النار.
سيناريوات
متابع ومحلل سياسي طلب عدم ذكر اسمه قال لـ«الكفاح العربي», إن كل الاحتمالات التي ستؤول إليها نتائج المواجهة غير المتكافئة بين المقاومة اللبنانية الإسلامية وإسرائيل, ستكون لها تداعيات سلبية على الأنظمة العربية, وفي مقدمتها الدول المشجعة لإسرائيل. فالشارع العربي عموماً حمَّل مسؤولية التمادي الإسرائيلي كاملة للأنظمة العربية, مثلما جرى عقب نكبة 1948, وفي حال انكسرت المقاومة وتمكنت إسرائيل من تحقيق أهدافها في لبنان, فمن المتوقع أن يرتد هيجان الشارع بشكل سلبي على الأنظمة, تماماً كما حدث عقب النكبة التي شهدت انقلابات كبرى عدة, كانت البداية لاستيلاء الجيش على الحكم, واستئثاره بالحياة السياسية, كما حدث في سوريا مع انقلاب حسني الزعيم 1949 , وفي مصر عقب ثورة تموز €يوليو€ 1952, ناهيك عن الاغتيالات التي أعقبت النكبة. فقد جاء إعدام زعيم الحزب السوري القومي انطون سعادة كواحد من تداعيات النكبة, إذ جرت تصفيته لأنه كان يعمل على حقن الشارع للرد على النكبة, كذلك اغتيال الملك عبد الله في الأردن, ورئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح. وسوف يجري تفسير هزيمة المقاومة على أنه كان جراء التواطؤ العربي, وليس من المستبعد, وإنما من المتوقع ظهور تيارات وأحزاب سياسية متطرفة تتولى عملية تغيير جذرية في المنطقة. ويضيف المحلل في ما يخص الاحتمال الآخر, وهو خروج المقاومة منتصرة من هذه المواجهة, فإن ذلك سيطوب السيد حسن نصر الله رمزاً ثورياً عربياً وإسلامياً, حقق إجماع الأمة بمختلف طوائفها وتياراتها, وقد بدأت مظاهر الاجماع برفع صوره في سائر بلدان المنطقة, وهتاف الشعوب العربية له, مشهد لم يعرفه العرب منذ رحيل الزعيم القومي جمال عبد الناصر. إن صعود نجم «حزب الله» سيعزز الحركات الإسلامية السياسية في المنطقة وسيعطيها شرعية ولا سيما بعد أن خاض نصر الله المعركة بكفاءة نادرة لا تعوزها العقلانية ولا السياسة الحكيمة, واعترافه بكافة القوى العاملة في لبنان, هذا على النقيض من الأنظمة العربية التي تسرعت وأعلنت عدم استعدادها حتى للصمت. وهو أمر يعتقد المحلل أن الدول العربية تشعر بهذا الخطر منذ الآن, ستستميت, كي تحول دون تحقيق انتصار سياسي لـ«حزب الله» والمقاومة, وستكون في غاية الاطمئنان إذا تم القضاء على الحزب وزعيمه. وأما عن التحول في بعض المواقف العربية من الحرب على لبنان, فقد جاء بعدما حقق «حزب الله» انتصارات صعبة على إسرائيل وتمكن من الصمود في حرب كانت الأطول بين الحروب التي خاضتها إسرائيل مع العرب, وهو ما يجعل الأنظمة العربية الآن تسعى الى حفظ خط الرجعة مع شعوبها, عبر إظهار التعاطف الإنساني مع لبنان المنكوب, أو عبر ظهور الزعماء العرب على الشاشات والحديث عن مصالح شعوبهم.
في هذا الإطار, يمكن ملاحظة تصريحات الرئيس اليمني علي عبد صالح لقناة «الجزيرة» حول فتح الحدود وقبول المجاهدين العرب للقتال في لبنان, والتصريحات النارية لوزير خارجية قطر الذي أبدى استغراباً كبيراً من مزايدات العرب من أصدقاء أميركا على إرضاء أميركا دون أي مقابل ولا ضمانات, مع تأكيده أكثر من مرة أن بلاده ورغم صداقتها مع أميركا لا يمكنها الموافقة على أي قرار يكون على حساب دولة عربية أخرى, أو على حساب الشارع العربي والقطري, وقال بكل وضوح: «إن هناك نوعاً من الموافقة بأن تقوم إسرائيل وتكمل المهمة بالقضاء على «حزب الله» في المنطقة». ويعتقد أن تلك الدول تنسى المصلحة العامة للعرب ومواطنيها.
المصدر : الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد