عصبيّة «التعاون الخليجي» تصب في خانة «داعش»

23-06-2014

عصبيّة «التعاون الخليجي» تصب في خانة «داعش»

ومزاعم معارضة المنفى (أو معارضة التنازع بين النظاميْن القطري والسعودي) تستند إلى فرضيّة أن النظام السوري لا يقاتل «داعش»، لكن عندما يقاتل النظام «داعش» تصرخ أصوات المعارضة الخارجيّة مُجتمعة أن الطائفة السنيّة (برمّتها) تتعرّض للقصف من قبل النظام.

النظام السوري، طبعاً، ليس بعيداً من ألاعيب استخباراتيّة غريبة ومتناقضة - نعرف ذلك في لبنان معرفة وثيقة - لكن من المُستبعد ان حركة تخوض حرباً طائفيّة شعواء ضد طوائف بحالها، وتتلقّى تمويلاً ودعماً من أعداء النظام السوري - تكون أداة بيد نظام تسعى إلى قلبه. لكن من المضيعة للوقت التعاطي بمنطق أو باحترام أخلاقي (مهني) مع إعلام آل سعود وآل ثاني (وتوابعه السوريّة واللبنانيّة) في أي من الشؤون السياسيّة (أو غير السياسيّة). هؤلاء - الأنظمة وأدواتها لا الشعوب - يعيشون في دهاليز قرون بعيدة من حاضرنا.
أما على الصعيد العربي، فيمكن رصد تغطية موضوع «داعش» منذ إطلاق تنظيم «الدولة الإسلاميّة في العراق والشام» في مقالات ليبراليّي آل سعود وآل ثاني وآل مَن استولى مثلهم على مصادر نفط وغاز وكاز من المُستعمِر الذي رعاهم منذ النشأة. هكذا تدرّجت حكاية «داعش» كرونولوجيّاً في سرديّة الإعلام المذكور، وفي بيانات ليبراليّي 14 آذار السوريّة:
1) ليس هناك من تنظيم «داعش». هذه كذبة إعلام الممانعة وذلك لتشويه اسم وصورة «ثورة» ناصعة. كيف يمكن أن يكون هناك تنظيمات إسلاميّة جهاديّة فيما دور الإخوان المسلمين ضعيف جدّاً بوجود سهير الأتاسي (ورفيقة أخرى لها وإن تغيّر اسم الرفيقة بحسب المقال) التي تقود «الثورة» المسلّحة وهي ثورة علمانيّة نسويّة ليبراليّة.
2) هناك تنظيم «داعش» لكنه تنظيم صغير ولا تأثير له بوجود قائدة «الثورة» المُسلّحة العلمانيّة، سهير الأتاسي (مع رفيقة أخرى لها).
3) إن تنظيم «داعش» موجود لكنه صنيعة النظام الإيراني والسوري.
4) «داعش» هو خطر مدلهمّ ولهذا يجب دعم الفصائل المُسلّحة ذات التوّجهات العلمانيّة والليبراليّة، أي تلك التي تتلقّى دعماً من النظاميْن القطري والسعودي.
5) «داعش» هو خطر على المنطقة لأن النظام السعودي قرّر ذلك وبأوامر أميركيّة. إذا كان النظام السعودي قد قرّر ذلك فلا مفرّ من الطاعة الكليّة.
6) إن «داعش» هو تعبير عن الغضبة السنيّة التي تعاني من التجبّر الشيعي الطائفي.
7) هو ليس بـ«داعش» في العراق. إن حزب البعث والعشائر العربيّة هي التي تتحرّك أما تنظيم «داعش» فهو صغير جداً، ولا تتعجبوا لو أن سهير الأتاسي (مع رفيقة لها طبعاً)، التي تقود «الثورة» المُسلّحة في سوريا تقود «ثورة» مجيدة أخرى في العراق.
8) «داعش» هي ليست كما تظنّون وتظنّن. الحقيقة هي ان الطريقة النقشبنديّة - وهي شديدة الاعتدال مثلها مثل الوهابيّة - تتحرّك لكن هناك من حَشر شعارات «داعش» المزيّفة.
تحتاج الفتنة الطائفيّة لتي يرعاها النظام الخليجي إلى مواجهة فعليّة لكن غير طائفيّةوقع ليبراليّو الإعلام العربي في حيرة من أمرهم. ماذا يقولون أمام شعارات وبيانات «داعش» في العراق. هي «ثورة» بمقياسهم ومعاييرهم لكن الإعلام السعودي والقطري انتظر لساعات وصول الأوامر. قد يُكرّر رضوان السيّد مقولته: إن أي نقد للحركات الجهاديّة الطائفيّة المدعومة من آل سعود هو هجوم على الدين الإسلامي (من يذكر آراء رضوان السيّد قبل عقد من الزمن؟).
لم يكن حدث هجمة «داعش» مثل غيره في المنظور الأميركي. استفاق المحافظون الجدد على فرصة أخرى للحثّ على مزيد من الحروب ومن الغزوات الأميركيّة التي - مرّة أخرى - ستعلّم الأعداء العرب والمسلمين درساً لن ينسوه ما حيوا. يريد هؤلاء إعادة «تحرير» العراق، وفييتنام لو أمكن. مُرّة كانت الهزيمة. السيناتور لندسي غراهام (من أوثق حلفاء السناتور جون ماكين والاثنان في السياسة الخارجيّة على يمين جنكيز خان بقليل) دعا الإدارة الأميركيّة للتعاون مع إيران في التصدّي لخطر «داعش» (والرجل معروف بأنه من أنصار قصف إيران حتى من دون سبب نووي).
الإعلام الخليجي أصيب باضطراب ملحوظ. تأخّر ردّ فعل النظاميْن المُذنبيْن، السعودي والقطري، أكثر من يوم واحد وكان موقفا الحكومتين متطابقين. لاما، مثلهما مثل إعلام الإمبراطوريّة، شخصاً واحداً، هو نوري المالكي. لكن من هو نوري المالكي الذي كان يحظى بالتهليل والتكبير عندما شنّ حملة ضد «جيش المهدي» وصاحت أصوات من الحزبيْن في واشنطن بأن هذا هو مُخلّص العراق؟ وزاد من تقدير الحكم الأميركي للمالكي عندما تصدّى بذراعيه وجوارحه للاعتداء بالنعال على راعيه جورج بوش.
هذا هو حال الاستعمار. لا يستقرّ على قرار لأن الفشل والتعثّر هو مساره ومآله. كان الاستعمار الأميركي في فييتنام يلقي باللوم على هذا الجنرال في جنوب فييتنام أو ذاك، أو كان يقول ان الاستعمار الأميركي سيسود لو ان هناك طاغية فعّال في جنوب البلاد. من انتقد حميد قرضاي في أفغانستان غير الحكومة الأميركيّة؟ هل كان هناك من سمع به في الإعلام قبل ان تختاره أميركا، ثانياً، بعد ان وصل اختياره الأوّل عبد الحقّ، في طائرة أميركيّة من دبيّ (بعد أن حُشيت ملابسه بعشرات الآلاف من الدولارات، كما حُشيت عباءة عبد المجيد الخوئي بعشرات الآلاف من الدولارات) إلى أفغانستان وأعدمته قوى طالبان على شجرة باسقة؟ لكن الحكومة الأميركيّة غير راضية أبداً عن قرضاي لأنه يتذمّر من قتل المدنيّين جرّاء القصف الأميركي في بلاده، كما أنه رفض ان يعطي القوات الأميركيّة مناعة ضد المقاضاة عن جرائم حرب قد ترتكبها. هذا الوقح يريد ان يعيّر القوّات التي انتقته بجرائم حرب؟
وهذا كان حال المالكي. لم يكن أحد قد سمع به خارج نطاق «حزب الدعوة» في المنفى. هو ترك العراق مبكراً ولم يبرز اسمه ولا حتّى بعد غزو العراق. لكن قصّته رُويت في الصحافة الأميركيّة وإن حاولت الأخيرة ان تتناساها في الأيّام الماضية. كان السفير الأميركي الأسبق في العراق زلماي خليل زاد، يبحث عن مُرشّح شيعي لرئاسة الوزراء كي يخلف إبراهيم الجعفري. استقرّ رأي خليل زاد عليه لأنه - كما قيل - ذو سمعة حسنة. الآن تلوم أميركا الشعب العراقي على اختيار المالكي. المالكي نجح فقط... فقط في الموازنة بين ولائه الأميركي وولائه الأيراني. لم تكن أميركا تعترض على ذلك، ولا إيران. لكن هو اليوم وحده مسؤول عن «داعش»، أو هكذا يُقال.
لم تأتِ عقيدة «داعش» من العدم، أو من فراغ. من يقرأ «وثيقة المدينة» التي نشرتها عن حكمها المزمع في الموصل يتبيّن معالم العقيدة الحاكمة في قطر والسعوديّة. هي الوهابيّة التي تنتشر في دسائسها وكراهيّتها وفرقتها وبغضها من خلال الثورة النفطيّة (والغازيّة) ومن خلال مراحل الهبّات الجهاديّة التي بدأت أميركا برعايتها في سنوات الحرب الباردة. الموجة الأولى أتت في الثمانينيات عندما شكّل الثلاثي الأميركي - السعودي - الباكستاني جيشاً من الظلاميّين المتعصّبين لصدّ الشيوعيّين ورعاتهم السوفيات آنذاك.
ولّدت تلك الحملة اسامة بن لادن بقابلة (دوليّة) أميركيّة - سعوديّة مشتركة. الموجة الثانية كانت في الحرب السوريّة. نفذ صبر أميركا بعد ان كانت تنتظر انهيار النظام السوري على طريقة مبارك وبن علي، أي من دون جهد جهيد (وهي كانت متمسّكة بالطاغيتيْن، وهيلاري كلينتون في كتابها الجديد، «اختيارات صعبة»، تعترف بتمسّكها بمبارك). كانت مسألة أيّام فقط، في سوريا: مسؤول أميركي يلي مسؤول يلي وزيرة الخارجيّة آنذاك: بشّار سيرحل بعد أيّام أو أسابيع، على أكثر تقدير. سلمّت أميركا أمرها للحكم القطري والسعودي (وكانا على وئام - مصطنع كالعادة - قبل انتفاضة السيسي). بدأ الإعداد لتشكيل جيوش من الظلاميّين الجهاديّين من أجل ضمان انهيار نظام يترنّح.
لكن إذا كان الاعتراض الليبرالي (العربي) على حزب الله أنه يحمل عقيدة دينيّة غير ليبراليّة، فلماذا كان الصمت المطبق عن «كوكتيل» العقائد الدينيّة المتعصّبة والإرهابيّة والتي تحظى برعاية قطر والسعوديّة، والتي تضخّ دعاية طائفية على مدار الساعة؟ صحيح أنّ حزب الله حمل عقيدة متزمّتة وحاول أن يطبّقها في مناطق نفوذه في الثمانينيات والتسعينيات لكن حزب الله تغيّر في عهدة السيد حسن نصرالله. هو تحوّل، كحزب سياسي، من حزب النخبة السريّة إلى الحزب الجماهيري (الأوّل يسعى لكسب الأعضاء فيما يسعى الثاني لكسب الأصوات في الاقتراع، وفق تصنيف معروف للأحزاب السياسيّة لعالم السياسة الفرنسي، موريس دوفرجيه). أي ان المرونة من ضرورات التحوّل من الصنف الأوّل إلى الثاني. على العكس، بات «حكم» حزب الله يتصف بليبراليّة مائعة. (في التقرير الأخير لـ«مجموعة الأزمات الدوليّة» عن حزب الله - وهو بلا منازع أسوأ ما صدر من تقارير عن تلك المنظمة - تبذل المؤلّفة جهداً لإثبات قمع حزب الله في مناطق نفوذه فلم تجد من دليل إلا عن «شيعيّة» على تويتر تلقّت تعليقات غير لائقة، والمسؤوليّة - حتماً - تقع على كاهل نصرالله لأنه لا يؤدّب كل شيعي لا يحترم آراء ليبراليّي ووهابيّي الشيعة في لبنان وفي انطاكيا). لكن تفتيش جهاز دعاية آل سعود للعثور على نتف من خطب لنصرالله قبل عقود هو دليل أن الحزب ونصرالله لا يستعمل أبداً خطاباً طائفيّاً (من دون أن يعني هذا ان الحزب في تركيبته وعقيدته هو طائفي). ينحو «داعش» كما ينحو منافسوه في عالم التنظيمات الجهاديّة التكفيريّة إلى عالم مُتخيّل غير موجود: عالم يريد ان ينتقل بالمستقبل العربي والإسلامي إلى ماضٍ من صنع التمنّي المُسقط على الماضي. إذا كانت تجربة «الإخوان» في السلطة في مصر وتونس لم تعمّر، فكيف ستكون حال تلك التنظيمات؟ وما الذي تريده قطر والسعوديّة من وراء تفريخ وإنتاج تنظيمات كهذه في العالم العربي، غير المنافسة غير الرياضيّة للاستيلاء على الدين والملك؟ وما قيمة التحالف بين الليبراليّة العربيّة وبين تنظيمات الجهاديّة غير الانخراط في مضارب النفط والغاز نفسها؟
أنشأ الاستعمار الأميركي في العراق نظاماً مفصّلاً على مقاس المصالح الأميركيّةأنشأ الاستعمار الأميركي في العراق نظاماً مفصّلاً على مقاس المصالح الأميركيّة. لم يكن توحيد العراق في صالح المُستعمر لأن في ذلك اتفاق على مقاومة الاحتلال. شرذم المُحتل (وبنجاح) الشعب العراقي إلى فرق وملل وعصبيّات كان بعضها غابراً، كما أنه أنعش النظام العشائري الذي أرّخ القضاء على الملكيّة في العراق لبداية احتضاره. لم يختلف المُخطّط الأميركي في العراقي عن المُخطط الصهيوني في فلسطين. لكن الشعب الفلسطيني فوّت مبكراً على الاحتلال فرضة التقسيم والشرذمة الطائفيّة (وإن كان زمن صعود الحركات الدينيّة قد أضعف أواصر الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة كما ان الاحتلال بالتعاون مع السفارات الغربيّة في بلادنا ساهم في تهجير المسيحيّين من الأراضي «المقدّسة»، ومن الأراضي غير المُقدّسة). بدأت المحاصصة في مجلس الحكم الاحتلالي في بغداد عندما توزّعت المناصب والثروات على أسس طائفيّة ومذهبيّة: حتى الحزب الشيوعي العراقي حوّلوه إلى طائفة (غير منصورة). الوصفة الكلاسيكيّة للاحتلال سادت وخفّفت من الغضبة الشعبيّة ومن المقاومة.
لكن ما كان يُعرف بالمرجعيّة الصامتة في إشارة إلى الاستكانة المرجعيّة في ظل حكم صدّام صدحت هذا الأسبوع. المرجعية علي السيستاني، أعلن وأفتى بضرورة التسليح (غير العلماني وغير الوطني) لمواجهة هجمة «داعش». لو أن السيستاني كان قد صدح بالفتاوى في ظل الاحتلال الأميركي لكان لفتواه وبيانه وقع وطنيّ جامع هذه المرّة. لكنه لم يحرّك ساكناً عندما تعرّضت الفلوجة لهجمة أميركيّة وحشيّة لم يسبق لها مثيل في الحروب المعاصرة. على العكس من ذلك، أفتى السيستاني بمهادنة الاحتلال ونصح بالتعاون معه (لما في ذلك «من مصلحة للعراق» كما ردود منه على استفتاءات له). لم يبقَ من مرجعيّات دينيّة لم تتلوّث بالصبغة الطائفيّة. لكن الفتنة بدأت مبكّراً وبإعداد من أنظمة الخليج وأميركا. استشرف نصرالله كما الراحل محمد حسين فضل الله قبل أشهر من غزو العراق ما كان يُعد، وحذّرا من بيروت من فتنة طائفيّة مذهبيّة تحضّر لخدمة المُحتل. لكن لم تحتط المنظمات الشيعيّة الطائفيّة في العراق للأمر، أو أن ذلك لم يكن بمقدورها.
نشطت أنظمة الخليج في استخدام الوسائل الإعلاميّة الأخطبوطيّة في خدمة التحريض المذهبي. قلّل حزب الله من فعاليّة هذا التحريض وظن أن التزام الصمت والتمنّع عن الردّ الطائفي المذهبي كفيل بمنع الفتنة. فشلت خطّة حزب الله وانتشرت الفتنة في كل العالم العربي. قد تكون الفتنة الحاليّة من أنجح ما خاضه آل سعود من حروب في العالم العربي. تحوّل الحزب الذي أذلّ العدوّ الإسرائيلي كما لم يُذلّ في تاريخه إلى مجرّد حزب طائفي شيعي يخدم أجندة فارسيّة: هكذا أرادت أنظمة الخليج ان تخدم العدوّ عبر تقويض دعائم مقاومة حليفتها غير السريّة، إسرائيل. والحزب في تخبّط هذه الأيّام: كيف يمكن مناصرة النظام العراقي الطائفي والمُتحالف مع الاحتلال الأميركي؟ لا يمكن تسويغ مناصرته بشعارات المقاومة ونوري المالكي كان يُعدّ وعن حق من «رجال بوش» في العراق. لم يُسمع صوت لشيعة الاحتلال أثناء الغزو الصهيوني للبناني في 2006. كانت عبارات المالكي أقرب إلى المواقف المائعة للمجموعة الأوروبيّة.
تحتاج الفتنة الطائفيّة التي يرعاها النظام العربي الخليجي الرسمي إلى مواجهة فعليّة لكن غير طائفيّة. قد تكون الفرصة فاتت لأسباب عديدة منها أن إيران وحزب الله لا قدرة لهما على مواجهة علمانيّة. قد يكون الدخول في الفتنة حتميّاً بسبب الإصرار الخليجي. وكلّما امتدّ عمر النظام السوري كلّما استشرس النظام الخليجي لتقويضه بشتّى الوسائل ومن دون الاهتمام بمصلحة الشعب السوري ووحدته وسلامة أراضيه. الأولويّة هي في تنصيب حليف قبلي سعودي في دمشق، وبأي ثمن.
ليست «داعش» جديدة في التاريخ العربي. كان يمكن للعالم العربي ان يتطوّر بصورة أكثر علمانيّة في هذا القرن (كلمة «مدنيّة» ليست إلا ستاراً للغايات الطائفيّة هذه الأيّأم، كأن يطالب مصباح الأحدب - زعيم تيّار «الاعتدال المدني» - سعد الحريري قبل أيّام بالاهتمام بـ«تطلّعات طائفته»). تعبّر التنظيمات الطائفيّة المُنتشرة في العالم العربي عن واقع سياسي راهن أكثر ما هي تعبّر عن واقع تاريخ ديني. هي نتاج لعوامل عديدة منها:
1) نشر العقيدة والفكر الوهّابي بأنظمة متخمة بالعائدات النفطيّة.
2) حثّت أميركا حلفاءها العرب في عقود الحرب الباردة على نشر الفكر الديني الإسلامي المحافظ لمواجهة الشيوعيّة.
3) أدّى انتصار التيّار الديني في إيران بعد الثورة إلى تحفيز الحركات الدينيّة على حساب اليسار والعلمانيّة.
4) إن التحريض على الفتنة المذهبيّة هو سياسة رسميّة لأنظمة الخليج منذ غزو العراق لخدمة المُحتلّ.
5) من البنود السريّة - على الأرجح - للتحالف السعودي ــ الإسرائيلي هو تقويض دعائم مقاومة العدوّ في العالم العربي وبأي طريقة.
6) لا تنتج الحركات الدينيّة إلا حركات دينيّة مقابلة خصوصاً أن اليسار والحركات العلمانيّة ممنوعة من الحركة والنهوض.
لكن المملكة تنفي صلتها بـ«داعش» وأصدرت بياناً رسميّاً باللغة الإنكليزيّة (لغة أهل قريش) تنفي فيه تمويل «داعش»، والإعلام القطري بريء من التهمة أيضاً مع انه لا يشير إلى هجمة «داعش» إلا بصفة «ثورة عشائر العراق»، أي ان أعلام «القاعدة» زُرعت لتحوير الأنظار. ووريث حزب البعث في العراق، الذي تحوّل من قائد مزعوم لحركة قوميّة عربيّة إلى قائد مزعوم للطريقة النقشبنديّة المتحالفة مع آل سعود، يريد ان يقطف ثمار ذيليّته لـ«داعش» (كيف كان عفلق سيردّ؟). مشيخات وإمارات وممالك النفط تعترض على الإقصاء وعلى الطائفيّة: كان تعترض الحكومة الأميركيّة على تدخّل روسيا في شأن جارتها.
لكن موقف حزب الله الذي سيتبلور محفوف بالكثير من المخاطر. الرئيس الإيراني تحدّث عن حماية المقدّسات، وعن حق إيران في حمياتها. ماذا تعني حماية المقدّسات؟ كما تحدّث الحزب من قبل عن حماية «مقام السيّدة زينب» في دمشق. لكن لماذا لا يتحدّث أحد - من السنّة أو من الشيعة - عن ضرورة التدخّل العسكري في فلسطين المحتلّة لحماية المقدّسات الإسلاميّة هناك؟ والحزب الذي تدخّل في سوريا لأسباب سياسيّة غير طائفيّة - على مستوى القرار السياسي لا على مستوى القاعدة (برأيي وبالرغم من خلافي مع التدخّل الذي لا يمكن إنكار نجاحه في حماية لبنان من إرهاب عصابات قطر والسعوديّة وتركيا وإسرائيل القابعة في سوريا) سيجد صعوبة في تسويق تدخّل عسكري ما في العراق.
لا يمكن وصف المالكي بأنه رمز المقاومة أو أنه ممانع أو أنه عدوّ لإسرائيل، أو أن نصرته جزء من المعركة من أجل فلسطين. وقد دافع حزب الله عن موقف السيستاني الذي فتح الباب أمام تطوّع طائفي قد يعيد الحرب الأهليّة التي أشعلتها وأجّجتها أميركا. السيستاني صامت عن احتلال فلسطين ولا يصدر عنه تعبير عن معاناة شعب فلسطين (قد يجد أحدهم ردّاً منه على سؤال رقم 4994 على الإنترنت ويرسله لي ليثبت ان السيستاني لا ينسى فلسطين).
ستمعن أنظمة الخليج في حروبها: الفتنة الطائفيّة وخدمة العدوّ الإسرائيلي هما ذروتا «التعاون الخليجي». لا تتعاون إلا على ذلك. وهجمة «داعش» لا تُردّ بتكتّل طائفي مُضاد يمكن ان يعيد العراق إلى حرب أهليّة لم تنتهِ بعد. وبيانات المرجعيّة ستساهم في أغراض
«داعش» حتى لو لم يرد ذلك. والجمهور العربي بطوائفه مُتحفّر للتعبئة الطائفيّة حتى لو اتته من عرعور يصدح. تعرّى الفرد العربي إلا من قبيلته ومن طائفته. والتدخّل الغربي في صفّ إيران قد يعزّز مواقف آل سعود وتوابعهم وقد يجعل من أنظمة تابعة داعية استقلال وتحرّر.
كم تغيّر العالم العربي في عقود قليلة. لم تف الانتفاضات العربيّة بوعودها. القبيلة والطائفة والشلّة العسكريّة نافذة أكثر من أي يوم مضى. استطاع النظام الناصري وحركات اليسار والقوميّة العربيّة (قبل الاستيلاء عليها من قبل سلطات «البعث») ان يضع أنظمة الخليج في موقع الدفاع الضعيف.كان جلّ ما تطمح إليه تلك الدول ان تحافظ على تماسك العائلة الحاكمة أمام عامل الجذب الناصري. اليوم، نعيش وطأة ودمار هجمة خليجيّة فتنويّة لم نشهد لها مثيلاً من قبل. إن القدرة على ردّ تلك الهجمة يتوقّف على مدى مقاومة الفريق المقابل لجاذبيّة وجماهيريّة الغريزية الطائفيّة. قد نُصاب بالبركان.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)

أسعد ابو خليل

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...