غسان الرفاعي: حينما يسخر عملاقان!..

03-08-2008

غسان الرفاعي: حينما يسخر عملاقان!..

-1 ـ ليوم الأحد، في الأسبوع الأول من كل شهر آب، حضور استثنائي في ذاكرتي، لأنه يحيي في مخزوني اللاشعوري قامتين عملاقتين في الإبداع الثقافي، تركتا بصماتهما، لا في تكويني فحسب، وإنما في تكوين جيل بكامله: قامة الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري الذي كانت ألفاظه المصوغة من الجمر، تسمو بنا حتى تجعلنا أنصاف آلهة، تهبط بنا حتى تمسخنا إلى أنصاف أبالسة، وقامة الكاتب الأرمني الأميركي وليام سارويان الذي تغلغل في هواجسنا ومطامحنا وقلبها إلى لوحات من الأدب الساخر، وشقف ملتهبة من فلسفة غاضبة.

تكدسنا، في يوم أحد، في منزل ريفي، في ضاحية من ضواحي باريس، لنتابع العدوان الفاجر على العراق، حتى الصباح الباكر، كنا مجموعة من المثقفين العرب، يسكننا غضب عارم وقرف أسود، وكنا نشاهد مناظر داعرة من سقوط بغداد، كان بعضنا يصرخ «ياللأوغاد!»، والبعض يضرب صدره بيده، وفجأة ارتفع صوت مثقف عراقي شاب وأخذ يردد: «تقحم، لعنت، أزيز الرصاص» وهو الشطر الأول من بيت للشاعر العراقي الكبير المرحوم محمد مهدي الجواهري، ورد في قصيدة طويلة يرثي بها أخاه الذي قتل في تظاهرة سياسية في بغداد، ومن حيث لا ندري، بدأنا نردد معه، وبأصوات غاضبة: «تقحم، لعنت، أزيز الرصاص!» وكان يخيل إلينا أننا نحمل بنادقنا، ونخوض معركة ضد المعتدين. ‏

وفي يوم أحد آخر، قمت بزيارة الكاتب الأميركي الأرمني الأصل وليام سارويان، بعد أن علمت أنه يعاني من سكرات الموت في مستشفى «كاشان» في باريس، والذي اكتشفته في مطلع حياتي، والتهمت كل ما كتبه، أذكر ما قاله لي، بصوته المتقطع الحزين، وهو لا يخفي سخريته اللاذعة: سأمنحك سبقاً صحفياً مثيراً ستتناقله وكالات الأنباء، سجل يا صديق! ستكون آخر كلمة لي، قبل أن يقبض ملاك الموت على روحي هي «طز!» وسأقولها بملء الفم والرئتين، حينما أشعر بدنو أجلي، سأستدعي الأطباء والممرضات، أو سأطلب منهم أن يأتوني بسطل من الماء الفاتر المشبع بالملح، سأغطس قدمي فيه، وحينما أشعر بأن روحي ستغادرني، لا أدري إلى أين، سأصرخ بكل قوتي: «طز!» وتحاشيت أن تتلاقى نظراتنا، إذ كان يخجلني أن يكتشف دموعاً بدأت تهطل من عيني، أممكن أن يملك هذا العملاق كل هذه القدرة على السخرية؟. ‏

‏ ـ 2 ـ ‏

كانت موهبة الجواهري، المنسوجة من ألياف الجحيم والنعيم، تعذبنا في تنانير النار، وتنقعنا في برك الوحل، ثم تغسلنا في نوافير الماء الطهور، كان أكبر من الشخوص والمواقف، ولم نكن نملك إلا أن نعجب، ونغفر، وأن نتمتم، في شبه خشوع: «هو يحق له ما لا يحق لغيره، حتى الحق في أن يصفعنا، وأن يصدمنا!»، سبعون عاماً وهو يقود تظاهراتنا، في الشوارع والساحات، ويرجم معنا الطغاة والجلادين والفاسدين، ويغوص في أفراحنا وأوجاعنا وحماقاتنا، واخفاقاتنا، كنا نبكي بدموعه، ونغني للحرية بشفتيه، ونطلق النار من بندقيته، ونعشق النساء بقلبه، كان كالحاوي الهندي، ينفخ بمزماره، فتستيقظ صبواتنا، ومطامحنا، وأحقادنا، هرمنا وبقي شاباً، تعبنا وظل في الخندق، وخفنا، فلم يتوقف عن دعوتنا إلى «تقحم، لعنت، أزيز الرصاص!». ‏

‏ ـ 3 ـ ‏

رافقت الجواهري إلى مدينة ليون لاستشارة الاختصاصي العالمي في أمراض العيون الدكتور برنارد، بعد أن أرسله الرئيس حافظ الأسد للمعالجة في الخارج، إذ كاد يفقد البصر، وقد بادر الدكتور برنارد إلى إجراء فحوص قاسية ومؤلمة للشاعر الكبير، ما تسبب بإزعاجه، فالتفت غاضباً، وقال لي بحدة: ‏

«قل لهذا العلج أنني الشاعر الجواهري، صديق أراغون، وبابلو نيرودا ويشرّف الناس لقائي والاستماع إلي». ‏

وحينما أعلمت الدكتور برنارد أن الشخص الذي يعالجه هو أكبر شاعر عربي معاصر، ابتسم من دون اكتراث وقال: ‏

«وماذا يريد صاحبك، الحوار عن الشعر أم إنقاذ عينيه؟». ‏

وأجريت له عملية ناجحة «للجواهري» واسترد الرؤية، كان أول ما قال لي بعد أن عدته في المستشفى: ‏

«الطغيان الوحيد الذي يمكن تحمله هو طغيان العلماء، كل أصدقائي من الأطباء يحتضنونني ويقولون: سلمت عيناك يا أبا الفرات، ولكن عينيّ تضمران وتظلمان حتى كدت أفقد الرؤية، أما هذا العلج، فقد استخف بي، ولكنه أعاد إليّ الرؤية، ما أروع طغيانه!». ‏

وحينما خرج من المستشفى اصطحبته إلى ساحة مدينة ليون، كنا في بواكير الصيف، والشوارع مكتظة بالشابات الجميلات، وقد ارتدين الثياب الشفافة، و«الشورتات» القصيرة، وكن لا ينقطعن عن الدعابة والزقزقة، وقف الشاعر الكبير في وسط الشارع، وهو لا يصدق عينيه، كان ينظر يمنة ويسرة، إلى أعلى وإلى أسفل، ويصفق بيديه، ويدندن بنغمات، ويرقص، وكأنه زوربا اليوناني بطل الرواية المعروفة للكاتب اليوناني كونزاليس!. ‏

وفجأة أصابه الكدر، وقال وهو يسعل: «وما فائدة هذا كله، وهناك تابوت مدفون في داخلي!». ‏

ـ 4 ـ ‏

وفور عودتنا إلى باريس، قصدنا مقهى «الكلوني» في حي سان جرمان، وهو المقهى الذي كان يتردد عليه أثناء إقامته في باريس، اخترنا طاولة على الرصيف، وجلسنا نستعرض المارة بمتعة، وكان الجواهري في حالة استثنائية من النشوة والارتياح، قال في استرخاء: «ما أجمل أن نكون شباباً، وأن نعيش في هذا الحي الناشط!» ثم أخرج من جيبه ورقة صغيرة، وفرشها أمامه وقال لي: «هذا مقطع من قصيدة للشاعر الإيطالي أوجينو مونتالي الحائز جائزة نوبل للآداب، اقتطفته من صحيفة، واحتفظت به، أنه يتغلغل في ألياف دماغي، وآمل أن أضمنه في قصيدة جديدة لي: ‏

تريدون أن تقلعوا بلاط الشوارع ‏

وأن تقولوا لرجال الشرطة لا، لا، ‏

ولكن ما الفائدة، الشارع سيرصف من جديد، ‏

وستصبحون أنتم رجال شرطة! ‏

يزعمون أن عمر الشاعر لا يتجاوز عشرين عاماً، ثم يأفل ويخبو ويترك للدارسين والنقاد مهمة إحيائه أو قبره، ولكن الجواهري ظل «يرتكب الشعر» ـ كما يقول نزار قباني ـ سبعين عاماً، ودوماً يدهشنا بصور تجدده وصلابته. ‏

‏ ـ 5 ـ ‏

لقد اكتشفت وليام سارويان في مطلع حياتي، وترجمت معظم رواياته إلى العربية، وقد تملكني حزن شديد حينما علمت أنه في مستشفى كاشان في باريس، فقررت زيارته والتحدث إليه، لشعوري أنني مدين له، ويجب عليّ أن أرد جميله، كنت أعرف أدق التفاصيل عن سيرة حياته في حين لم يكن يعرف شيئاً عني، ولم يكن يعلم أنني ترجمت الكثير من آثاره إلى اللغة العربية، وقد أضفت هذه العلاقة «العبثية» سحراً خاصاً على اللقاء. ‏

قال بصوت واهن، وكأنه يسحب كلماته من كهف، لا قرار له، وهو يلهث من دون انقطاع: ‏

«إذاً، أنت من سورية، وقد ترجمت قصصي إلى العربية، ترى هل أعجب بها ناسكم؟، أم إنهم مزقوها؟». ‏

وانتابني شيء من الهلع والخجل، وشعرت وكأنني لص قد قبض عليه بالجرم المشهود، كيف أترجم قصصه وأنا لم أحصل على إذن منه؟ ولم أكتب إليه طوال هذه الفترة لاستئذانه، ولم يخطر على بالي أن أزوره إلا بعد أن استبد به المرض. ‏

‏ ـ 6 ـ ‏

استجمع شيئاً من حيويته الذابلة، وطفق يتحدث عن بعض ذكرياته، كان الموت يقفز من عينيه الداكنتين، ولكنه كان مصمماً على أن يستثمر كل دقيقة قبل الرحيل، قال وهو ينظر إلى النافذة المغلقة: ‏

«كان لي ابن عم اسمه مكرديج، يعمل في تصليح السيارات في مدينة حلب، يثق الناس به بسبب استقامته وكفاءته، ولم تمض فترة وجيزة حتى اشترى الكاراج الذي كان يعمل فيه، وتزوج من امرأة جميلة كان الجميع يحلم بالتزوج منها، وذات يوم أصابه مس من الجنون، وتولد عنده اليقين بأن مهمته الحقيقية هي إصلاح الناس لا السيارات، وحاول أقرباؤه وأصدقاؤه أن يعيدوه إلى الصواب، مؤكدين أن إصلاح الناس ليس من اختصاصه، وأن عليه أن يلتفت إلى عمله، وإلا حلت عليه الكوارث، ولكنه ازداد عناداً وتصلباً، كان يطوف على أفراد الجالية الأرمنية في حلب، داعياً إلى الفضيلة والإصلاح، إلى أن انتهى به الأمر إلى بيع الكاراج وتطليق زوجته، والهجرة إلى يريفان عاصمة أرمينيا السوفييتية، وهناك مات شحاذاً منبوذاً، صدقني، نحن جميعاً في عائلة سارويان، مصابون بمس من الجنون، ألا ينطبق هذا عليّ أيضاً؟ لو أنني فتحت دكان حلاقة، كما كان يريد لي والدي، أما كان أحسن من مزاولة مهنة الكتابة التي لا يلقى من يزاولها إلا العقوق!. ‏

ـ 7 ـ ‏

توردت وجنتا سارويان واستوى في جلسته، ثم قال: ‏

«تزوجت ثلاث مرات وما زلت عازباً، أتدري لماذا طلقت زوجاتي الثلاث؟ بسبب غرفة الاستقبال! بيد أننا اكتسبنا عادة تقديس هذه الغرفة منكم، أنتم الشرقيون! إننا نختارها أحسن غرفة من المنزل، وأكثرها وجاهة، ونضع فيها كل الأشياء الثمينة التي نعتز بها، في انتظار الزوار الذين غالباً لا يأتون، ولكن الأمريكان لا يقيمون وزناً لهذه الغرفة ويفضلون عليها المطبخ أو غرفة الطعام، وقد رفضت زوجاتي الثلاث، وكلهن أمريكيات، الاعتراف بالمكانة الخاصة لغرفة الاستقبال، وكن كلما تخاصمنا أو تشاجرنا لسبب من الأسباب يهجمن على الغرفة ويحطمن كل ما فيها من أثاث ومعروضات ولوحات وخزفيات، وكان علي أن أختار بين الزوجة وغرفة الاستقبال، وكنت دوماً أنحاز إلى الغرفة وأطلق الزوجة!». ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...