كوميديا الضجر في مهرجان دمشق المسرحي
ما زال المسرح التونسي سيداً في مهرجان دمشق المسرحي، ما عُرض كان له وقع طيب، واللافت أننا، صحفيين ونقاداً ومتفرجين، ما زلنا نتعامل مع العروض التونسية كماركة مسجلة (يابانية ربما)، خصوصاً أن فوضى تنظيم المهرجان لم تقدم للجمهور مطبوعات حول العروض ومخرجيها، يصبح الدليل هنا سمعة المسرح التونسي. والتوانسة لم يخيّبوا جمهورهم في عرضي هنا تونس وحالة مدنية وكلاهما من إنتاج فضاء التياترو، الذي يشرف عليه المسرحي المعروف توفيق الجبالي. ورغم أن الجبالي لا يتدخل في العروض التي ينتجها مسرحه، فإن حالة مدنية، التي أخرجها عاطف بن حسين، بدت وكأنها مشهد متقدم من مشاهد هنا تونس. السخرية ذاتها، والتكرار، وكوميديا الضجر، نقصد البحث في الملل البشري اليومي والمكرور عن الضحك. حالة مدنية يتحدث عن ثلاثة ممثلين (أداء: سوسن معالج، عبد المنعم شويات، فؤاد الإتيم) في ما وراء المسرح، في الكواليس، ولكن من غير سياق حكائي، إلى حد أن الجدل بين الممثلين الثلاثة يكاد لا ينتهي، خصوصاً أنه يبدو نوعاً من الثرثرة أكثر من أي شيء، ثرثرة يومية في أحوال الممثل، وفي علاقاته مع الآخرين من زملائه، علاقته مع المهنة وكيف جاء إليها، قصص مبتورة وغير مهمة عن البدايات، حتى عن المثقف العضوي، لكنها محض ثرثرة، وهنا إبداع الممثلين، لقد استطاعوا، في الثرثرة، أن يقدموا أداءً باهراً لحالات إنسانية شتى، في إطار ديكور بسيط شكل مع الإضاءة خطوطاً، أو خانات متوزاية تبدأ من الخشبة وتصعد لتشكل جداراً في العمق. لعل التوانسة مصرّون على تفكيك الضجر ومعالجته إلى حد أنه قد ينشأ نوع مسرحي خالص نسميه إبداع الضجر. وربما يصلح مثالاً مشهد لتوفيق الجبالي ممثلاً في واحدة من نسخ كلام الليل وهو يقرأ مذكراته بتأن، ويتصفحها كاملاً مع الإصرار على ذكر التواريخ بدقة، ولكن ليعيد قراءة اليوميات في كل مرة بالقول: لا شيء يذكر.
ولكن على أطراف المسرح التونسي ثمة مفاجآت بالتأكيد، من بينها العرض العراقي حظر تجوال من إخراج مهند هادي. عرض ميزتُه أنه جاء حقاً من العراق، حتى لو كان صنع خارجه، إنه عرض ساخن، بشخصيات جاءت للتو من الجحيم هناك. عرض بشخصيتين (أدّاهما رائد محسن، وسمر قحطان) تجيئان من القاع، بعيداً عن السياسة، على أطرافها، ولكن في عمق الحياة، فهي الشخصيات الأكثر لقاءً بالناس والشارع. الأول صبّاغ أحذية، والثاني غسّال سيارات. يلتقيان عند إعلان حظر التجول، وبالطبع فإن العزلة التي يفرضها الحظر تشعل البوح والحكايات وهموم الراهن. لا شك أن شخصين كهذين يعانيان رعب الحرب والعزلة والانتظار يذكّران ببطلي صموئيل بيكيت في في انتظار غودو، لكنه معادل شعبي، رأى فيه كثيرون خروجاً صريحاً عن طقوس المسرح العراقي المعهودة؛ اللطم والتفجع والأفكار الكبرى. وهو فوق ذلك ساخر ومضحك وخاطف. وعلى النقيض من الظهور الشعبي للمثلين، أُنشأ جدار في العمق بدا أنيقاً في استخدامه، أولاً على مستوى الإضاءة التي كانت تتسرب من بين شقوق الجدار، وثانياً بتلك النوافذ التي كانت تنفتح فجأة في الجدار، وتستخدم بشكل شرطيّ؛ تظهر الحذاء كناية عن رجل، أو مسدساً كناية عن عصابة. ولكن الاستخدام الأجمل هو استخدام النوافذ كما لو أنها أطر متجاورة وممزقة لصورة واحد، الأمر الذي يفيد التعملق مرة (لشخصية من رجال العصابات)، ويثير السخرية والضحك مرة أخرى. ولكن ما ينبغي الإشارة إليه أيضاً هو أن العرض بدا مثل مونودراماتيْن، بمعنى أن العرض لم يثر حواراً مسرحياً حقيقياً بين الشخصيتين بقدر ما أفسح لهما أن يتحدث كل عن نفسه. وهذا ما يدفع للتساؤل حول معنى كل منهما بالنسبة للآخر؛ هل يشكل كل منهما مستمعاً للآخر؟
شخصيتا حظر تجوال ذكّرتا الجمهور بشخصيتي حمّام بغدادي لجواد الأسدي، الذي عُرض بعده مباشرة في المهرجان، وكان شاهدَه الجمهور السوري من قبل، وكذلك جمهور مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي. فرغبة التطهير قائمة في العملين، حيث أحداث مسرحية الأسدي تجري في حمّام شعبي، وكذلك فإن شخصيتيْ هادي ترغب كل منهما بتطهير العالم عبر مهنة كل منهما، وبالطبع فإن شخصيات العملين تجيء من العراق الجديد، عراق الحرب والدمار والإرهاب. لكن شخصيات حظر تجوال تبدو أكثر عمقاً وأصالة؛ لم تُلق عليها عباءة التفكير، بمعنى أن تفكر سلفاً بأن هذه الشخصية ترمز إلى السلطة وتلك إلى الاحتلال. إن المسافة ما بين حظر تجوال وحمّام بغدادي هي نفسها ما بين خارج العراق وداخله، كيف يفكر الأول وكيف يعيش الثاني. هي المسافة نفسها بين الممثل العراقي الذي ينفعل بظرف حقيقي، لا افتراضي، ظرف يعايشه يومياً ويغني مخيلته كممثل، وبين ممثل مستعار من ثقافة مسترخية نسبياً؛ أيّ داع لاستعارة ممثل سوري للعب شخصية من القاع العراقي؟ والممثلون العراقيون يملأون الرحب؟! إن المسافة هي نفسها المسافة بين جدارين في المسرحيتين؛ جدار أصم يحيا في عمق حظر تجوال حين يشارك وينفعل وينفتح على صور وإشارات كثيرة، وجدار ملون بصور تجريدية في عمق حمّام بغدادي، لا تكاد تلحظ من متفرج في عمق الصالة، صور جامدة وثابتة وغير فاعلة في العرض.
وعلى هامش عروض المهرجان تستمر الندوات الفكرية تحت عنوان الشباب ومستقبل المسرح، وإذا كان المطلوب هو البحث في مشكلات الإنتاج المسرحي ومعضلة التمويل وما يواجهه الشباب، فإن العناوين تعددت إلى العولمة والمسرح العربي الجديد، وغيرها، الأمر الذي تفسره ماري الياس بالقول: حين نناقش تلك المشكلات علينا أن نضعها في إطار نظري فلسفي سياسي واجتماعي. ولكن يبدو أن فوضى العناوين هي ما حرفت النقاش عن مساره حين فتحت الصحافية المصرية عبلة الرويني النار على التمويل الأجنبي وما أسمته صيغة الاستعارة، حيث أخطر ما في السعي إلى التمويل أن يقدم المسرح نفسه على صورة الآخر، في كل المفاهيم، إلى حد استعارة المتفرج، بمعنى إنتاج مسرحيات تلائم ذائقة الأوروبيين. ووصلت الرويني حد اتهام فرقة الورشة المصرية وفوانيس عمان، حين قالت إن التآخي بين الفرقتين ليس بعيداً عن اتفاقيتي السلام اللتين وقعتهما مصر والأردن مع إسرائيل. الأمر الذي أثار الحضور، بعضهم لرد الاتهام، وبعضهم للتساؤل عن التمويل العربي في مشاريع الثقافة، وبعضهم للقول: أليس في قبول التمويل من بعض الحكومات العربية خطر يشبه الخطر الأوروبي؟!. كما أثيرت مسألة مشاركة ما أسمي عرب إسرائيل في المهرجان، في إشارة لمجموعة عرض الجدارية، فردّ مندوب وزارة الثقافة الفلسطينية وليد عبد السلام مدافعاً ومصححاً الاسم، قائلاً إنهم عرب ال,48 ولهم تضحياتهم ونضالهم المشرّف.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد