لماذا تطفح جرثومة الصراع المذهبي؟
ما كان يقلل من أخطار انقسام المسلمين بين سُنَة وشيعة في الماضي، هو وجود كيان دولة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، أياً كان شكلُها، كان الصراع المذهبي يتوارى وراء مفهومها. تعددت مسميات تلك الدولة؛ الأموية، العباسية، ثم دولة الأمويين في الأندلس التي استمرت ما يقرب من 800 سنة، وهو عمر طويل في استمرارية هيكل السلطة في سلالة ما على مكان جغرافي. فمفهوم الدولة في الحضارة العربية الإسلامية، كان كفيلاً بأن يطفئ الخلافات المذهبية، وإن لم يمنعها. وظهور الدولة الصفوية الشيعية في إيران وجوارها، أو الدولة الفاطمية في المغرب ومصر، لم يكن عامل صراع بين الطوائف الإسلامية. فالصراع تجلى في معظمه مع الدول التي جاءت من الخارج لغزو هذه المجتمعات الإسلامية؛ من التتار والمغول والصليبيين، حتى في العصر الحديث، كان صراع هذه المجتمعات بهدف التخلص من الاستعمار الأوروبي الحديث.
في القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، بدأت تظهر ملامح جديدة للصراع المذهبي، بخاصة بين السنة والشيعة، بظهور نمط جديد داخل الطائفتين، تمثَّل في الإسلام الراديكالي عند السُنة، والتنظيمات الدينية المسلحة الموازية للدولة، عند الشيعة على طريقة «حزب الله» في لبنان. وهو ما ساعد على تفريخ الكثير من الجماعات الإسلامية بمسميات جديدة كل يوم. وخطورة هذه التنظيمات تكمن في أنها تدخل فيها التوظيفات الموازية لمحاربة الدولة الوطنية التي تعيش في حضنها. فبالنسبة إلى الجماعات الإسلامية، يلاحظ أن صراعاتها الأساسية قائمة مع مجتمعاتها برفضها الكيان السياسي لها المتمثل في الدولة بمظاهرها الحديثة، ومن ثم، فلا مانع بالنسبة إليها لو هدمت ودمرت المجتمعات التي تعيش فيها على طريقة ما يفعل «داعش» وغيره من التنظيمات المتشابهة في المجتمعات التي غابت فيها الدولة. أما السمة الثانية لهذه الظاهرة غير المسبوقة، فتمكن، مع التطورات التي حدثت في العلاقات ما بين الدول، في استخدام تلك التنظيمات كأدوات لتحقيق أهداف إقليمية ودولية لدول أخرى. وهذه السمة تجمع الجماعات الشيعية والسنية على حد سواء، كما تشهد الآن الساحتان السورية واليمنية. فالفصيلان يُستخدَمان من قِبَل أطراف إقليمية تحت مظلة دولية بهدف تحويل الصراع الديني ليظهر بمساوئه داخل هذه المجتمعات. أما التطور الثالث والأخطر المتعلق أيضاً بالشيعة والسُنة، فيتمثَّل في أن التطرف الديني السُني بخاصة، لا يرى في الشيعي سوى أنه «كافر»، ومن ثم يستبيح مساجد الشيعة أثناء الصلاة في تعصب مقيت ينفي أي قيمة لتدين من يرتكبون هذه الجريمة. وهذا التطرف ضد الشيعة بهذا الشكل الإجرامي، يطاول أيضاً السنة الذين ليسوا على هوى هذه التنظيمات.
هذه الأعراض؛ يتحمل المسؤولية عنها أساساً ثُنائي الاستبداد السياسي والديني الذي كان متماشياً في أوقات سابقة من العصور الإسلامية على رغم العقلية التنويرية التي أبدعت في العلوم كافة وأفادت الإنسانية كلها. إن محاكمة الاستبداد السياسي في هذا السياق التاريخي ومقارنته بالحاضر، يظلم الشكل السياسي الذي ظهرت فيه هذه الدولة على مدار عقود ازدهارها. فنظام الحكم في إطار هذا العصر بهذا الشكل الذي ظهرت فيه، كان متطوراً في سياق هذا الوقت حتى لو بدت عليه علامات الاستبداد بمعايير الديموقراطية الحديثة.
ومع ذلك ينبغي تأكيد أن النظام السياسي في العصور الإسلامية لم يعد صالحاً للعصر الحالي الذي تطورت فيه نظريات الحكم وانتقلت في شكل عملي من حكم الفرد المستبد إلى حكم المؤسسات التي حولت القيم وفي مقدمها العدالة إلى واقع. والتطور في نظرية الحكم الديموقراطي في الغرب، استغرق قروناً عدة، حتى أصبح أفضل الآليات في إطار الحضارة الحديثة التي تحقق أكبر قدر من العدالة بأشكالها المختلفة داخل المجتمع، ليصبح الحاكم محايداً أمام هذه المؤسسات. فانتقلت سلطة الأفراد إلى وثيقة متفق عليها تسمى الدستور تحوي أكبر قدر من المبادئ التي تحقق العدالة. ومن هنا كان الانتقال من حكم الفرد إلى حكم القانون ليُرشِّد الكثير من العنف المجتمعي ويوفر الكثير من الجهد الذي يتم تحويله ليصب في قضية التنمية التي تخدم أهدافاً عامة تصب في مصلحة المجتمع ثم مصالح خاصة بالأفراد.
وهذا التطور للأسف عجزت المجتمعات العربية أن تمر به فبقي الاستبدادان؛ حكم الفرد وحكم الدين، مخيمين على عقلية هذه الشعوب. والنتيجة الطبيعية لهذا التحول الكبير، أن تطفو أمراض واقع مجتمعاتنا نحن على السطح بهذا الشكل الذي نشهده من صراع بين جماعات تفسر الدين وفق رؤيتها الراديكالية الضيقة وتفرض ذلك بالإرهاب على الآخرين، وصراع مذهبي داخلي يتم توظيفه من دولة إقليمية تريد فرض ذك على هذا الواقع المريض، فأصبح الجميع يعمل ضد الدولة الوطنية، بمن في ذلك من يحكمون باستبدادهم.
عزمي عاشور
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد