محمد الماغوط: شاعر القضايا الخاسرة يربح جائزة العويس
«ذئب بري» تسلق القمة ثم انحدر صوب كآبة بوهيمية
الجمل:
ونحن نرى الشاعر محمد الماغوط يتسلم جائزة العويس الثقافية الأسبوع الماضي، خطر على البال تحذير أطلقه، ذات يوم، الشاعر السوري ممدوح عدوان: «هذا ليس رجلاً تقدم به العمر، بل هو رجل تقادمت فيه الهموم والأحزان والفجائع وتخمرت في أعماقه الدموع الحبيسة». كاتب «الفرح ليس مهنتي» افرحته الجائزة، كما هدية العيد، وبات الفرح مهنته ـ كما قال ـ ليخرج من عزلة طويلة فرضتها عليه حالة اكتئاب، انقطع خلالها عن الحياة، حتى صوت فيروز لم يكن يسمعه.
شكلت عزلة محمد الماغوط لعدة سنوات، لغزاً حير أصدقاءه ومثقفين اعتادوا جلوسه في مقهى الشام، مثلما اعتادوا تلقف كل حرف يقطر من قلمه، موسعاً فضاء الحرية. وعندما عاد الشاعر إليهم عام 2000 كان جمهور غفير ينتظر إطلالته في حفل تكريم مهيب. لحظة نادرة في تأثيرها حين خانته عصاه في الطريق الى المنصة، سقط أرضاً ولم يعد قادراً على الصعود لحين، شعر أنه سمع بكاء الحضور مختلطاً بالتصفيق، اعتقد أن تلك جنازته، عندها فقط أيقن أنه على صواب في قناعة تكونت عبر الوقت، وهي أنه رمز لا يجوز له فعل ما يفعله مثقفو الزمن الجميل والرديء على السواء.
بدا شيخاً أنهكه الحزن الممزوج بشراهة التدخين والشراب، ما زال يصحو ليلاً ليدخن، ويتوكأ على عكاز، منذ رحيل رفيقة الدرب زوجته الشاعرة السورية سنية صالح عام 1985. سنية أكثر من رفيقة لشريد خرج من السجن ليدخل عالم الشعراء صدفة، ثم مكث تتقاذفه أرصفة مدن حملت كذباً بأحلام كبرى، وما فتأت تلد النكسات والخيبة. أحلام الماغوط الصغيرة لم تجنبه الفجيعة، دفع الثمن باهظاً كأصحاب الأحلام الكبيرة، فهو لم يقرأ ـ كما يؤكد دائماً ـ عن أفكار القوميين السوريين، لكنه انتسب لحزبهم بسبب وجود مكتب لهم، بالقرب من بيته بالسلمية، وفيه مدفأة، بينما كان مقر حزب البعث ابعد والطريق إليه موحل.
بهذا التبسيط يتبرأ الماغوط من آيديولوجيا زج بسببها في سجن المزة في دمشق (1955 ـ 1956) حيث سيتعرف إلى أدونيس، الذي سيقدمه في ما بعد إلى شعراء مجلة «شعر» في بيروت. في السجن كتب على ثلاثة دفاتر من ورق سجائر «بافرا» الشفاف، وحين خرج هربها تحت ملابسه الى بيروت، لازمه الخوف والقلق. وتحكي عنه زوجته سنية صالح أنه كان «يرتعد هلعاً إثر كل انقلاب مرّ على الوطن، وفي أحد هذه الانقلابات خرجت أبحث عنه، كان في ضائقة وقد تجره تلك الضائقة إلى السجن أو إلى ما هو أمرّ منه، وساعدني انتقاله إلى غرفة جديدة في إخفائه عن الأنظار. غرفة صغيرة ذات سقف واطئ حشرت حشراً في إحدى المباني، بحيث كان على من يعبر عتبتها أن ينحني. وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمان». في تلك الغرفة عاش عدة أشهر كما «العصفور الأحدب»، عنوان مسرحية كتبها حينذاك.
من السجن الى بيروت، حيث حل عليها شاعراً فطرياً من خارج المشهد الشعري. يكره الفلسفة، لأنه بوهيمي يرسم الصور بالكلمات، شعره ينسال نحو الراوية والمسرحية والمقالة. لم يهتم بوزن ولا قافية ولا آداب ولا ثقافة. «لن أسمع إلا طقطقة القصائد في جيوبي وارتطام الحقائب على ظهري من مكان إلى مكان».
عاش في بيروت غريباً، حسب رواية سنية «عندما قدمه أدونيس في أحد اجتماعات مجلة «شعر»، وقرأ له بعض نتاجه الجديد الغريب، من دون أن يُعلن عن اسمه، ترك المستمعين يتخبطون، من هذا؟ هل هذا الشعر لبودلير، أم لرامبو؟ لكن أدونيس لم يلبث أن أشار إلى شاب مجهول غير أنيق أشعث الشعر، وقال: هو الشاعر. لا شك أن تلك المفاجأة أدهشتهم، وانقلب فضولهم إلى تمتمات خفيفة. أما هو وكنت أراقبه بصمت، فقد ارتبك واشتد لمعان عينيه».
السجن كسر شيئاً في داخله
في لقاءات جماعة «شعر» التي كانت تتم في منزل يوسف الخال، كان الماغوط أكثرهم صمتاً، يسمع أسماء شعراء غربيين لا يعرفهم، وعندما يحضر الطعام يأكل. أنه الجوع الساكن فيه، الذي رسم أقدار حياته، وطبع سخريته بالمرارة، فحتى المدرسة الزراعية التي غادرها الى السجن في سن صغيرة، التحق بها لأنها داخلية وتقدم الأكل مجاناً. لذلك، ربما، التزم بالفقراء والقضايا الخاسرة، فقد تعلم من تجربته الأولى في السياسة ألا يكون «ذيلاً أو ممسحة لأحد»، وبعد ما سجن ما عاد راغباً في أن يكون «مع أو ضد أحد». «هكذا أنا لست ضد أو مع أي نظام عربي».
السجن كسر شيئاً داخله، ما زال حتى اليوم يرممه. أحب بيروت وأثرت فيه كثيراً، سجن فيها ايضاً عام 1962، لكنه، ذاق فيها طعم الحرية والهواء الطلق، في مقاهيها وصالوناتها ودور النشر الكبرى. وعاد من بيروت الى دمشقه شاعراً معروفاً، حاملاً مجموعته الأولى «حزن في ضوء القمر» و«غرفة بملايين الجدران»، صدرتا عن دار مجلة شعر على التوالي عام 1959 و1960، وانتظرت مجموعته «الفرح ليس مهنتي» عشر سنوات لتصدر عام 1970، في دمشق. ثم أخذ الماغوط استراحة من الشعر، امتدت لغاية وفاة زوجته، التي كتب فيها أجمل قصائده وضمنها كتاب «سياف الزهور» 2001، تبعه «شرق عدن غرب لله» عام 2004، ومؤخراً «البدوي الأحمر»، مجموعة مقالات مكتوبة بلغة ماغوطية مجبولة بالسخط. «بلادنا غارقة في المرض والجهل والبطالة والديون والعمالة والجنس والحرمان والمهدئات والمخدرات والوصولية والأصولية والطائفية والعنف والدم والدموع، ونحن مشغولون بغرق تيتانيك».
الماغوط وتهمة التنفيس
فترة انقطاعه عن الشعر في السبعينات، تركز نشاطه على المسرح، وقدم عدة أعمال انطبعت في ذاكرة الجماهير العربية، كضحكة مريرة من واقع حافل بمتناقضات مثلت لمجتمعاتنا قدراً مفروغاً منه، نبش حواشيها السوداء مثيراً ضحكاً كالبكاء، لذلك اتهمت أعماله لاحقاً بأنها تنفيسية، وبالأخص التي تشارك في كتابتها مع الفنان الكوميدي دريد لحام، كمسرحية «ضيعة تشرين» و«غربة» و«كاسك يا وطن» و«شقائق النعمان» والأفلام والمسلسلات التلفزيونية كـ«التقرير» و«الحدود» ومسلسلي «وادي المسك» و«وين الغلط»، وغيرها من أعمال، زادت في شعبية أفكاره وانتشارها، فدخل عبر التلفزيون والفيديو، غالبية البيوت العربية حتى تلك التي لا تدخلها الكتب. لقد كان لسان حال جماهير أوجعتها الهزيمة، وتتلهف لنقد قاس ينتقم لآلامها، فجاءها مسرح الماغوط كالملح على الجرح. زاد في تأثيرها مساهمة دريد لحام الذي حول الأفكار من النكتة السوداء، الى شخوص من لحم ودم.
شهدت تلك المرحلة صعوداً مدهشاً في مسيرة الماغوط الإبداعية، سرعان ما آلت الى انحدار مع الوصول الى مسرحية «شقائق النعمان»، حيث لم تحقق نجاح المسرحيات الثلاث التي سبقتها، وتوجت تلك المرحلة بقطيعة مع دريد لحام، انتهت مؤخراً مع بدء عملهما مجدداً، في فيلم مشترك قيد الانجاز.
مسرحيتا الماغوط اللاحقتان «خارج السرب» و«قيام جلوس سكوت» اللتان قدمتا مؤخراً في دمشق، لم تأتيا بمستوى ما سبق، ولا شعره ومقالاته الحديثة. ثمة ما تغير، ومن المؤكد أنه ليس الماغوط، فهو لم يفشل ولا يعترف بالفشل لأن «الفشل أحد اشكال الموت». وهو ما يزال حياً، وإنما زمن يمضي سريعاً جارفاً معه بريق وسحر مرحلة كاملة بما فيها الحاجة للهجاء المرير. تغير العالم اللاهث على الدروب الرقمية، فيما الماغوط يغط في غرفته المعزولة، كمحمية للكلمة الصادقة التي تفجر ثورة، نديمها الكأس والوحدة وذكريات عمر مضى بكل ما فيه، من دون أن يقلل ذلك من قيمة ثابتة، اكتسبها الماغوط من عمق تأثيره في عدة أجيال من المثقفين. فقد مثّل الرجل نموذجاً ناجحاً للريفي القادم الى المدينة، كي يلعب دوراً كبيراً على المسرح الكبير، وأمام الجمهور العريض. إلا أن سر نجاح الماغوط، قدرته على فرض بدائيته على المدينة، فلم يتطبع بها، وإنما أحدث وجوده انقلاباً في مشهدها الثقافي، رغم ثقافته الضحلة، فكتب الشعر بروح قوال البوادي الأمي، راسماً بالشجن صوراً شعرية منثورة على وتر الربابة.
نصير الفقراء والمذعورين
كتب الماغوط لأناس يشبهونه، للفقراء والمسكونين بالذعر، لتكشف شعبيته أنهم غالبية في عالمنا العربي، أحبهم وخاف من حبهم، ومن هالة يحيطونه بها تمنعه من ارتكاب الخطأ، حتى لو مات من الجوع. وهو الذي دأب على قول وفعل الشيء ونقيضه، دون شعور بالذنب أو الندم. فهو لا يندم على كلمة كتبها، ولا على شيء فعله.
يجانب الصواب من يصنع منه عملاقاً، لأنه سيصعب عليه الإدراك لاحقاً أن الماغوط طفل بريء عفوي لا يعرف الكذب ولا المجاملة، ولا يتقن فن الحكي، وبوصف أدق نستعيره منه «ذئب بري» عاش حياته في بيروت ودمشق والسلمية، التي قال عنها: «السلمية الطفلة التي تعثرت بطرف أوروبا/ وهي تلهو بأقراطها الفاطمية».
يكره الشيخوخة وجسده في غروب. لذلك يقول «أكره جسدي. إنه حقير، تافه. لم أراع جسدي، وها هو ينتقم مني رويدا رويدا»، يحن لمشي طويل ثابر عليه ثلاثين عاماً من بيته وسط دمشق الى مقهى أبي شفيق في الربوة. أغلق المقهى وقدماه لم تعودا تساعدانه على المشي. ودمشق الحديثة بدلت أرصفتها، ولم يبق لنا سوى حق الاعتراف بالخوف والذل والكبت، الحق الذي يذكرنا به وأشار إليه ممدوح عدوان حين تحدث عما تعلمه من الماغوط بأن «الاعتراف بهذا الذل هو النصر الوحيد الذي بقي لأناس مثلنا في عالم مثل هذا العالم».
إضافة تعليق جديد