من «الفوضى البناءة» إلى «خلط الأوراق»
الجمل ـ سعاد جروس : ما جرى على الساحة الفلسطينية بين «فتح» و«حماس» كان له دوي الصدمة في الشارع السوري, الذي بدا عاجزاً عن وصف موقفه مما يحصل. أحد المسؤولين قال, ما جرى هو أسوأ ما تعرضت له القضية الفلسطينية عبر كل تلك العقود من الصراع. فيما وصف نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع في لقاء له مع الصحفيين الخميس الماضي ما يحدث في فلسطين والمنطقة «خطير جداً » محذراً من «عملية خلط أوراق لا سابق لها في المنطقة, خصوصا في فلسطين, فالمواقف المتناقضة بين حركتي «فتح» و«حماس» وصلت إلى أبعد حدود التطرف بينهما... على الرغم من عدم أحقية أي طرف فلسطيني في تهميش طرف فلسطيني آخر» منوهاً في الوقت نفسه بأهمية حركة «حماس» على الساحة الفلسطينية قائلاً: «إن أحداً لا يمكنه تجاهل ذلك». وقد وضع الشرع التصريحات التي صدرت اخيرا عن بعض القياديين الفلسطينيين في سياق انفعالية ناجمة عن حالة عاطفية موقتة, محملاً إسرائيل أولاً وأميركا ثانياً وكل من يؤيدهما في الساحة الإقليمية مسؤولية الأزمة في غزة وتداعياتها, وهذه التداعيات تعني أن إسرائيل لا تريد دولة فلسطينية مستقلة.
تركيز الشرع على استخدام مصطلح «خلط الأوراق» للتعبير عما يجري, بعد أن كان يستخدم مصطلحات مثل «عنف طائفي» أو «فوضى بناءة», يُفسر على أنه تنبيه غير مباشر إلى تغيير طريقة تنفيذ المخططات المعدة سلفاً, وبمعنى آخر تغير قواعد اللعبة من دون المساس بالأهداف. فخلط الأوراق على الساحة الفلسطينية يوضح مع تداعيات الحدث العاصف, معنى ترافقه بتدفق دعم المساعدات الدولية لجماعة «فتح», في وقت أعلنت فيه غزة سجناً كبيراً لأكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني, المزمع اختبار قدرتهم على التحمل والصمود, بعد تجاوزهم لأكثر من خمسة عشر شهراً من الحصار الدولي, حيث ستُتبع سياسة اميركية إسرائيلية جديدة تعتمد على مبدأ «إطعام الضفة وتجويع غزة», وهو ما انتقده بشدة الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر, كما حذر من مخاطره نائب الرئيس السوري فاروق الشرع اذ قال «يجب توقع أي شيء من إنسان محاصر, الحصار عدو العقل والحكم السليم, والمحاصر هنا هو الشعب الفلسطيني, وما جرى أصلا كان نتيجة لهذا الحصار».
عملية خلط الأوراق, برزت في الفعل العربي المرتبك حيال الموقف المفترض أن يتخذ من قبل دول عربية معنية بالقضية الفلسطينية وبين الموقف الذي ستدفع اميركا لاتخاذه, وهو تقديم دعم لا مشروط لمحمود عباس وحكومة الطوارئ ضد «حماس».
ومع أن الشرع قال: إنه "لا يوجد وجود موقف عربي واحد يوافق على حصار غزة ويعترف في الوقت ذاته بشرعية حكومة الطوارئ". إلا أن الواقع والحركة الدبلوماسية العربية تجاه الأطراف الفلسطينية تبين أن حلفاء اميركا من العرب يرجحون كفة «فتح», وسيمضون في تنفيذ سياسة تجويع غزة بذريعة تحميل كامل المسؤولية عما ما حدث لـ«حماس» والتي بعض زعمائها للأسف يتحدثون عما جرى وكأنه انتصار لهم.
سوريا لم تظهر أي رضا عما جرى, بل العكس تماماً: تفتيت الفلسطينيين يزيد التوتر في المنطقة, ويعمق الأزمة ويجعل السلام بعيداً إذا لم يكن مستحيلا. وعبر الشرع عن صعوبة اتخاذ موقف مع طرف ضد طرف آخر, فكل طرف يحمل الآخر المسؤولية. وشدد على أن «من يقف مع طرف ضد طرف يدمر القضية الفلسطينية» مؤكداً أن «لا سلام مع وجود شرخ خطير في الساحة الفلسطينية, لأنه سيكون سلاما مطعوناً فيه سلفاً». داعياً للعودة إلى الحوار وإن لم يؤت ثماره سريعاً, لأن الحوار الفلسطيني مطلب حيوي بالنسبة الى القضية الفلسطينية, لرأب الصدع الكبير وتدارك ما سيتسبب به من انهيارات. ودعا أيضاً الفصائل الفلسطينية الأخرى التي غيبها الفصيلان «فتح» و«حماس» الى التدخل وممارسة دور في لمِّ الفصائل الفلسطينية بالكامل, حيث لا حل آخر يبدو سوى الحوار, أمام سيناريوات مفتوحة على أسوأ الاحتمالات في منطقة يجري فيها عملية خلط أوراق واسعة من فلسطين إلى لبنان وصولاً إلى العراق.
على هذه الخلفية يمكن القول إن خطة عزل ومحاصرة «حماس» في غزة ليست سوى حلقة من خطة تفكيك محور الممانعة (سوريا ايران «حزب الله » وقوى المعارضة اللبنانية الفصائل الفلسطينية). إن عملية فك الارتباط بين سوريا وإيران مطروحة بقوة, كشرط إسرائيلي اميركي للعودة إلى مفاوضات السلام مع سوريا. وفك هذا الارتباط يعني قطع الخيط الأساسي في عقد محور الممانعة. وكان لافتاً تأكيد الشرع في حديثه الأخير على أن «التحالف مع إيران هو أمر سيادي» وتجاه صعوبة فك هذا التحالف بين البلدين, تتجه الجهود نحو ضرب «حماس» في فلسطين بتحشيد المجتمع الدولي والعربي ضدها, وإبطال مفعولها ضمن محور الممانعة.
كذلك «حزب الله» في لبنان الذي تعثرت, إذا لم نشأ القول, فشلت كل الجهود الرامية لتوريطه في صراع لبناني داخلي يبرر وضعه في قفص العزل الدولي, وليس خافياً أن الدعوات إلى تدخل عربي لحماية اللبنانيين من سوريا, جاءت بعد فشل دعوات نشر قوات يونيفيل على الحدود. وكشف الشرع عن أن سوريا لم تلمس رغبة لدى أي دولة أوروبية في إرسال قوات للمرابطة على الحدود بين سوريا ولبنان, وقال: «ليست هناك أي دولة مهتمة أو جدية على استعداد لنشر قواتها على الحدود, فهم ليسوا من الغباء أو السذاجة لنشر قواتهم على الحدود مع سوريا». كما استبعدت الأمم المتحدة هذا الخيار. أما العرب فلا يبدو أن الدعوات لتدخلهم قد لاقت استجابة. وقال الشرع إنه لا يرى إمكانية لأي تدخل عسكري لا عربي ولا سوري في لبنان «لأن لبنان نضج وبلغ سن الرشد وقادر على حل مشاكله بنفسه. ويمكن أن تساعده سوريا والعرب والمجتمع الدولي. لكن لا أحد يساعد لبنان مثل اللبنانيين». ضمن إطار هذه الرؤية جرى تحرك عمرو موسى في لبنان لحث الأطراف كافة على العودة إلى طاولة الحوار, وصدرت إلى جانب ذلك تأكيدات من الجامعة العربية بعدم إمكان استبعاد سوريا من أي حل سيجري في لبنان, كونها دولة عضواً في الجامعة العربية مجاورة للبنان ومعنية باستقراره. وكان الموقف السوري الذي عبر عنه الشرع منسجماً مع الطرح العربي للحل في لبنان, مستبعداً تكرار السيناريو الفلسطيني من حيث قيام حكومتين, في حال استمر التجاذب اللبناني, كما استبعد أي حل ناجع يأتي من خارج لبنان عربياً أو دولياً مؤكداً أن «سوريا تعتقد انه من غير الممكن تحقيق أي شيء خلاف الرؤية القائمة على تحقيق حكومة وحدة وطنية, من دون ذلك لن يستقر لبنان, لا علاقة لسوريا ولا لأي دولة عربية أخرى. هذه حقيقة لبنانية لبنانية».
إلا أن واقع الخلافات اللبنانية اللبنانية والإصرار على اتهام سوريا بشكل دائم ومستمر يشير إلى صعوبة نجاح المساعي الداعية إلى الحوار, ويمكن قراءة الاحتمالات المستقبلية على خلفية تداعيات ما جرى في غزة, بأن تفتيت فلسطين ولبنان جزء من عملية تفكيك محور الممانعة, كما ان الأمور في لبنان تتجه نحو التأزم لتهيئة الأرضية لإضعاف «حزب الله» وحلفاء سوريا. وقد رد الشرع على هذا في سياق إجابته عن سؤال حول إمكان قيام سوريا بإغلاق حدودها مع لبنان ولا سيما بعد إغلاق ثلاثة معابر من أصل أربعة, فأوضح «إغلاق الحدود بشكل كامل, خطوة كبيرة جداً لا يمكن اللجوء إليها إلا في حال يستحيل فيها إصلاح العلاقات السورية اللبنانية». وحول العلاقات مع لبنان قال: «لا اعتقد أن هذه العلاقات معرضة للتفجير أبداً. بضعة سياسيين في لبنان لا يفجرون علاقات أخوية بين بلدين تربطهما علاقات قربى. ولا يمكن لحفنة من السياسيين ولو ملكوا قسماً من الجمهور اللبناني, أن يقودوا سوريا إلى قطع العلاقات وإغلاق الحدود أو إلى نزاع مسلح بين البلدين». وزاد: «لدينا حلفاء في لبنان أكثر قوة من الآخرين, لو أرادوا استخدامها. لكننا نشجع على الحوار والتوافق».
المنطقة أمام احتمالين, إما الاستجابة لسيناريو التفتيت الكارثي الذي تمضي به اميركا والذي سيدفع ثمنه الجميع, وقد بدأت إرهاصاته في فلسطين وإما العودة إلى الحوار, ودعم الأصوات المطالبة بالسلام, وجعله السيناريو البديل عن سيناريوات «الفوضى البناءة» و«خلط الأوراق», على الرغم من ضآلة فرص السلام بوجود رؤساء كبوش وأولمرت اللذين يفضلان استخدام القوة لتحقيق أهداف ومصالح بلديهما. بينما سوريا التي تسمع من إسرائيل نداءَي الحرب والسلام معاً, نراها تصدق نداء الحرب وتستبعد جدية إسرائيل في حديثها عن السلام, وحسب الشرع: «أميركا وإسرائيل لا تريدان السلام مع سوريا», ودمشق تأخذ التهديدات الإسرائيلية بشن الحرب على محمل الجد.
بالاتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد