من هو «المثقف الديني»؟
يمكن تعريف «المثقَّف» بأنه: الإنسان المنتج للمعرفة المنظَّمة، الذي يهدف، ومن خلال هذه المعرفة، إلى تحقيق دور ثلاثي الأبعاد: بُعد معرفي محض يتعلَّق بتخصُّصه الحقلي، وبُعد نخبوي يتعلَّق بمجتمع التخصُّص أو مجتمع الحقل المعرفي الذي يشتغل فيه المثقَّف تماثلاً مع أقرانه، وبُعد مجتمعي واسع يتحرَّك المثقَّف من خلاله في المجتمع العام ليتداول خطاب معرفته في أوساط هذا المجتمع بالانطلاق من مرجعيات فكرية أو اعتقادية أو أيديولوجية أو جمالية، ومن خلال منهجية عقلية أو نقدية أو إيمانية أو تجريبية، اختار المثقَّف، أو قُدِّر له، التفكير من خلالها في الطبيعة والمجتمع والإنسان والمستقبل والوجود وما بعدها أو وراءها.
يؤسِّس المثقَّف المعرفة المنظَّمة في ضوء رؤية فكرية، وعلى هدى منهج تفكير متساوق ومتناغم ومنسجم ومتآلف مع الرؤية التي اصطفاها، ويتداول جملة من المفاهيم والمصلحات التي تمثل مفاتيح المعرفة المنظمة التي يبتنيها. وبما أن المعرفة المنظَّمة التي ينتجها المثقَّف، أي مثقَّف، مستندة إلى رؤيته ومنهجه، فإن هاتين المرجعيتين تتأثران بموجودية المثقَّف الذاتية كإنسان يعيش في مجتمع له حراكه التاريخي والثقافي والجهويُّ، وله راهنيته المُعاشة، وله قواه الفاعلة فيه، كما أنهما تتأثران بموجودية المعرفة ذاتها من حيث حقلية حراكها المعرفي، ونسق التوصيل فيها، فضلاً على أقنعتها ومقارباتها التي يتوسَّلها المثقَّف بغية التأثير في مجال تداولها مجتمعياً، كذلك تتأثران بحراك المجتمع العام بكل ما فيه من قوى مؤثِّرة في تكوينه ومسارات أو تحوُّلات صراع القوَّة فيه.
ما هو بديهي أن مصطلح «المثقَّف» هو من المصطلحات الحديثة الاستخدام والتداول في الثقافة العربية والإسلامية، إلاّ أنه في مدلوله الضمني يشير إلى طائفة أو جماعة أو فئة أو طبقة أو نخبة أو صفوة من الناس تتداول المعرفة في المجتمع، وكل هؤلاء هم أشخاص موجودون في التاريخ وعبره، وفي كل المجتمعات، وعلى أرض الواقع، وبين الناس.
كان المثقَّفون منتشرين في المجتمعات القديمة منذ أن تمكَّن الإنسان من استخدام المعرفة كأداة للتوصيل والتفاهم البشري، ومنذ أن نشأت النُّظم المجتمعية التي كانت تتطلَّب نفراً من العارفين في شؤونها والقادرين على توصيل رسالتها إلى المجتمع. وفي خلال التاريخ شغل المثقَّفون مجالات واسعة لعبوا فيها أدواراً كثيرة، لا تعدُّ ولا تُحصى، وبحسب المتغيرات التي كانت تحتم ظهورهم كما غيابهم.
ترانا هنا نستخدم مصطلح «المثقَّف الدِّيني»، وهو مصطلح قد يحيل على الفور إلى إشكال مفاهيمي، إلاّ أن الأمر لا يبدو بهذه الدرجة من التعقيد، فهذا المصطلح تمَّ تداوله في الأدبيات العربية والغربية المعاصرة، إذ كنتُ قد قرأته، بدايةً، في عام 1986، في كتاب صغير للكاتب الجزائري الراحل عمّار بلحسن كان عنوانه (انتيلجنسيا أم مثقَّفون في الجزائر؟)، وذلك في معرض حديثه عن نظرية المثقَّف العضوي للمفكِّر الإيطالي أنطونيو غرامشي، ولم أُلاحظ على بلحسن أنه دخل في بناء المفهوم وطبيعته إنما مرَّ عليه سريعاً.
كذلك طالعت المصطلح ذاته عام 1994 لدى الكاتب الفرنسي يان ريشار في بحث له نشره باللغة الفرنسية عام 1989، وظهر مترجماً إلى العربية مع بعض التعديلات ضمن كتاب حرَّره ريشار مع زميله جيل كيبل تحت عنوان (المثقَّف والمناضل في الإسلام المعاصر، 1990). وفي الواقع، كانت مقاربة يشار لمفهوم «المثقَّف الدِّيني» ذات مساهمة مهمة في الأدبيات الأوروبية، خصوصاً أنه عالج مسألة المثقَّف، ومن ثمَّ بزوغ «المثقَّف الدِّيني» في التجربة الإسلامية الإيرانية، وخلص قائلاً: منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران، يشهد الوضع هناك بروز فئة جديدة من منتجي الخطاب الذين يدمجون المرجعيَّة الإسلامية، وهي بالطبع جزء من مضمارهم الأيديولوجي، في خطاب ذي طابع فكري واضح تَغْلُب فيه مرجعيات النسق المُترجم. وهؤلاء المثقَّفون الجُدد هم، في آن معاً، ورثة المنظِّرين الرافضين في مرحلة ما قبل الثورة والمثقَّفين المتغرِّبين، الروّاد، ورجال الدين الذين تحوَّلوا إلى التعليم الجامعي والمهندسين الإسلامويين الذين درسوا الفقه. والمهم هنا، في مقاربة يشار هذه، هو ظهور أنموذج المثقَّف الإيراني الذي يجمع بين مرجعيتين، إحداهما فكرية «عقلية»، والأخرى «دينية» أصولية، ولكن تبقى الأخيرة هي المرجعية الغالبة لأنها الحاضنة المؤسِّسة لحراك هكذا نوع من المثقَّفين.
الأهم في هذه المقاربة الفرنسية هو فكرة العُبور Trans من الرؤية الأُحادية أو المرجعية الواحدة إلى الرؤية الثنائية أو ما أُسميه بـ «المرجعية المتنافذة»، إلاّ أن هذا العُبور لم يكن منفلتاً من عقال أيٍّ من المرجعيَّتين سوى أنه مال إلى الفضاء الدِّيني في ميسمه العام، ولذلك اكتسب «المثقَّف» هنا صفة «ما هو ديني»، فالحقل الذي يشتغل فيه هذا المثقَّف هو الحقل الدِّيني، وهو حقل يعمل في فضائه الفُقهاء أيضاً. على أن مصطلح «المثقَّف الدِّيني» ذاته لا يمكن اعتباره مصطلحاً دالاً على نحو تكاملي لينطبق على الذين يشتغلون فيه، فهو مصطلح مطّاط حتى اللحظة، لكنه وعلى رغم ذلك، يحيل في دلالته، إلى فئة من المتخصِّصين في المعرفة الدِّينية وما فيها من مرجعيات وأساليب توصيل وتأثير في المجتمع.
حظي مصطلح «المثقَّف الدِّيني» باهتمام ريادي من جانب المفكِّر الإسلامي السعودي زكي الميلاد، فبين عامي 1994 ـ 2000 عكف على متابعة هذا المفهوم في الأدبيات الغربية والعربية والإسلامية حتى تكامل عنده البحث الدؤوب في كتاب حمل عنوان: (محنة المثقَّف الدِّيني مع العصر، 2000)، وهو الكتاب المخصوص حتى الآن في مجال البحث عن أوضاع المثقَّفين الدِّينيين في المجتمع العربي والإسلامي، والذي اعتقدَ فيه أن الأدبيات والكتابات العربية لم ترد فيها (تسمية المثقَّف الدِّيني أو الإسلامي إلا نادراً جداً كما في كتابات الدكتور محمد أركون الذي استخدم عبارة «المثقَّف المُسلم» في كتابه «الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد»، وهي عبارة لم تسلم من التغيير، حيثُ تدخَّل في تركيبها المترجم، الذي قدَّم الكتاب باللغة العربية، وهو هاشم صالح، وأضاف إليها كلمة «العربي»، اجتهاداً منه، فأصبحت العبارة التي تكرَّرت في الكتاب: المثقَّف العربي أو المسلم). وتطرَّق الميلاد أيضاً إلى جملة من المصطلحات التي يوصف بها راهناً المثقَّفون الدِّينيون، والتي استخدمها عدد من الباحثين والمفكِّرين العرب والمسلمين، يقول الميلاد: في بعض الكتابات العربية الأخرى، وردت هذه التسمية أو ما يشابهها في المعنى، لكن بطريقة أصبحت لا تخلو من الاستخفاف والتهكُّم، ولو بطريقة غير مباشرة، كتسمية «المثقَّف الإسلاموي» أو ا»المثقَّف السَّلفي»، كالتي وردت في بعض كتابات عبدالإله بلقزيز، الذي حاول أن يميز بين «المثقَّف الإسلاموي» و «المثقَّف السَّلفي» بطريقة تفتقد إلى الوضوح والدِّقة المفهومية، كما أنه لم يحدِّد معياراً واضحاً لهذا التصنيف.
لقد أرجع الميلاد إشكالية مصطلح المثقَّف الدِّيني إلى أسباب عدَّة، منها: غياب المثقَّف الدِّيني نفسه أو ضَعف حضوره الثقافي، ومحدودية مشاركته في العطاء الاجتماعي، والتواصل الواسع مع الساحة وبين الناس، والتباس مفهوم المثقَّف في ذهنية بعض شرائح الوسط الدِّيني، يضاف إلى ذلك أن الصورة التي قدَّمها المثقَّف عن نفسه في العالم العربي والإسلامي، على الأغلب وليس على الإطلاق والتعميم، أقل ما يقال عنها إنها لم تكن مشرِّفة.
بدت دراسة الميلاد المفهومية والتداولية لمصطلح «المثقَّف الدِّيني» مهمة من الناحية المعارفية، وهي مهمة من الناحية الوظائفية الخاصة بهذا النوع من المثقَّفين، فتحت عنوان «مهام المثقَّف الدِّيني» قدَّم لنا الميلاد محاولة رائقة لرسم وظائف وأدوار هذا النوع من المثقَّفين، وهي: انبعاث المثقَّف الدِّيني نفسه، والإعلان عن حضوره، وانتزاع دوره، والبرهنة على كفاءته وجدارته. إنتاج المعرفة الدينية وتنمية الثقافة. مواجهة الاختراق الثقافي. توجيه الاهتمام بالمشكلات الكبرى في الأمة. تطوير وعي الأمة بقضايا العصر. الجمع بين الدِّين والمعاصرة. الاندماج والمشاركة الإنمائية في المجتمع. المشاركة بدور مسؤول بين الأمم والشعوب والحضارات. كما أنه، وفي الكتاب ذاته، وتحت عنوان «انبعاث المثقَّف الدِّيني» قدَّم الميلاد جملة من الأفكار التي تتعلَّق بموجودية وأدوار هذا النوع من المثقَّفين في علاقتهم بالمجتمعات التي يعيشون فيها، وبالمرجعيات الدينية التي ينطلقون منها، والمسؤوليات الملقاة على عاتقه، فالدين (في حاجة إلى مثقَّف ينطلق من الدين، قيماً وتشريعاً ومقاصد وغايات، في بناء التقدُّم والتطوُّر والنهوض، فلا مستقبل لأمتنا بعيداً عن الدِّين). كما أن ما ينبغي (أن ينهض به المثقَّف الدِّيني هو تقديم فهم للتقدُّم يكتسب مرجعيته من الديِّن، بحيث يكون أكثر فعالية وقدرة على التكيُّف في مجتمعات العالم العربي والإسلامي، وهذا يتوقف على إمكانية نهوض المثقَّف الدِّيني بدوره ومهامه الإنمائية والحضارية، وعلى خلق الاستعداد النفسي والفكري لأرضية تقبل التقدُّم في المجتمع، بحيث يكون متحفزاً له ومشاركاً في صنعه وبنائه، فالمثقَّف يكون باعثاً على التقدُّم، لكن المجتمع هو الذي يحوِّله إلى منجز متجسِّد في واقع حقيقي. إلى جانب ذلك يعتقد الميلاد أن أمام المثقَّف الدِّيني (اختبارات لامتحان كفاءته وقدراته وفعاليته، وفي تقديم صورة مختلفة عن المثقَّف الذي أعلنت بعض الخطابات العربية عن موته، وأطلقت عبارة «موت المثقَّف» أو «نهاية المثقَّف»، وأن لا يكرَّر ما فشل فيه المثقَّف العربي، وما عجز عنه، وما انتهى إليه من إحباط).
على صعيد المعالجات العربية في هذا الاتجاه أيضاً، قدَّم المفكِّر العراقي يحيى محمد مقاربات منهجية وبنائية مهمة في أكثر من بحث وكتاب صدر له، خصوصاً في كتابه (القطيعة بين المثقَّف والفقيه، 2001)، وذلك عندما قارب بين أنموذج المثقَّف وأنموذج الفقيه، وتحدَّث عن مفهوم المثقَّف الدِّيني ضمن رؤية نقدية هي الأوضح حتى الآن في النقد الفكري العربي المعاصر لإشكالية المثقَّف الدِّيني. فقد حدَّد، بدايةً، وجود نوعين من المثقَّفين، أحدهما ذلك الذي له المقدرة التامّة على التنظير، وابتكار الأفكار، وإنشاء المذاهب والمناهج، ويمكن أن نطلق عليه «المُفكِّر» أو «طبقة المفكِّرين» التي يمثل أصحابها الرؤوس العليا من الثقافة. أما النوع الآخر فهو لا يمتلك مثل هذه الخصوصية، إنما له القدرة على التمييز، وتبنِّي ما يطرقه النوع الأول من أفكار ومذاهب بحسب ما يرد في نفسه من اقتناع وتصويب، وهؤلاء يمثلون طبقة المثقَّفين العاديين.
ومن زاوية أخرى، يلجأ يحيى محمد إلى تقسيم آخر للمثقَّفين لا من حيث «القدرة المعرفية» التي كانت معياراً لتقسيمه السابق، إنما من حيث (الموقف من الدين كمشروع يُراد له التطبيق على العلاقات الاجتماعية)، وهذان النوعان هما: نوع يلتزم بمبدأ الإسلام، ويعمل على حمل المشروع الدِّيني، وهو المثقَّف الدِّيني، ونوع آخر على خلاف ذلك ليست له علاقة بالمشروع الدِّيني، إسلامياً كان أم غيره، وهو المثقَّف العَلماني. ومع افتراض وجود «الفقيه»، إلى جانب «المثقَّف العَلماني» و«المثقَّف الدِّيني» يصبح أمامنا ثلاثة نماذج من المثقَّفين يرجعون إلى ثلاث دوائر معرفية. ولهذا يرسم يحيى محمد ثلاث دوائر تبدو متداخلة من وجهة نظره، قال في هذا الصدد: تتشكَّل لدينا ثلاث دوائر بنيوية للمعرفة، هي: دائرة الفقيه ومنْ على شاكلته من النُّصوصيين، ودائرة المثقَّف العَلماني، وأخيراً دائرة المثقَّف الدِّيني. وبين الدائرتين الأوليين تضادّ حاد، فكل منهما يقع على الطرف البعيد من الطرف الآخر، أما الدائرة الأخيرة فتقع في الوسط لتجمع بعضاً مما تحمله الدائرتان الأوليان، أي أنها تشترك مع كل منهما في جوانب معينة، وتختلف معهما في جوانب أخرى. وفي الغالب أن ما تتفق فيه مع إحداهما هو عين ما تخالف فيه الأخرى، والعكس صحيح أيضاً، وبالتالي فإن المثقَّف الدِّيني يتمسَّك بحبلين، أحدهما هو ما ينتمي إليه الفقيه ذاته، وإن اختلف معه بالكيفية، والآخر يعود إلى ما ينتمي إليه العَلماني، وإن اختلف معه بالكيفية والتفسير.
حتى الآن ما زالت معالجتا زكي الميلاد ويحيى محمد هما المعالجتان الوحيدتان اللتان عكفتا على النَّظر في إشكالية مفهوم المثقَّف الدِّيني، لكنهما فتحتا الباب مشرعاً أمام أية محاولات أخرى تأتي بعدهما لتثري المفهوم، وتحل بعضاً من إشكالياته التعريفية والتداولية، وصولاً إلى شيء من الاستقرار المفهومي له.
في مطلع هذا المقال، كنّا قد عرَّفنا «المثقَّف» بأنه: الإنسان المنتج للمعرفة المنظَّمة. والمعرفة المنظَّمة، في نظرنا، هي التي تنطلق من مرجعية فكرية أو عقائدية أو إيمانية، كذلك تنطلق من رؤية منهجية عقلية أو نقدية أو إيمانية أو تجريبية. فلا يوجد اليوم مثقَّف، كما في الأمس، بلا مرجعية وبلا منهجية. ويمكن لنا أن ننظر في المثقَّف من خلال مستويين، مستوى «المثقَّف في ذاته»، ولو أردنا التبسيط أكثر يمكن القول إنه: «المثقَّف في ذاته المعرفية»، حيثُ له القُدرات والمهارات التي تجعله حائزاً على المعرفة المنظَّمة دون غيره من الناس أو البشر، وقادراً على إدارتها بنحو خلاق. وفي مقابل ذلك هناك ما يمكن أن نُسميه بـ «المثقَّف في العالَم»، ويحيل مفهوم «العالَم» هنا إلى ما هو «موضوعي» مقابل ما هو «ذاتي»، بحسب الثنائية الفلسفية المعروفة، فالمثقَّف في العالَم - الموضوعي هو «المثقَّف في ذاته المعرفية» وقد انخرطَ في العالَم المُتنافذ والمُتشابك بكل ما فيه من انطباعات وتصورات وأفكار ونظريات وقيم ومعارف وفلسفات ومتغيرات وتحوُّلات وقوى ومصائر قائمة في الواقع المُعاش، ليتحوَّل المثقَّف في ذاته المعرفية إلى كينونة تفاعلية موضوعية مُتنافذة عبر العيش والظهور والحضور في العالَم بكل مجالاته من خلال مرجعية فكرية أو عقائدية أو أيديولوجية، ومن خلال منهجية عقلية أو نقدية أو إيمانية أو تجريبية، ومن خلال منظومة تداولية أو مجتمعية أو توصيلية تتوسُّل بحقول معرفية أو علمية أو أجناس أدبية أو أشكال إبداعية، بصرية محسوسة أو شفاهية مقروءة.
في ضوء ذلك، نجد، لكل مثقَّف مُنخرط في العالَم الموضوعي، تكوينه المعرفي الذاتي الخلاق، وله مرجعيته الفكرية أو الاعتقادية أو الأيديولوجية أو الجمالية، وله أيضاً منهجيته العقلية أو النقدية أو التجريبية، وله حقله المعرفي أو العِلمي أو التجريبي أو الجنس الأدبي أو الإبداعي الذي يتوسَّله في التعبير عن خطابه. فهناك الفقيه، وهناك المؤرِّخ، وهناك مفسِّر النُّصوص الدينية، وهناك راوي الحديث، وهناك مؤرِّخ الأدب، وهناك مؤرِّخ الشعر، وهناك مورِّخ الفلسفة والحكمة، وهناك الشّاعر، وهناك الكاتب، وهناك القاص، وهناك الروائي، وهناك المُترجِم، وهناك الناقد، وهناك الفيلسوف، وهناك الرسَّام، وهناك النَّحات، وهناك المُوسيقار، وهناك المُصمِّم، وهناك التقاني، وغير ذلك.
من بين كل هؤلاء هناك منْ يوصف بالمثقَّف العَلماني، وبالمثقَّف الليبرالي، وبالمثقَّف القومي، وبالمثقَّف الوطني، وبالمثقَّف الأُممي، وبالمثقَّف العالمي، وبالمثقَّف الرجعي، وبالمثقَّف التقدُّمي، وبالمثقَّف الثوري، وبالمثقَّف العضوي، وبالمثقَّف السَّلفي، وبالمثقَّف الإسلامي، وبالمثقَّف الإسلاموي، إلى غير ذلك من المسمَّيات المفاهيمية التي تطلق على المثقَّفين أصحاب المعارف المنظَّمة.
حاصل القول هنا إن المثقَّف الدِّيني هو الإنسان الذي يُعيد بناء المعرفة الدينية المنظَّمة بالانطلاق من منظومتها المرجعية، ويتوسِّل منهجها الإيماني والعقلي والتجريبي لتوصيل خطاب الله والرَّسول إلى الأمة أو المجتمع الذي يعيش فيه وينخرط في مجالاته الممكنة أو المتاحة. لذلك، يمكن القول إن كل المشتغلين في الحقل الدِّيني من الذين ينتجون المعارف الدِّينية المنظَّمة هم مثقَّفون دينيون. وكان ظهور هؤلاء قد بدأ مع إشراقة نور الإسلام وظهور الدَّعوة الإسلامية المحمَّدية التي شاء لها الله حمل لواء الدِّين الإسلامي إلى الإنسانية جمعاء، أكانوا «كتَّاب وحي»، أم «صحابة»، أم «تابعين» أم «تابعي التابعين» أم «قُرّاء» أم «حُفّاظاً»، أم «رواة حديث»، أم «عُلماء» أم «فُقهاء». فجميع هؤلاء كانوا يعتمدون «القرآن» و «السُّنة النبوية» وما فاض منهما من معارف محمَّدية صافية، مرجعية دينية لهم، وكانوا يتوسَّلون المنهج الإيمان والعقلي والتجريبي طُرقاً في إيصال الرسالة الإسلامية إلى الأمة والمجتمع. ولذلك ظهر المثقَّف الدِّيني في المجتمع النبوي كمثقَّف ملتزم بمبدأ الإسلام، وحامل للمشروع الدِّيني في المجتمع الإسلامي الجديد، بعضهم انتقل من مرجعية ثقافية وثنية/ جاهلية إلى مرجعية ثقافية دينية/ إسلامية من دون أن يتوسَّط أو يوفق بين مرجعيتين، مرجعية جاهلية، ومرجعية إسلامية، إنما سنَّ لنفسه مساراً واحداً هو مسار الاعتقاد بالمعرفة الدِّينية الإسلامية الجديدة التي خطا معها خطوات صيَّرته، فيما بعد، صحابياً - فقيهاً بامتياز، وقارئاً - فقيهاً بامتياز وتابعياً - فقيهاً بامتياز، وصحابياً - راوياً للحديث النبوي الشريف بامتياز، ومفسراً وشارحاً للنص القرآني بامتياز، ومؤرخاً للإسلام بامتياز، إلى غير ذلك من التسميات، مما جعل المثقَّف الدِّيني مُشخَّصاً بوصفه صحابياً أو تابعياً أو قارئاً أو فقيهاً أو محدِّثاً أو راوياً أو مفسراً أو مؤرخاً بحسب الأدوار التي مضى من خلالها في ممارسة وظائفه في مجتمع الأمة الجديد.
ينطبق مفهوم «المثقَّف الدِّيني» اليوم أيضاً على الكثير من المشتغلين في الحقل الدِّيني بكل حقوله المتوافرة في عصرنا الذي نعيش، خصوصاً بعد أن غاب، ومنذ زمن بعيد، عدد من مفاهيم المصطلحات النبويَّة مثل مفهوم «كتّاب الوحي»، ومفهوم «الصَّحابة»، ومفهوم «التابعين»، ومفهوم «تابعي التابعين»، ومفهوم «رواة الحديث» الرِّياديين، وغيرها من المفاهيم التي ظهرت في صدر الإسلام. ويتأثر المثقَّفون الدِّينيون المعاصرون بما طرأ على الإسلام من متغيرات وتحوُّلات أدَّت إلى ظهور مفاهيم أخرى يوصف بها المثقَّفون الدِّينيون، كما هي الحال في عدد من التسميات من مثل: «المثقَّف الإسلاموي»، و «المثقَّف السَّلفي»، و «المثقَّف الجهادي»، وما أشبه..
لعل الأجدر بنا أن نعتز بتلك المفاهيم والمصطلحات التي ظهرت بأصالة إسلامية ونبوية واضحة مطلع الإسلام من حيث نحتها ورسمها وصوغها، وهي: «كتّاب الوحي»، «الصَّحابة»، «القُرّاء»، «التابعين»، «الفُقهاء»، «العُلماء»، «الرُّواة»، وغير ذلك، من دون الحاجة إلى وضع كل هؤلاء وغيرهم من أصحاب البصيرة بالدين من الذين ظهروا في المجتمع النبوي، تحت مسمى «المثقَّفين الدِّينيين»، فما لهم من مسميات وُصفوا بها، وبأصالة إسلامية، أفضل لهم وللثقافة الإسلامية وللتاريخ من حشرهم تحت مسمى جديد. وهذا الاعتزاز ما زال قائماً بكل تلك المفاهيم والمصطلحات والتسميات التي هي إسلامية ونبوية أصيلة، لكن الدراسات الثقافية المعاصرة تتطلَّب، اليوم مثلما غداً أيضاً، إعادة النَّظر الدائمة بل والدورية في كل المفاهيم والمصطلحات السائدة في الثقافات والمعارف الدِّينية والإنسانية، بغية خلق مفاتيح مفهومية أو مفاهيم مفتاحية مكثَّفة من شأنها تقديم مقاربات دراسية لجملة الأنساق الفاعلة في المجتمعات البشرية، ومنها النسق الدِّيني بكل ما يحمله من علوم ومعارف وتواريخ، تلك التي يمارس فيها لاعبوها المتخصِّصون أدواراً فاعلة في حركتها وتحوُّلاتها ومصائرها وتأثيرها.
رسول محمد رسول
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد