نقد مفاهيم الدين السائد، لماذا؟
بدايةً، يجب الاعتراف أنّ مجتمعاتِنا ودولَنا هي الأكثر تخلّفاُ وفساداً وضعفاً وهشاشةً بالمقارنة مع المجتمعات والدول الأخرى، ومواطنينا هم الأسوأ حالاً من مواطني العالم الآخر، بكلّ المقاييس.
وبدايةً، أرى من السذاجة اعتبار أنّ تغيير أنظمة الحكم، على أهميّته، هو الحل الوحيد الكافي والمجدي للخروج من هذا البؤس، فقد عاصرنا تغييرات عديدة في أنظمة الحكم، في السودان ومصر وليبيا والعراق والجزائر وتونس، دون أن ينجح أيُّ حكمٍ لاحق بتصحيح الكوارث التي خلّفها الحكم السابق، وإقامة مجتمع مختلف أقل بؤساً ومعاناة، طالما بقيت المفاهيم البالية ذاتها تحكم الأفراد والمجتمعات.
ولنتذكّر أنّ جلّ فلاسفة ومفكّري عصر التنوير والنهضة في أوربا، باستثناء القلّة، لم يكرّسوا أفكارَهم وكتاباتِهم التنويريّة للشأن السياسي المرتبط بتغيير أنظمة الحكم، وإنّما في تغيير الفرد والمجتمع والمفاهيم الحاكمة، مرتكزين إلى منحيين، الأوّل هو الخلاص من سيطرة الدين / الكنيسة على كلّ تفاصيل الحياة في مجتمعاتهم المتخلّفة آنذاك، والثاني هو صناعة الإنسان الواعي المتحرّر من المفاهيم البالية التي أعاقت نهوضه وبناء مجتمعه السليم، حصل ذلك في القرنين الخامس عشر والسادس عشر،وحين أثمر هذا التنوير في القرن السابع عشر وما بعده جاءت البرجوازيّة على أنقاض الإقطاع، وانطلقت الثورة الصناعيّة التي غيّرت العالم، وتغيّرت أنظمة حكم عديدة تلقائيّاً واستجابةً للعصر الجديد والإنسان الجديد.
نقد مفاهيم الدين "السائد" التي شكّلت أفكارنا ورسمت حياتنا، وحصرتنا في قمقم الجهل والتخلّف والفشل والدونيّة قياساً للآخرين، يهدف إلى خلق وعي جديد وإنسان مختلف يخرج عن متابعة حياته القائمة على:
*مفهوم "التكاثر"، "تناكحوا تناسلوا فإنّي مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة" المنسوب زوراً وبهتاناً للنبي الكريم، المتزامن مع شحّ الموارد وعدم كفايتها، والمصيبة أنّ الأسر الفقيرة هي الأكثر إنجاباً، بالاتكال على أنّ الرزق من الله، وأنّ الولد يأتي ورزقه معه!، دون توفّر الرعاية الصحيّة الكافية وفرص التعليم المناسبة، ودون القدرة على الإنفاق السليم على تهيئة أجيال متعلّمة، فتزداد أعداد الجهلة والفاشلين على حساب المتعلّمين الفاعلين.
*مفهوم "التواكل"، فطالما أنّ الرزق مكتوب تموت فينا الحماسة لبذل جهد أكبر لتحقيق ما نصبو إليه، وما نحتاجه، وإذ أشارت آية "رزقكم في السماء وما توعدون" إلى الغيث والمطر الذي يحيي الزرع، ذهبنا لتعميميها إلى أنّ أبواب السماء مفتوحة لتُسقط علينا الأرزاق، واعتبرنا "ذرق" العصفور على رؤوسنا علامة من الله على رزقٍ قادم، وغصنا في قراءة البخت والفنجان بحثاً عن إشارات أخرى.
*مفهوم "القضاء والقدر"، فمنذ أن ألغى الغزالي في القرن الخامس الهجري مفهوم العلّيّة والسببيّة، وأقنعنا أنّ كلَّ شيء مكتوب ومقدّر ومقضي، بتنا لا نعمل بالأسباب لتحقيق النتائج، على اعتبار أنّ "اللي كاتبه الله يصير"، متجاهلين أنّ عمليّة بناء المجتمعات الصحيحة تستلزم منّا الكثير بعيداً عن الركون إلى القضاء والقدر وعن الاكتفاء بالأدعية الساذجة عسى أن يأتي التغيير من السماء.
*مفهوم "مغفرة الخطايا مقابل أداء الطقوس"، فبتنا نمارس الآثام والرذائل ونهب حقوق بعضنا متّكلين على أنّ أداء طقوس الصلاة والصيام والحج ستتكفّل بغفران كلّ خطايانا، وتمنحنا فرصاً لخطايا جديدة، ولعلّ من السهل ملاحظة أنّ الأعداد الغفيرة التي تتجمّع لصلاة الجمعة أو التراويح هي في غالبيتها لذات الموظفين المرتشين والتجّار الفاسدين الذين يتفننون في نهبنا وغشّنا.
*مفهوم "التلقين والحشو" بدل المحاكمة العقلانيّة والفهم الواعي، فنذهب إلى حشو رؤوس أطفالنا ونتباهى بحفظهم للقرآن والأحاديث في سن مبكّرة دون فهم وإدراك لما يحفظون، لننشئ أجيالاً ببغاويّة تجيد الاستظهار الجاهل، وتكبر مقصيةً المحاكمة والمساءلة والتفكّر الواعي الذي من شأنه أن يمنحها فهماً أفضل للعالم.
*مفهوم "الآخر"، فقد أقنعَنا فقهاؤنا السابقون أنّنا وحدنا على الحق، وأنّ كلّ آخر هو على باطل، وأنّ دورَنا ومسؤوليتنا هي إقصاء وإذلال هذا الآخر، وربّما قتله ما لم يأتي إلى حظيرتنا، وذهب المهاجرون منّا إلى دول الغرب العلمانيّة إلى المطالبة بتغيير أنظمة هذه البلدان وتطبيق "الشريعة" على مواطنيها الذين دفع أسلافهم الكثير للوصول إلى ما هم عليه من وعي وتطوّر وأمان واستيعاب لكلّ مكونات المجتمع على اختلاف عقائدها، أكثر من ذلك ضيّقنا المفهوم إلى حدّ اعتبار المسلم "آخراً" من حقّنا تطبيق الحدّ عليه ما لم يكن من طائفتنا ومذهبنا، وأغلقنا كلّ الأبواب أمام قيام دولة مدنيّة تحفظ حقوق كلّ مواطنيها وتقيم العدل فيهم.
* مفهوم "تسفيه قيم العالم المتقدّم"، فمع أنّنا نتسابق لاقتناء كلّ منتجات الغرب، ونسعى لإرسال أبنائنا للدراسة في جامعاته، إلا أنّنا نرفض ونحارب القيَم والفلسفات والمفاهيم التي قامت عليها حضارة الغرب، كالحريّة والعلمانيّة والديمقراطيّة والتسامح، مطلقين عليها أبشع نعوت الفساد الخلقي والإباحيّة والتهتّك والانحلال، المخالف لشرائعنا، كما لو كنّا نحن مجتمعاً من الملائكة والصالحين.
*مفهوم "طاعة وليّ الأمر وإن كان رأسه زبيبة"، الذي أسّس منذ البدايات الأولى للاستبداد والطغيان وتأليه الحاكم صاحب الأمر في حياتنا ومعاشنا وموتنا، وألغى كلّ إمكانيّة لإقرار أسس سليمة تحفظ حقوق الجميع وتتيح مراقبة ومساءلة السلطة الحاكمة.
*مفهوم "دونيّة الأنثى"، العورة التي تستوجب التغطية والقمع، ناقصة العقل والدين، والضلع الأعوَج، رغم أنّ الملايين من الإناث قد أثبتن حين أتيحت لهنّ فرصة التعليم أنّهنّ أكثر تميّزاً وإبداعاً وجديّةً من أقرانهنّ الذكور، كما أن اللائي نزلن إلى سوق العمل كنّ أكثر فاعليّة وأقل فساداً وارتشاءً.
*مفهوم "حقوق الإنسان المسلم"، لا حقوق الإنسان التي أقرّتها الشرعة العالميّة ووقّعت عليها دول العالم، في حين تمنّعت الدول الإسلاميّة عن توقيعها والالتزام بها، معتبرةً أنّها تخالف "الشرع الإسلامي" وذهبت إلى توليف مسخرة تحت اسم "شرعة حقوق الإنسان المسلم" التي تمنحه حقوقاً منقوصة ومحكومة بأحكام لم تعد صالحة للعصر، ناهيك أنها تميّزه بجلافةٍ ووقاحة عن مواطنيه الآخرين أتباع الديانات الأخرى.
* مفهوم "خدمة الدين لا الفرد والمجتمع"، في منطقة محدودة المساحة مثل ضاحية دمّر / الشام الجديدة بات هناك أكثر من خمسة عشر مسجداً، لا يبعد أحدها عن الآخر عشرات الأمتار، بتكاليف بلغت مئات الملايين، يقتصر استخدامها على وقت الصلاة، في حين خلت الضاحية من مستوصف للعلاج، ومن مكتبة توفّر كتاباً أو جريدة، أمّا في ضاحية حرستا فقد تسابق أهلوها لدى عودتهم بعد استعادة سيطرة الدولة عليها لجمع التبرعات لإعادة بناء المسجد فيها، دون أن يلتفتوا إلى الحاجة للمدرسة والمستوصف، مع التذكير أنّ أيّاً من المساجد لم يفتح أبوابه لاستقبال النازحين والمهجّرين إبّان الحرب، في حين اكتظت بهم المدارس، فعانوا الأمرّين وعطّلوا العملية التعليميّة.
* مفهوم "الحور العين وخمر الجنّة" الذي دفع بالكثير من الشباب إلى ارتكاب أعمال إرهابيّة بشعة سوّغها لهم شيوخهم كواجب مقدّس وطريق إلى جنّة تتيح لهم نكاحاً أبديّاً بعد الموت، بعد أن مارسوا "ملك اليمين" و"جهاد النكاح" على الأرض.
وبعد، هذا غيض من فيض، وهذه مفاهيم تصوغ إنساناً مشوّهاً لا يصلح لبناء مجتمع صحّي سليم، وإن غيّر أنظمة حكمه عشرات المرّات.
الفرد السليم يبني مجتمعاً سليماً، والمجتمع السليم كفيل بإفراز حكومات فاعلة وعادلة.
هل وصلت الفكرة ؟
الباحث السوري وضاح صائب
إضافة تعليق جديد