هكـذا خسـرت تركيـا حربهـا مـع سوريـا
عام بالكامل مرّ على أكبر تحدّ واجهته ولا تزال السياسة الخارجية التركية منذ أن اتبعت سياسات انفتاح على المنطقة العربية وغير العربية، ولا سيما جوارها الجغرافي المباشر، وعرفت بسياسة «تصفير المشكلات».
رغم أن هذه السياسات أحرزت نجاحات لافتة في أكثر من ملف وقضية ومكان، غير أن أحداً لم يكن يتوقع أن تنجح هذه السياسات بالكامل في منطقة شديدة التناقض والتعقيدات والحساسيات. كانت كل واحدة من الثورات العربية بمثابة امتحان للدبلوماسية التركية. ولم تظهر أنقرة صورة متوازنة وسلوكاً موحّد المعايير، ما أوقعها في ازدواجيات جلبت لها تارة غضب دول «معتدلة» وتارة غضب دول «ممانعة». والمثالان الليبي والبحريني سبقا المثال السوري.
شكلت الحالة السورية «بيضة القبان» في محاولة تركيا دفع دورها وقوتها الى أقصاهما، بعدما لاحت أمامها، أو تراءى لها، ان الفرصة باتت سانحة، وأن «اللقمة» باتت في الحلق.
لقد تحركت السياسة التركية تجاه سورية في اطار ثلاث دوائر. الأولى، التحالف مع الغرب على اعتبار أن تركيا بلد أطلسي وفي مفاوضات للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والقسم الأكبر من تجارتها واقتصادها مرتبط بأوروبا. والتحالف مع الغرب يفرض التعرض لأهداف عالمية، وليس فقط إقليمية. من هنا كان الدرع الصاروخي استهدافاً للقوة الروسية قبل أن يكون استهدافاً للقوة الإيرانية. وهذا ما يفسر تلك الغضبة الروسية على قبول تركيا نصب الدرع الصاروخي، وتهديد رئيس الحكومة فلاديمير بوتين لتركيا بأن روسيا ستدافع عن نفسها بكل الوسائل. وإسقاط النظام في سورية هو استهداف لأحد، بل آخر ركائز النفوذ الروسي في المنطقة.
الدائرة الثانية للتحرك التركي كانت عربية. بعد فترة وجيزة على بدء الأزمة السورية، ولا سيما في الفترات اللاحقة، كانت تركيا جزءاً من الكادر الذي توجد فيه كل الدول العربية المعادية لسورية، مثل دول الخليج، في المطالبة بالإصلاح، وهذا كان يتناقض مع صورة تركيا التي تحاول أن تقدم نفسها بها، أي أنها دولة ديموقراطية من جهة، وعلمانية من جهة ثانية. وجود تركيا أيضاً في الكادر نفسه مع دول ارتفع فيها نجم الإسلام السياسي، الإخواني تحديداً، كان انعكاساً لحراك داخلي لحزب العدالة والتنمية يسعى لهوية اجتماعية أكثر تديناً بخلاف الصورة السائدة عن تركيا.
الدائرة الثالثة التي تحركت فيها تركيا هي الدائرة القومية، حيث أن تحالفها مع الغرب وتنسيقها كل السياسات مع واشنطن تحديداً، لا يلغي وجود أجندة خاصة بأنقرة تلحظ تشكيل «حيثية» بها قد تلتقي أحيانا مع السياسات الأميركية وقد لا تلتقي، وهو ما اصطلح على تسميته بـ«العثمانية الجديدة» الذي سيتعارض حتماً في مرحلة لاحقة حتى مع حلفائها من الدول العربية المسماة معتدلة، ولا سيما السعودية ومصر. إن الحديث عن تحالف تركي ـ مصري مثلاً ليس سوى من باب التمني لا الواقع، فيما الحديث عن تحــالف تركي ـ سعودي هو أكثر من مستحيل.
كان اندلاع الأزمة السورية قبل عام فرصة لتركيا للسعي لترجمة هذه الأهداف. وبمعزل عن طبيعة «النصائح» التركية في بداية الأزمة السورية لدمشق، فإن التصور التركي، سواء بالروزنامة التي قدمتها أنقرة إلى دمشق حول الإصلاح، أم بالانتقال إلى دعم المعارضة السورية بالمال والسلاح وتوفير الملاذ السياسي والعسكري، كان يرمي في المحصلة إلى تغيير النظام.
ذلك ان دعوة نظام، مؤسساته متعفنة وقديمة وذات نمط واحد ومنذ 40 سنة وأكثر، ولم يعرف سوى نظام الحزب الواحد، الى اصلاح نفسه جذرياً خلال أسابيع او أشهر، كما اقترحت انقرة، هو من باب المحال، ويعني لو تم أن النظام السوري ينحر نفسه بنفسه. فتركيا نفسها استغرق إنهاء نفوذ الجيش في السياسة فيها ثماني سنوات كاملة، فيما لم يتقدم الاصلاح فيها في المسألتين الكردية والعلوية خطوة واحدة، فكيف تأتي وتطالب بإصلاح كامل لـ«نظام قديم» خلال أشهر او حتى سنة او سنتين؟
لم يتجاوب الرئيس السوري بشار الأسد مع «النصائح» التركية، فانتقلت انقرة الى المرحلة الثانية لإسقاط النظام، وهو تنظيم المعارضة بشقيها السياسي والعسكري. واللافت أن الانتقال إلى هذه المرحلة كان سريعاً جداً. فأولى مظاهر الاحتضان التركي للمعارضة بدأ بمؤتمر لجماعة الإخوان المسلمين في سورية في اسطنبول بعد أقل من شهر على بدء الأزمة، وتلته عشرات المؤتمرات للمعارضة، تارة في انتاليا وتارة في اسطنبول وأماكن أخرى.
نظمت تركيا المعارضة السورية على مستويين: سياسي، وتمثل في إطلاق المجلس الوطني السوري الذي عرف بـ«مجلس اسطنبول» وفي ذلك دلالة واضحة على الدور التركي. وعسكري عبر توفير الملاذ والتدريب لما يسمى بـ«الجيش السوري الحر» بقيادة العقيد رياض الأسعد المقيم في انطاكيا، حيث تعددت التقارير المختلفة على الدور التركي في تسليحه وتدريبه وتوفير الأرضية الصالحة للقيام بعمليات من داخل الأراضي التركية ضد أهداف في الداخل السوري. ووزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو لم يتردد في الكشف عن تأييد أنقرة لكل الخيارات، بما فيها العسكري، لإسقاط النظام في تصريح له يوم السبت في 3 آذار الحالي.
والى الدعم السياسي والعسكري لم تبخل تركيا باستخدام كل الوسائل للتضييق على النظام. كان إضعاف النظام اقتصادياً واجتماعياً أحد ابرز أدوات الضغط التركي عليه. العقوبات الاقتصادية لم تكن تستهدف فقط إشعار المواطن بأن هذا النظام يضرّ به بل أيضاً لفك تأييد الطبقة التجارية في دمشق وحلب، على اعتبار أن العقوبات الاقتصادية ستلحق بها الأذى ما يدفعها لفك ارتباطها بالنظام.
أيضاً حاولت تركيا فك تأييد الأقليات، أو ما اعتبرته كذلك، عبر الضغط على القادة الدينيين في المنطقة، ومنها في لبنان، لإبعاد المسيحيين عن النظام وكذلك لإبعاد الدروز عنه بوسائل مشابهة. ولكن أخطر ما حاوله قادة حزب العدالة والتنمية، ومنذ وقت مبكر من الأحداث، هو تصوير الصراع في سورية على انه صراع مذهبي بين علويين حاكمين ومتسلطين وسنّة مضطهدين. وتصريحات رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان ووزير الاقتصاد علي باباجان، فضلا عن التصريحات المتكررة لداود اوغلو، كانت واضحة جداً في اعتبار «الثورة» معارضة سنّة ضد نظام علوي.
لا أحد ينكر وجود بعد ديني وطائفي ومذهبي في كل الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي، لكن تصويره بهذه الحدة في سورية أمر لا يتطابق مع الحقائق والواقع على الأرض. فتأييد دمشق وحلب السنّيتين وحدهما للنظام، أو على الأقل عدم انضمامهما إلى المعارضة، يدحض البعد المذهبي للصراع الداخلي.
لا يمكن ان نعزل الأبعاد المذهبية من السياسة الخارجية التركية تجاه سورية عن الواقع الداخلي التركي، حيث تكاثر السلوك المذهبي للنظام في تركيا تجاه العلويين، ولسنا بحاجة لإيراد أمثلة حسية، لكن آخرها كان إسقاط القضاء التركي ملف التحقيق في «مجزرة سيواس» في العام 1994 التي ذهب ضحيتها 37 مفكراً واديباً وشاعراً علوياً على يد فئات إسلامية من دون أن يلقى ذلك اعتراضاً من اردوغان.
ولا شك في ان التشهير بالنظام كان من ادوات السلوك التركي ضد سورية. فإعداد الخيم كان سابقاً لهجرة أي مواطن سوري. كذلك اليوم إعداد مخيم جيلان بينار كان سابقاً لمعركة ادلب وتحضيراً وتشجيعاً ليقدموا إلى هناك، علما انه كما فرّ عناصر «الجيش السوري الحر» إلى لبنان بعد معركة حمص فإن عناصره فروا الى الداخل التركي بعد معركة ادلب، ولذا كان مخيم جيلان بينار.
لم تتوقف تركيا عن التحريض على دمشق. ومؤتمر «أصدقاء سورية» في تونس كان من بنات أفكار الدبلوماسية التركية. وها هو سينعقد بعد أسبوعين في اسطنبول للمرة الثانية، ومن بعدها في باريس. لقد كانت الاستراتيجية التركية إبقاء النظام تحت الضغط المتواصل، وعدم منحه أي ثانية لالتقاط أنفاسه.
إن ما يفسر هذا الإصرار هو أن تركيا لعبت لعبة «يا كل شيء أو لا شيء». لقد بات هناك إجماع على ما قلناه منذ الأيام الأولى للأزمة في سورية، من أن تركيا أحرقت المراكب ورفعت السقف عالياً. هي تدرك ذلك، ولذا لن تعدم وسيلة في هذا الاتجاه. ولا اعتقد أن الدبلوماسية الناجحة تدخل في مثل هذا الخطأ الاستراتيجي في أن تراهن على شيء من دون حساب لهامش الخطأ التي تحسب حتى في استطلاعات الرأي المتواضعة. لم تُبق أنقرة حتى هامشاً بسيطاً في رهانها، حتى إذا فشل الرهان خسرت كل شيء.
اليوم بعد عام من انفجار الأزمة في سورية، ومن انفجار العلاقات التركية - السورية، لا يبدو أن اللوحة التي ترسم لنتائج السياسة التركية تجاه سورية وردية، ولا في أي من عناصرها.
- فقدت تركيا عامل الثقة، الأهم في العلاقات الدولية، وهو الذي بنيت عليه العلاقات التركية مع سورية وإيران والعراق وروسيا ولبنان.
- فقدت تركيا دعم كتلة واسعة من المجتمعات الإسلامية، ولا سيما الشيعية منها، عندما بدا أن السلوك التركي بالتعاون مع العرب الآخرين يستهدف ايضاً حضور الشيعة في المنطقة وقوتهم والإخلال بالتوازنات التاريخية. أليس دخول قوات درع الجزيرة لقمع ثورة البحرين هو لمنع حدوث خلل في الستاتيكو هناك؟ فلماذا يسمح بالحفاظ على الستاتيكو في الخليج، فيما يُراد له أن ينفجر ويتغير في «بلاد الشام والرافدين» وصولاً إلى بلاد فارس؟
إن السعي لإحداث خلل في التوازنات التاريخية والمذهبية، وربما الدينية، في المنطقة انطلاقاً من سورية هو من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها تركيا في المنطقة الاسلامية والمجاورة جغرافياً لها. ومواقف زعيم الشيعة في تركيا نفسها صلاح الدين اوز غوندوز نموذج على ما أصاب صورة انقرة من ندوب عميقة في هذا البعد.
- ولا شك في أن هذه السياسات التركية قد قرعت جرس الإنذار في عواصم بعيدة، ولا سيما في موسكو. اذ ان سعي انقرة لإسقاط النظام في سورية هو بمثابة هجوم استطلاعي على روسيا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وتحجيم سعيها لاستعادة دورها العالمي. ولعل هذا السعي لشطب روسيا من الشرق الأوسط كان وراء الموقف المتشدد لموسكو من الوضع في سورية وحماية النظام، وكذلك حماية الصين له، وهي التي طُردت من ليبيا وجنوب السودان ويراد لها أن تطرد من سورية والشرق الأوسط، وان تنضم إلى روسيا في التعرّض لتهديد التيارات الدينية من الشيشان إلى الأويغور الأتراك. وهو الذي حوّل سورية من خاصرة ضعيفة إلى نقطة الارتكاز الأقوى في ظهور نظام عالمي جديد أكثر توازناً.
- إن خروج تركيا عن سياسة الحياد الإيجابي واصطفافها طرفاً في الصراعات الداخلية في سورية والمنطقة والعالم أخرجها من إمكانية القيام بأدوار وساطة، كان يمكن أن تعاظم من نفوذها. لكن الرهان على أن تكون اللاعب الأوحد، من خلال إسقاط النظام السوري والتفرد بالتالي في حكم المنطقة، أفقدها العقلانية في التعامل مع الامتحان السوري الذي أخفقت فيه تركيا أيما إخفاق. فمن استعجل الشيء عوقب بحرمانه منه.
- واليوم تنظر تركيا إلى جنى مساعيها فلا ترى سوى الخيبة: النظام يشدد سيطرته على الأرض، الطبقة التجارية السنّية وفئات سنّية أخرى تدعم النظام وكذلك المسيحيون والعلويون والدروز. الجيش متماسك وكذلك السلك الدبلوماسي. إن استعجال تفكك أوصال الدولة والمجتمع السوريين لا يمكن أن يُعزى إلا لقراءات خاطئة لطبيعة الواقع السوري، نتيجة ابتعاد تركيا عن المنطقة تسعة عقود، بحيث لن تكون كافية ثماني سنوات من حكم حزب العدالة والتنمية لمعرفة توازناتها وحقائقها. المشكلة هنا معرفية بامتياز.
وتنظر تركيا فترى فشل السيناريو الليبي وفشل التدخل العسكري الخارجي عبر مجلس الأمن أو التدخل منفردة، وترى كذلك فشل إقامة مناطق عازلة. وتنظر تركيا فترى أيضاً أن «قرّتي عينها» تكادان تصبحان من الماضي، فالمجلس الوطني السوري الذي عملت أنقرة لإنشائه على مدى شهور باتت تنخره الانقسامات والخلافات، وهو في الأساس لم تكن له قاعدة صلبة على أرض الواقع. ولذا يمكن التساؤل عن معنى انعقاد مؤتمر «أصدقاء سورية» الثاني في اسطنبول. وقرة عين تركيا الأخرى، أي «الجيش السوري الحر»، يفقد آخر مرتكزاته بعد سقوط حمص وإدلب وهروب عناصره إلى تركيا ولبنان.
ولم تنأى تركيا من التأثيرات السلبية لسياساتها تجاه سورية والمنطقة على وضعها الداخلي، حيث تعرض المجتمع التركي لاهتزازات إضافية على الصعيد المذهبي واحتقانات إضافية على الصعيد الاتني. لقد أفلتت أنقرة من يديها فرصة تاريخية لتعزيز نفوذها في سورية والمنطقة، لكن المحظور حصل ولن يصلح الدهر ما أفسده حزب العدالة والتنمية بالذات.
محمد نور الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد