التكفير وحكم المرتد عند الشيعة الاثني عشرية
تقترب قضية التكفير من قضية أخرى هي الارتداد الديني إلى درجة التداخل والامتزاج مع بقاء بعض الفارق في المعنى المراد. فالتكفير هو إطلاق الحكم بكفر شخص أو جماعة خرجت وتمردت على إيمان الجماعة التي أطلقت الحكم، والتكفير نوعان من حيث الشمول: تكفير عام يشمل كافة أفراد الجماعة أو الطائفة، وتكفير خاص بفرد معين أو مجموعة أفراد من خاصتها.
أما من حيث الطبيعة والشدة، فالكفر نوعان؛ الأول، هو كفر بواح مُخْرِج من الملّة، يشمل خمسة أنواع من الكفر، هي كفر الشك، كفر التكذيب، كفر النفاق، كفر الإعراض وكفر الاستكبار. وثمة كفر أخفّ منه يسمونه «الكفر دون الكفر غير المُخرج من الملّة»، ويطلق على مَن يرتكب بعض الأفعال والتسلكات المكفّرة تكفيراً خفيفاً كالحلف بغير الله والرياء وتعليق التمائم وقتال المسلم. أما الارتداد، فهو فعل الخروج من الإيمان الديني من قبل الفرد غالباً والجماعة نادرا بملء الإرادة سراً أو علناً. وغالباً ما تختلط القضيتان، فيُكَفّر المرتد الفرد أو الجماعة بناء على قول أو فعل حتى لو لم يعلن ارتداده، وأحياناً أخرى يُحكم على شخص بريء تماماً بالردة لأسباب قد تكون كيدية.
إن التكفير والارتداد قضيتان ذواتا محمول واحد تقريباً، هو محمول يشترطه وجود محمول نقيض هو الإيمان. فكلّ أتباع دين يعدون أتباع الدين الآخر أو حتى الذين لا دين لهم كفاراً ـــ وهنا، لا يمكن أن يقال عن هؤلاء إنهم مرتدون لأن الردة تشترط كون المتهم بها، مؤمناً بما ارتد عليه قبل ارتداده ـــ أو على الأقل «غير مؤمنين»، لكن هذا النوع من التكفير التلقائي لا ضير حتمياً منه مجتمعياً إذا بقي محصوراً في كتب الفقه والأصول ولم يختلط بدوافع أخرى غير دينية، كأن تكون سياسية. فإذا اختلط التكفير الفقهي بهذه الأسباب والبواعث كان لزاماً وضع قوانين مدنية حديثة محايدة بين الأديان والطوائف في المجتمعات التعددية تمنع التكفير والتهديد بالقتل وإباحة الدم والتمييز والازدراء وبث الكراهية لأسباب دينية وطائفية وعرقية وغيرها.
إنّ التكفير الذي تدافع عنه الحركات السلفية السُنية، السلمية أو المسلحة، الجهادية أو الانتحارية، ومعها عدد من رجال الدين السُنة غير المتحزبين علناً، بوصفه أصلاً من أصول الإسلام كما يرى مثلاً محمد بن عبد الوهاب في «الدرر السنية 1/16»، هذا التكفير موجود أيضاً في التراث الفقهي الشيعي القديم والمعاصر، وخصوصاً في قضيّة «تكفير ناكر إمامة المعصوم»، لكن وجوده في ميدان الفقه والبحوث والدراسات الفقهية والأصولية السلفية المتخصصة أكثر اتساعاً وكثافة من وجوده المعبر عنه عملياً، وليس له تلك الأهمية في الممارسة الحياتية إلا في حالات معينة سنتوقف عند أمثلة عليها، التي على أساسها يقترب من دائرة الهوية، كما أن التكفير لدى فقهاء وزعماء الشيعة مسكوت عليه إلا في النادر، فلا أحد يدعو إليه أو يدافع عنه بين صفوف جمهورهم. ومع ذلك، ومن الناحية النظرية والفقهية، فإن المسلمين السُنة هم ممن يشملهم وصف «دافعي الإمامة»، أي إنهم لا يعتقدون ولا يؤمنون بسلسلة أئمة الشيعة الاثني عشر، والحكم بتكفيرهم راسخ وقديم، وقد ورد في الكثير من كتب الفقه الشيعي الاثني عشري:
ففي «تلخيص الشافي» للطوسي مثلاً وكذلك في «مجموع كلام السيد المرتضى» نقرأ ما اقتبسه الكاتب الإسلامي المصري محمد عمارة في كتابه «تيارات الفكر الإسلامي»: «إن دفع الإمامة كفر، كما أن دفع النبوة كفر لأن الجهل بهما على حدٍّ واحد، لأن منطلق الإمامة هو منطلق النبوة... وامتازت الإمامة على النبوة بأنها استمرت في أداء الرسالة بعد انتهاء دور النبوة... إنّ النبوة لطف خاص، والإمامة لطف عام (ص214). إن هذا النوع من مبررات التكفير لا يختلف من حيث الجوهر عن مبررات التكفير التي يأخذ بها التكفيريون من السُنة، الذين بدورهم يكفرون الشيعة على أساس القول الشائع: «من كَفَّرَ الشيخين - أبا بكر وعمر - فقد كفر»، أو «شاتم الشيخين كافر».
أما الشيخ المفيد، فقد كتب في مؤلفه «أوائل المقالات/ ص44»: «اتفقت الإمامية: على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار». هذا بخصوص التكفير المباشر في الفقه الشيعي ونماذجه قليلة كما لاحظنا، أما التكفير غير المباشر، أي ذاك الذي لم يقولوا هم به، بل يستنبطه خصومهم المذهبيون فهو كثير، وتضج به المراجع القديمة، وخصوصاً تلك التي ألفت في عصر المماليك، ونجده اليوم بذات الكثافة على صفحات الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. هذا النوع يتركز على آرائهم وثوابتهم من قبيل عصمة الأئمة وموقفهم من عدد من الخلفاء، فهم يعدونهم مُكفّرين لمن لا يؤمن بما يؤمنون به، وهذا خارج نطاق المنهجية العلمية التي نختطها وسنركز على التكفير المباشر عندهم كما ركزنا من قبل عليه عند غيرهم في مناسبة سابقة. مع تسجيل أنّ قيام دولة شيعية دينية وانتشار الأحزاب الإسلامية الشيعية في عدد من البلدان فعَّل وسيفعّل كثيراًَ التكفير الفقهي وينقله إلى ميدان التكفير المجتمعي السياسي، وهنا تكمن خطورة الموضوع، وتصبح قضية علمنة الدولة وتحييدها دينياً وطائفياً أمراً لا مندوحة عنه، ومفتاح خلاص وحيداً من المذابح الدينية القادمة.
قد يجهل الكثيرون أن حكم الفقه الشيعي على المرتد الذي يجري تكفيره أقسى منه في الفقه السني. ففي هذا الأخير لا ينفذ حكم الردة فوراً بالمتهم حتى لو توافر الدليل القاطع ضده، بل يُستتاب ثلاث مرات ويترك ليفكر ثلاثة أيام يقدم إليه خلالها الطعام والشراب، فإذا أصر على كفره وارتداده على الدين، نفذ فيه حكم المرتد، وهو القتل صبراً «الإعدام»، أما وفق المذهب الشيعي، فهم يميزون بين المسلم بالولادة ويدعونه «الفطري»، الذي يرتد عن إسلامه، والمسلم بالهداية ويدعونه «الملّي». وأشهر حكم في هذا الخصوص هو المنسوب إلى «محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «عليه السلام» ـ في حديث ـ قال: ومن جحد نبياً مرسلاً نبوته وكذبه فدمه مباح، قال، فقلت: أرأيت من جحد الأمام منكم ما حاله؟ فقال: من جحد إماماً من الله، وبرئ «تبرأ» منه ومن دينه فهو كافر مرتد عن الإسلام، لأن الإمام من الله ودينه من دين الله، ومن برئ من دين الله، فهو كافر ودمه مباح في تلك الحال...» (وسائل الشيعة لتحصيل مسائل الشريعة - لمحمد الحر العاملي/ ج 28 ص 312). أي إنهم يستتيبون المرتد الثاني «الملي»، أما المسلم بالولادة « الفطري»، فينفذون فيه حكم الردة، أي القتل» فوراً ودون استتابة.
ومن الوقائع المهمة في التراث بخصوص قتل المرتد، نسجّل ما رواه عدد من الرواة والمحدثين، وخلاصته: «قَدِمَ على عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل من قبل أبي موسى – نرجح أن يكون أبا موسى الأشعري واليه على البصرة ـــ فسأله عن الناس فأخبره ثم قال: هل كان فيكم من مغربة خبر (أي، هل لديكم خبر غريب؟) فقال: نعم رجل كفر بعد إسلامه. قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه. قال عمر رضي الله عنه: فهلا حبستموه ثلاثاً وأطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله... اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني» (ورد في «السنن الكبرى» للبيهقي وفي مصنف ابن أبي شيبة وغيرهما بصياغات متقاربة). وخلاصة هذه الواقعة تؤكد أن الخليفة عمر بن الخطاب رفض وتبرأ من تنفيذ حكم القتل بالمرتد قبل استتابته.
أما في التراث السياسي للحركة الإسلامية «الشيعية» المعاصرة، فلا نجد حضوراً ملحوظاً لمبدأ التكفير فقها وممارسة إلا في حالات نادرة. وإذا استثنينا فتوى تكفير الشيوعيّين في عراق الخمسينيات من قبل المرجع الشيعي الراحل محسن الحكيم، في سياق دفاعه عن الإقطاعية الزراعية التي ضربتها ثورة 14 تموز 1958 الجمهورية، فلن نجد أمثلة أخرى مهمة باستثناء فتوى مشابهة أصدرها الشيخ مرتضى القزويني خلال العام الجاري 2013 ضد الشيوعيين العراقيين أيضاً، إلا أننا نجد الكثير من المواقف والممارسات ذات الصلة بالتكفير السياسي، من ذلك مثلاً دفاع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر دائماً عن مبدأ «أسلمة المجتمع»، الذي يفترض ضمناً تكفير المجتمع، أو في الأقل الشك في صحة إسلامه. وهو مبدأ ذو وشائج بينة مع تراث النظام الإسلامي الشيعي في إيران، الذي لا يعني في الواقع سوى فرض فهم معين ومحدد هو فهم حامل المبدأ على المجتمع بأسره، وكل فرض مهما بدا ناعماً فيه قسر وقمع، والصدر يعد هذا المبدأ مهمّة وهدف الحركة الإسلامية الشيعية، وهو عنده يسبق من حيث الأهمية والتدرج التاريخي مبدأ إقامة الحكم الإسلامي أو الدولة الإسلامية.
قد يعتقد البعض أن في هذا التمييز بين «أسلمة المجتمع» و«إقامة الدولة الدينية» نوعاً من الانفتاح والاعتدال، بدليل أنّ الرجل ـ كما قد يزعمون ـ لا يريد فرض دولة دينية على المجتمع، لكنه يريد أسلمته. وهذا ليس صحيحاً البتة، بل العكس هو الصحيح؛ إذ إن الأسلمة لا تتعلق بالجانب التبشيري المحايد والسلمي لبعض المبادئ الدينية، بل بتطبيق صارم لمجموعة من المبادئ وبأساليب تتدرج من النصح والإقناع وقد لا تنتهي إلا بالتهديد بالتصفية أو النفي، ويتأكد ذلك من خلال شواهد ومتابعات غير منحازة لممارسات التيار الصدري وأفكاره العملية في مناطق سيطرته قبل الصدام المسلح الذي وقع بينهم وبين الحكومة في ما سمي حملة «صولة الفرسان» في آذار 2008. ومن تلك الشواهد والأمثلة التي لا ينكرها الصدريون أنفسهم:
ـ تأسيس المحاكم الشرعية الدينية التي يديرها رجال الدين المعمَّمون.
ـ إجبار النساء على ارتداء الحجاب، مع تسجيل أن هذا الإجبار والقسر على ارتداء الحجاب لا يختلف من حيث الجوهر عن محاولات العلمانيين المتطرفين منع الحجاب أو التضييق على من ترتديه، فالأمران وجهان لعملة قمعية واحد.
ـ المضايقات والتعزيرات المختلفة التي تفرضها الميليشيات على من يخالفون السلوكيات ذات المنحى الديني، ومصادرة العديد من الحريات الفردية والقسوة في التعامل مع المخالفين.
ـ معاداة الفنون كالموسيقى والغناء والرقص والرسم والنحت، والرياضات البدنية الحديثة ككرة القدم، التي لطالما سخر منها زعيم التيار الصدري.
ومما يدخل في هذا السياق بعض الكتابات السياسية ذات المنحى الديني والطائفي التي تنزع إلى تكفير وتقذير الآخر، ومن هذا القبيل ما كتبه الكاتب الإسلامي الشيعي العراقي، أحمد الزيدي، صاحب كتاب «البناء المعنوي في الجيش العراقي»، الذي تصدى للآلاف من المواطنين العراقيين يعرض بهم ويزدري عقائدهم ويحرض الجنود على الضباط الذين ينتمون لهم لسبب له مغزاه. فهؤلاء الآلاف ممن ينتمون للطائفة «اليزيدية» وآلاف غيرهم ممن ينتمون لقبيلة كردية تسمى «الجرجرية» فيتهمهم بالانتهازية وبالقذارة والكفر. وهو يعد قول الجندي العراقي الشيعي كلمة «سيدي» للضابط العراقي اليزيدي أو الجرجري إهانة للشيعي وإساءة لمذهبه (ص 126). إن هذا الموقف المستفز لكرامة الناس، الذي ينفي في مؤداه صفة المواطنة عن آلاف العراقيين لكونهم ليسوا من طائفة المؤلف، دليل على أن الخطاب الطائفي العراقي في بعض تمظهراته لم يغادر تماماً عصور الانحطاط التي أعقبت سقوط بغداد العباسية.
علاء اللامي
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد