سراب القنبلة النووية السعودية
قنبلة إعلامية سعودية في انتظار القنبلة النووية. ولي العهد توعد بقنبلة نووية رداً على احتمال القنبلة الإيرانية. قد يكون ذلك أكثر من مجرد قنبلة إعلامية على حافة الخليج ومقلبه الإيراني الذي يتقدم منذ أكثر من أربعين عاماً نووياً، رغم كل الوعيد الأميركي والإسرائيلي والغربي بتدمير المسار والمنشآت. فمن مجرد مفاعل تجريبي «وستنكهاوس» ملَكَه الشاه محمد رضا بهلوي عام ١٩٧٣، قفز إلى الطاردات المركزية «البدائية» لتخصيب الغرامات الأولى من اليورانيوم التي كان الباكستاني عبد القادر خان، يوزع خرائطها في الثمانينيات على كل من شاء من العرب والمسلمين.
تفتح صيغة الوعيد «السلماني» للمرة الأولى في الجزيرة العربية بالردّ في زمن متقارب وفوري على احتمال القنبلة النووية الإيرانية، أبواباً للتساؤل عمّا إذا كان السعوديون لا يزالون عند عتبة البرنامج النووي الذي يجرون خلفه في العلن لشراء ١٨ مفاعلاً، وتشغيل اثنين منها قبل عام ٢٠٢٢، أم أنهم قد تجاوزوها ووضعوا لبنته الأولى سراً. كذلك، يفتح على الأسئلة لمعرفة ما إذا كان ولي العهد محمد بن سلمان بات يملك ما يكفي من الثقة بصدقية مشروعه، نتيجة اتصالات القائمين على المشروع النووي السعودي الكثيفة للحصول على خبرات دولية تعوّض النقص الكبير والتأخر في بناء كوادر نووية علمية وطنية، تختصر الطريق نحو البرنامج النووي، وهي متوافرة بكثرة عربياً ودولياً، لإطلاق التحدي النووي ضد إيران.
لكن المؤكد أكثر من أي وقت مضى أنّ السعوديين يسابقون الزمن من أجل التوصل إلى بناء قاعدة علمية نووية وطنية أو خارجية، والحصول على تكنولوجيا نووية متقدمة، في ظل الإدارة الأميركية الحالية، وإبرام الاتفاقات المطلوبة من أجلها، قبل خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض. وهو ما يفسر كثافة الاجتماعات المتتالية في فترة أسابيع قليلة التي استقبلتها الرياض ولندن بين المسؤولين الأميركيين والسعوديين، من وزير الطاقة الأميركي ريك بيري إلى نظيره السعودي خالد الفالح، فنائب رئيس مدينة الملك عبد الله للطاقة النووية وليد أبو الفرج. لكن التساؤلات الأكثر جدية التي تطرحها قنبلة ابن سلمان أنها قنبلة وليست مفاعلاً، وهو ما يقلب رأساً على عقب كل المسلَّمات المعروفة حتى الآن في العلاقات الأميركية السعودية، منذ لقاء الرئيس فرانكلين روزفلت بالملك عبد العزيز بن سعود على ظهر المدمرة «كوينسي» مع غروب الحرب العالمية الثانية، ليحمل ميثاق الحماية المبرمة بين الرجلين، اسم المدمرة، ويضع لعقود، أُسس المعادلة التي لم تتغيّر: الحماية والسيطرة الأميركية مقابل التبعية السعودية.
قامت السيطرة الأميركية على المنطقة من خلال اعتبار إسرائيل القاعدة العسكرية المتقدمة والأولى في الشرق الأوسط، تردفها شبكة من التحالفات مع دول محورية في الخليج تنتشر فيها القواعد الأميركية، ومصر وتركيا. كذلك قامت هذه السيطرة على إدامة تفوّق إسرائيل العسكري النوعي على العرب، واحتكارها للسلاح النووي ومخزون يتجاوز حتى الآن أكثر من مئتي رأس صاروخي كانت في الأصل جزءاً من مشروع صاروخي فرنسي أصبح يحمل اسم «أريحا»، وبرنامج نووي متقدم بنته بالشراكة مع فرنسا مطلع الستينيات. أشرف على المشروع شيمون بيريز من مكتبه في وزارة الدفاع الفرنسية في باريس، كذلك أشرف على بناء قاعدة علمية صلبة بعيدة عن أعين مراقبي وكالة الطاقة النووية التي لم تجرؤ على مجرد المطالبة بزيارات منشآت إسرائيل لأنها لم توقع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
كانت وظيفة إسرائيل ولا تزال، في قلب منظومة السيطرة الأميركية، هي منع نشأة قوة عربية مركزية تتحول إلى قطب جاذب للعرب، وهو السبب الذي دفع الأميركيين والإسرائيليين، إلى محاربة مشروع جمال عبد الناصر لبناء قوة عربية مركزية مستقلة، وهو السبب نفسه الذي دفع هذه المنظومة إلى شنّ حربين متتاليتين على العراق، ومحاولة محاصرة إيران في الإقليم بعد انزياحها الاستراتيجي نحو محور المقاومة. وتبدو قاصرة إلى حد كبير كل التفسيرات التي قدمت للحروب الأميركية بأنها حروب للسيطرة على النفط في المنطقة، وهو معطى كانت تؤمنه منذ «كوينسي» معادلة الحماية مقابل التبعية التي لم تطرأ عليها تغيرات جوهرية. إنّ هذه الحروب الأميركية كانت تشن قبل كل شيء، ولا تزال، من أجل الحفاظ على موقع إسرائيل في قلب منظومة السيطرة، وهي المنظومة التي تؤمن السيطرة على النفط، وليس العكس.
وتبدو قنبلة محمد بن سلمان إعلامية أو نووية، محتملة، متساوقة مع تغييرات استراتيجية في المنطقة، سمحت للمتابعين بفتح مزدوجين للتساؤل عما إذا كان جدار التحريم الأميركي على العرب لأي نووي عسكري، قد أصابه فعلاً صدع ما، أو شبّه لهم.
أول هذه التغييرات أصاب النظام الإقليمي العربي الذي انهار كلياً بفعل الحرب الأميركية على العراق، واستهدافها هذا النظام الذي سعت عبر حروبها إلى إعادة تركيب الإقليم منزوعاً من أسسه العروبية. بعد الحرب الأميركية الأولى على العراق عام ١٩٩٢، كتب المستشرق الصهيوني الأميركي برنار لويس مقاله الشهير في «فورين أفيرز» ناعياً النظام الإقليمي العربي برمته، مبشّراً بأنه من علامات نهاية العالم العربي ككيان سياسي، وانفضاض إجماعه حول مركزية القضية الفلسطينية. ذهبت التطورات أبعد مما تصوره لويس، من سقوط فلسطين من حسابات السعودية والإمارات العربية، إلى اعلان إيران عدواً رئيساً لكل العرب، بعد أن تعاظم نفوذها وتمدد على طول دول محور المقاومة.
وهناك إسرائيل نفسها التي تغيّرت. إذ لم تعد تعتبر في خطابها، الرسمي على الأقل، جميع الدولة العربية عدواً، بل إن منهم حلفاء لها، فيما تستدير لترى إيران من حولها ومحور المقاومة العدو الأول. إنّ هذه التحولات الكبرى قد تكون زيّنت لبن سلمان إمكانية تحقيق اختراق في التحريم النووي العسكري، وبناء فرضيات نووية سعودية ضد القوة الإيرانية المتعاظمة.
إن هذه التغييرات ليست كافية برأينا، لكي تعيد الولايات المتحدة النظر بمعادلة الحماية مقابل التبعية السعودية. ذلك أن السلاح النووي سيكون قادراً، لو تحقق الاحتمال، على توفير حماية استراتيجية للسعودية وبنفسها. سيتسع هامش استقلال السعودية حيال الأوصياء عليها، كما فعلت دول من قبلها خرجت من العباءة الأميركية نسبياً بمجرد اهتدائها إلى الطريق النووي. تشكّل باكستان نموذجاً مهماً في هذا السياق. إذ ابتعد الباكستانيون عن واشنطن تدريجاً للاقتراب من الصين، بعد أن توصلوا إلى تفجير قنبلتهم الأولى عام ١٩٩٨، وبناء ردع نووي مع عدوهم التقليدي الهند التي سبقتهم إلى تفجير قنبلتها في العام نفسه. لكن العقبة الكأداء التي تعترض أيضاً تحويل قنبلة ابن سلمان من إعلامية إلى نووية، هي إطلاقها دينامية الانتشار النووي الذي تخشاه إسرائيل وأميركا والقوى الغربية، أو بمعنى أدق انفتاح السباق إلى السلاح النووي بين القوى الإقليمية، المحيطة بإسرائيل من كل صوب. إن هذا السباق في حال انطلاقه سيقلب موازين القوى الدولية والإقليمية، ويحوّل منظومة الهيمنة الغربية والأميركية إلى سراب يشبه سراب القنبلة النووية السعودية.
محمد بلوط - الأخبار
إضافة تعليق جديد