التصوير الفوتوغرافي بين حداثة الاختراع والغاء الآخر
سامي أبو سالم:
التصوير الفوتوغرافي، كغيره، كان صرخة في عالم الاختراعات الحديثة التي أفرزتها الثورة الصناعية في أوروبا، ترك أثره على الساحة الفنية والسياسية. فكما كان شاهداً على اختراعات وتطور علمي وفني، جعلت منه أوروبا سلاحاً فعالاً في ممارسة ساديتها على “الشرق” فيما عُرف بـ”الاستشراق”. بيد أن الحركة الصهيونة لم تكن تاركة الأمور تسير “على الغارب” فجعلت منه أداة هامة في اقتلاع شعب فلسطين من أرضه، وحاولت مسحه من ذاكرة التاريخ لتزرع جسماً بديلاً عنه بات يُعرف بـ”إسرائيل”.
في التاسع عشر من شهر آب عام 1839 أعلن فرانسوا أراغو، زعيم الحزب الجمهوري الفرنسي، عن اختراع التصوير الفوتوغرافي، مشيراً إلى أن هذا الاختراع الجديد سيساهم بشكل كبير في اكتشاف “عجائب الشرق”.
تكالب الغرب على هذا الاختراع الجديد، فكان سلاحاً ساعد بشكل جلي في تعبيد الطريق أمام الهجمة الاستشراقية الاستعمارية، وفك رموز افتراضات وايديولوجيات واستيهامات متعلقة بمنطقة من العالم تدعى الشرق. رفع من وتيرتها الصراع بين القطبين الحاكمين (بريطانيا وفرنسا) على اقتسام تركة “الرجل المريض” (الامبراطورية العثمانية) بعد أن بدأ المرض العضال وضع لمساته الأخيره عليه. فبدأت أوروبا في قراءة ثقافة الشرق مستعينين بالصور الفوتوغرافية في نقل أشكال ورسومات مخطوطات أثرية لقرائتها وتحليلها هناك، ما وفر الكثير من الوقت عبر الاستعاضة به عن النسخ. الأمر ذاته تكرر في نقل الجغرافيا والأماكن المقدسة والأثرية بكل ما احتوت من فنون هندسية معمارية وغيرها.
بعد حوالي ثلاثة أشهر من اعلان آراغو، شد مصورون، وباحثون، أوروبيون رحالهم الى “الشرق”، على رأسهم المصور الفرنسي فريدريك غوبيل فيسك، الذي ابتعثته الخارجية الفرنسية – برفقة الرسام هوراس فيرنيه- في رحلة “علمية” وذلك في السادس من تشرين ثاني/ نوفمبر 1839. ويُعتبر فيسك أول مصور يدخل فلسطين خلال رحلته الى “بلاد الشرق والأراضي المقدسة”. فبعد وصوله الى فلسطين، عبْر مصر، بدأ في التقاط الصور الفوتوغرافية ملتهماً بعدسته أبرز ما يميزها؛ الأماكن المقدسة والتاريخية. وفي الثامن من شهر آب 1850، وصلت القدس بعثة فرنسية تضم المصور ماكسيم دي كومب يرافقه الكاتب غوستاف فلوبير، والتقط المصور اثنتي عشرة صورة لمدينة القدس، نُشرت في كتاب خاص في باريس سنة 1852.
وفي العام (1844) وصل القدس المصور البريطاني الكسندر كيث، الذي التقط عشرات الصور استعان بها في دراسة الصلة بين ما ورد في الكتاب المقدس وجغرافية الأراضي المقدسة، وهذا ما استفاض في شرحه في كتابه “براهين على حقيقة الدين المسيحي”.
في تلك الفترة، لم تكن الحركة الصهيونية غائبة عما يغزو العالم من تحولات سياسية واقتصادية وفكرية. ففي نفس العام الذي اُعلن فيه عن اختراع التصوير، أطلق اللورد شافتسبري (1801-1885)، أحد دعاة الانجيلية الصهيونية، عام 1839 في مقال نشرته صحيفة “كوارترلي ريفيو”، أكذوبته الشهيرة أن “فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” التي التقطها زعماء الحركة الصهيونية مستغلين اختراع التصوير لتحويل الأكذوبة الى واقع.
فمن أبرز السمات التي ميزت الصور الفوتوغرافية في تلك الحقبة، هي خلوها من العنصر البشري، فكانت جل الصور تعطي انطباعاً بأن فلسطين أرض خالية من السكان، ويرجع ذلك الى أسباب عقائدية وفنية وغيرها.
فحسب اعتقاد بعض البروتستانت (في تلك الفترة على الأقل) كان هناك اعتقاد مفاده أن فلسطين أرض حلت عليها لعنة الرب لأن المسيح صُلب فيها، بجانب بداية تبلور الحركة المسيحية الصهيونية، التي كان البروستانت مصدرها الأساسي، جعلتهم يلتقطون صوراً تخلو من العنصر البشري، وكأنها أرض لم تطأها قدم انسان وهي على حالها منذ 2000 عام.
في تلك الفترة بدأت الحركة الصهيونية في شراء الصور الأولى لفلسطين ونشرها بين الجاليات اليهودية في العالم، وفي أوروبا على وجه الخصوص، وبدأ لعاب اليهود في السيلان للانتقال الى تلك الأرض التي “لم تطأها قدم انسان” منذ صلب المسيح عليه السلام، سيما وأنها (الطائفة اليهودية) في أوروبا كانت طائفة غير مرغوب فيها، يتجنب كل شرائح المجتمع التعامل معها. كانت تعيش في عزلة تامة، غرباء، دخلاء، مكروهين، الأمر الذي شجعهم أيضاً للهروب من مكان لا يحظون فيه بالاحترام.
إن خلو الصورة الفوتوغرافية الأولى لفلسطين، من العنصر البشري لا يلغي بعض الاستثناءات، التي ظهر فيها عائلات فلسطينية. بيد أن صور تلك العائلات كانت تتسم بالطابع الديني أو الامجتمع البدائي؛ فكان معظم الأشخاص يظهرون كقديسين أو رهبان أو رعاة؛ فتحمل ايحاءً لسيدنا عيسى عليه السلام، أما “السكان” فكانوا مجرد حفنة من البدو الرحل الذين مروا بفلسطين خلال ترحالهم بحثاً عن المراعي. بمعنى آخر، لم يكن هناك متسع للمواطنين الفلسطينيين في حياتهم اليومية، سواء الفلاح أوالطبيب أوالمعلم أورجل الأعمال والعامل ..الخ.
سبب فني آخر، ربما، كان له دور في خلو الصور من العنصر البشري؛ هو بطء سرعة غالق العدسة (shutter speed). فعند التقاط صورة لأشخاص في حالة حركة، سيظهرون على شكل أشبه بأشباح، الأمر الذي كان يتجنبه المصورون.
لم تخلُ أهداف البعثات الأوروبية الى الشرق من أهداف علمية وفنية وغيرها، فوصل الى فلسطين عدد من الباحثين/ المصورين الذين قادتهم مهنيتهم الى منحى آخر، ففي العام 1844 التقط المصور والخبير في العمارة الإسلامية، جوزيف برانغي، عدداً من الصور الفوتوغرافية لمباني وشوارع والفن المعماري الاسلامي والأرمني، وغيرها، في القدس، وتعتبر صوره من أندر وأقدم اللقطات للمدينة. غير أن المصور البريطاني فرنسيس فريث الذي زار مصر وفلسطين عام 1859 قال ان جولته هو تسلية الجمهور بابراز عجائب الشرق، باعتبارهما “أبرز مكانين على الكرة الأرضية” كما ذكر في مقدمة كتابه “مصر وفلسطين”. وباعتباره صاحب مؤسسة تجارية، التقط مئات الصور مصوباً عدسته نحو الأماكن المقدسة والعتيقة ليجعل منها بضاعة تجارية رائجة .
في مطلع الستينيات من القرن التاسع عشر كان الاهتمام البريطاني الإستراتيجي منصباً على احتلال “الأراضي المقدسة”، الأمر الذي استوجب تكثيف “المعرفة البريطانية” بالمنطقة. وظهرت أول دراسة رسمية بريطانية مصورة عن القدس في العام 1865، بعد أن عمل فريق عسكري تابع لسلاح الهندسة البريطانية رسم الخرائط العسكرية وغير العسكرية والتقاط الصور للقدس وضواحيها، (استعان بها الجنرال اللنبي في دخوله للقدس سنة 1917).
أثار نشر الدراسة المصورة عن القدس اهتماماً كبيراً في أوروبا، وسارعت مؤسسات عديدة إلى إرسال بعثات “علمية” إلى الشرق، مع اهتمام خاص بفلسطين. وتأسس في لندن “صندوق استكشاف فلسطين” عام 1865، وكان الهدف المعلن لهذا الصندوق “استكشاف الماضي” من خلال دراسات أثرية وجغرافية. وساهمت الطائفة اليهودية في تمويل هذا المشروع باهتمام بالغ، ووضعوا جل اهتمامهم في مشروع استكشاف شبه جزيرة سيناء بهدف “توعية تلامذة العهد القديم”.
في تلك الفترة كانت الحركة الصهيونية في أوج نشاطها الساعي لا قامة وطن لهم في فلسطين. وابان مؤتمر بال في سويسرا عام (1897) تبنى اسرائيل زانغفيل، أحد قادة الصهيونية، أكذوبة شافتسبري. وكان “وليام بلاكستون” 1841-1935، أحد أعمدة الصهاينة الأمريكيين من غير اليهود، من أبرز ممن أثروا في البروتستانتية الأمريكية عبر كتابه “عيسى قادم”، وقد طُبِعَ من هذا الكتاب أكثر من مليوننسخة، وتُرجِمَ إلى 48 لغة، منها العِبْرية، وقد تأثر بالكتاب بالطبع عدد من سياسيي أمريكا، أبرزهم الرئيس الأمريكي “ودروو ولسن” (1913-1921) المنحدر من بيت مُتديِّن نشأ على التعاليم البروتستانتية الأمريكية، التي تؤمن بالأسطورة الصهيونية، وقد اعترف بأنه ينبغي أن يكون قادراً على المساعدة في “إعادة الأرض المقدسة إلى أهلها”.
وزادت الحركة الصهيونية من نشاطاتها وضغوطاتها على الحكومة البريطانية، لتترسخ أكذوبتهم الى واقع عبر الوعد الذي صكهم اياه اللورد بلفور بتاريخ 2/11/1917 باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
ضربة معلم :
ابان الحرب العالمية الثانية، كانت هجرات اليهود من أوروبا الى فلسطين في أوجها، وزادت الحركة الصهيونية من الاعتماد على الصور الفوتوغرافية التي كانت كسلاح ذو حدين؛ الحد الأول تمثل في نشر صور لضحايا من الطائفة اليهودية الذين تعرضوا للممارسات النازية، الأمر الذي جعل المجتمع الأوروبي يقع في “عقدة الذنب” تجاه هذه الطائفة، وتعزيز الفكرة لديهم بوجوب مساعدتهم تكفيراً لهذا الذنب. أما الحد الثاني فكان تعزيز نشر صور “أرض الميعاد” الخالية من السكان لتشجيع أبناء الطائفة اليهودية للرحيل إليها.
بدأ المهاجرون اليهود يتدفقون الى فلسطين، وارتفعت وتيرة اقامة المستعمرات الصهيونية، وأمدتهم أوروبا، وخصوصاً بريطانيا، بالآلات الصناعية والزراعية الحديثة والسلاح، فأقيمت المزارع الخضراء والمباني داخل المستعمرات، وهنا أيضاً كانت للحركة الصهيونية “ضربة معلم” جديدة على صعيد التصوير الفوتوغرافي. آلاف الصور التقطها مصورون صهاينة لمزارعهم ومنشآتهم الجديدة وصدروها الى أوروبا لدعايتهم الجديدة في ابراز قدرة المهاجرين اليهود على تحويل “الأرض اليباب” الى جنات عدن، فكانت هذه الصور ذو أثر مزدوج وذلك بتشجيع الطائفة اليهودية للرحيل الى فلسطين ولكسب التأييد اللازم من أوروبا، الأمر الذي لاقى صداً واسعاً في الأوساط الأوروبية الرسمية والشعبية، فكتب المندوب السامي هربرت صموئيل عام 1925: “إن المستوطنين في كل أنحاء البلاد يعملون في الأرض بتلهف وايمان. ان المستنقعات والقفار تتحول الى حدائق غنّاء، بلاد متخلفة تتحول الى دول متطورة.
وهؤلاء الناس الذين يقومون بهذه العمال جديرون بأن يحولوا العدو الى صديق”. أما غولدا مائير فتقول في كتابها “مذكرات أبي”: وهل ازدهرت الصحراء في اسرائيل ونحن في المنفى؟ وهل غطت الأشجار جبال يهودا؟ وهل جفت المستنقعات؟ لا! انها صخور. صحراء. ملاريا. تريخوما. هكذا كانت البلاد قبل أن عدنا”.
التصوير ممنوع :
لم يقتصر دور التصوير الفوتوغرافي على قلب الحقائق وتزوير التاريخ، بل ساهم أيضاً في تنفيذ عشرات المجازر بحق الشعب الفلسطيني. فبينما كان الانتداب البريطاني يلملم عتاده للانسحاب من فلسطين، شنت العصابات الصهيونية حملات ارهابية على المدن والقرى الفلسطينية يذبحون، وينهبون ويقصفون ويدمرون ويحرقون، عشرات الآلاف من النساء والأطفال والرجال أكلت الوحوش جثثهم في الشوارع والصحاري والأسواق، مئات الآلاف طردتهم العصابات الارهابية الصهيونية من بيوتهم وقراهم بالقوة ليكملوا “حياتهم” في “منافٍ” جديدة. لم يواجه مجموعات الارهاب الصهيونية الا قلة قليلة من المقاومين الفلسطينيين الذين كانوا يواجهون المخرز بالكف، تبعهم بعد ذلك عدد من “الجيوش” العربية الذين “حاربوا” ثم أبلوا بلاءً
حسناً في الانسحاب وتركوا الشعب الفلسطيني تحت رحمة الطائرات والمدافع الصهيونية، وذلك فيما بات يُعرف بـ”حرب” 48!.
عشرات المجازر ارتكبت في ذلك الوقت، لا نريد أن نحول الحديث الى ذاكرة خاصة بالنكبة، غير أن السؤال الذي يفرض نفسه، أين صور المجاز آنذاك؟ ألم يكن في العالم وكالات أنباء؟ أين صور آلاف الجثث التي نهشتها الوحوش في شوارع اللد وبيت دراس والمسمية وبرير وغيرها من مئات القرى؟ أين صورالقرى الفلسطينية قبل أن يُقام على أنقاضها “الكيبوتسات والمعبروت” (1)؟ أين اختفى عشرات، بل مئات، المصورين الذين كانوا يتدفقون الى فلسطين لتصوير “عجائب الشرق والأرض المقدسة”؟
إن الحركة الصهيونية التي حرصت على نشر صور ضحايا النازية كانت تعي خطورة نشر الجرائم التي أرتكبوها في فلسطين، والأثر الذي ستتركه هذه الصور على المجتمع الغربي الذي لم يزل في أوج دعمه لهم، فحرصت على تفريغ الأرض من الكاميرات وارتكبت مجازرها دون أي رادع أخلاقي، أو غيره.
هم أيضاً بشر:
في نيسان (أبريل) 1956، توجه المصور السويدي بير آولو أندرسون (1921-1980) الى مصر لتغطية العدوان الثلاثي (إسرائيل، فرنسا، بريطانيا) على مصر، ومن هناك عرج على غزة التي كانت تحت الإدارة المصرية. زار أندرسون مخيمات اللاجئين، على رأسها مخيم الشاطئ، وهناك صُعق من هول ما رأى من حياة بؤس يعيشها الشعب الفلسطيني أثر النكبة التي حلت به عام 1948.
وتبدلت الصورة التي اعتملت في مخيلته عن الفلسطيني (إن وجدت) بالحقيقة، حقيقة وجود شعب فلسطيني صاحب للأرض التي رُوج أن لا شعب لها، وحقيقة أن هذا الشعب وقع “ضحية الضحية”.
التقط أندرسون مئات الصور الهامة جداً لحياة اللاجئين الفلسطينيين مسلطاً الضوء (وربما له السبق في [نشر] ذلك) على تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين، كاشفاً النقاب عن كينونتهم الإنسانية وعن معاناتهم والقهر والبؤس والظلم والظروف التي يعيشون، وتفاصيل حياتهم اليومية، في المنزل والمدرسة والعيادة، الطفولة والشيخوخة والحرف وغيرها، “مكتشفا” الوجه الإنساني.
توجه اندرسون الى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر طالباً منه تمويل كتاب مصور يحمل الوجه الحقيقي للانسان الفلسطيني في محاولة لدحض الأكاذيب الصهيونية التي سيطرت على الشارع الغربي. وبعد موافقة عبد الناصر توجه أندرسون الى الولايات المتحدة لينشر كتابه “ذي آرهيومان تو” (هم أيضاً بشر)، في خريف 1957 في نيويورك، الأمر الذي كان بمثابة صاعقة للحركة الصهيونية التي “أقامت الدنيا ولم تقعدها” في الولايات المتحدة وأوروبا، وفي غضون أسابيع قليلة اشترت الحركة جميع نسخ الكتاب ليختفي عن أرفف المكتبات في الولايات المتحدة وغيرها، ولم يتبق منه إلا نسخا نادرة في المتاحف.
: وتتكرر المأساة
وبقي الفلسطيني الانسان مغيباً، وبقيت الكاميرا الصهيونية هي المسيطرة. ففي تشرين ثاني (نوفمبر) 1956، احتلت القوات الاسرائيلية قطاع غزة، وبالطبع، تكررت المأساة. مجازر أرتكبت بالجملة، وتكدست مدارس مدينتي خانيونس ورفح بالجثث، مئات الرجال ذُبحوا بدم بارد، اقتحم جنود الاحتلال الاسرائيلي المنازل، قتّلوا الرجال واستحيوا النساء، أفواج قُيدوا كالأغنام في وسط مدينة خانيونس قرب “الخان” (الشهير باسم قلعة السلطان برقوق)، وفي المدارس وأُطلق عليهم الرصاص، العشرات الذين قُتلوا أمام أعين أمهاتهم، ناهيك عن مئات آخرين تم اقتيادهم في عربات ولم يرجعوا حتى الآن…. أين صورهم؟.
ان غياب صور المجازر الاسرائيلية، لا يعني انعدام امكانية التصوير في تلك الفترة، وصور “أرشيف” وكالة اغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأنروا” خير شاهد على ذلك. بيد أنها لم تكن صور صحفية، بل أرشيفية لصالح الأنروا ولجهودها المبذولة لاغاثة اللاجئين الفلسطينيين، وبقيت مختزنة على أرفف الأونروا الى أن رأت النور في السنوات الأخيرة الماضية تحمل تعليقات بصيغة المبني للمجهول… “
“انتعاش” التصوير في فلسطين :
يرجع الفضل في نشر وارساء فن التصوير الفوتوغرافي في فلسطين الى الطائفة الأرمنية، على رأسهم الأسقف الأرمني، يساي غرابيديان، الذي عُين بطريركياً في القدس (1858-1865). أنشأ غرابيديان خلال توليه هذا المنصب “أستوديو البطريركية الأرمنية” عام 1860، كان أشبه بمعهد لتعليم التصوير آنذاك، تخرج من تحت يده العشرات على رأسهم عائلة الكريوكان الذي برز منهم “غارابيد كريكوريان” فأنشأ أول استوديو في القدس عام 1885، بقي يعمل حتى عام 1948، نافسه المصور اللبناني خليل رعد (تلميذ غرابيديان أيضاً) الذي أسس استوديو خاص به في شارع يافا في مدينة القدس عام 1898. كما برز المصور المقدسي حنا صافية (1910-1979)، أحد أوائل محترفي التصوير في فلسطين. كان له دور في “توثيق” الحياة الفلسطينية تحت الانتداب البريطاني والحكم الأردني والاحتلال الاسرائيلي. كذلك نشطت المجموعة السويدية في مجال التصوير في القدس وافتتحوا، بالاشتراك مع “الأميريكان كولوني”، مؤسسة تصوير في القدس عام 1898، بقيت تمارس نشاطها حتى عام 1930.
في تلك المرحلة من تاريخه كان التصوير في فلسطين يُنظر اليه كـ”موضة أوروبية” فلم يُعر الكثير من الجمهور والأدباء اهتماماً كافياً به، الأمر الذي هضم حق المصورين الفلسطينيين في ادراج أسماءهم في سجلات التأريخ الفلسطيني، وشجع احتكار المصورين الأجانب لهذه المهنة.
صحيح أن انتعاش التصوير الفوتوغرافي في فلسطين في تلك الفترة يدعو للفخر، الا أن ذلك يدعو للتساؤل: ألم يكن لهؤلاء المصورين دور في توثيق النـكبـــة؟ أم هم أنفسهم وقعوا ضحايا للضحية؟ أم…!، هذا اذا استثنينا بعض (الطفرات) مثل المصور الأرمني نكشينا هرانت، وهو من أوائل من وثقوا حياة اللاجئين الفلسطينيين بين الأعوام (1948-1952). انتقل هرانت الى فلسطين هروباً من الحكم التركي في أرمينيا ابان الحرب العالمية الأولى، وصل الى يافا وتنقل بين مدن فلسطين الى أن التقى بالمصور “كيغام”، وتزوج الاثنان من أختي بعضهما. وافتتح كيغام استوديو في مدينة غزة حمل اسمه لا يزال يعمل حتى يومنا هذا.
امتد غياب الفلسطيني الانسان عن الساحة الاعلامية الدولية الى أواسط القرن العشرين، حينما دأبت الحركة الصهيونية (وخصوصاً بُعيد حرب حزيران 1967) على نشر صورة العربي/ الفلسطيني الارهابي. مستهلين دعايتهم بأن حرب الأيام الستة كانت حرباً دفاعية، وأن تلك الحرب قد فُرضت عليها من قبل “ستة جيوش عربية”. وبرز اليهودي “المسكين والضحية والمدافع عن نفسه” في وسائل الاعلام الغربية، قابلها صورة الفلسطيني الارهابي الذي سيلقي باليهود في البحر ليأكلها سمك القرش.
وبقيت الصورة- غالباً- على هذا المنوال، الى ما بعد بعد حرب 1967، وابان السبعينيات، استندت الحركة الصهيونية أيضاً الى عمليات المقاومة في ابراز الوجه الارهابي للفلسطينيين مستندين الى ذلك على “خير دليل” عمليات خطف الطائرات التي نفذها مقاتلون فلسطينيون للفت أنظار العالم الى قضيتهم التي باتت “نسياً منسيا”.
مفارقة عجيبة، أن تتعزز أكذوبة أرض بلا شعب، وفجأة يظهر شعب “ارهابي”، أين كان هذه الشعب؟ ومتى أتى، ومن أين أتى، وكيف وصل الى هذه البلاد، ولماذا هم “ارهابيون”؟ أسئلة كثيرة لم تبادر ذهن المجتمع الغربي الذي لم يكن من الصعب عليه أن يكره شعباً لا يعرفه ولا يفقه عنه شيئاً ولا عن قضيته ولا عن المجازر التي ارتكبت بحقه على يد الارهاب الإسرائيلي، لم يكن صعباً عليهم أن يكرهوا “مجموعات ارهابية” تثير الرعب في أوساط المجتمعات “البريئة”.
لم تخدع الحركة الصهيونية المجتمع الغربي فقط، بل أيضاً كانت، كما أسلفنا، تضلل المجتمع الاسرائيلي نفسه. فإبان الغزو الاسرائيلي لبيروت عام 1982 وقع طيار اسرائيلي، من أصل ألماني، في قبضة المقاومة الفلسطينية بعد أن نفذ غارة ارهابية على أحياء سكنية في حي الفاكهاني في بيروت. وخلال استجوابه، قال أنه نفذ غارة على معاقل ارهابيين ومواقع عسكرية حسب الأهداف التي وُضعت ورُسمت له من قِبل قيادته، فاقتاده مقاتلون فلسطينيون الى منازل اللاجئين الفلسطينيين الأبرياء، الذين سحقتهم طائرته فتفاجأ لحجم الدمار الذي ألحقه بمنازل الأبرياء، وقال أنه القيادة خدعته.
ثقافة القتل :
في هذه المرحلة، لم يكن الاعلام الفلسطيني “الرسمي” متمثلاً في جهاز “الاعلام الفلسطيني الموحد” التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، ملتفتاً الى خطورة غياب الوجه الانساني للفلسطينيين، معتقداً أن نشر صور ضحايا الارهاب الاسرائيلي في بيروت، وطرابلس والبقاع وجنوب لبنان والأراضي المحتلة، وغيرها، كافياً “وزيادة”، غافلاً عن تفاصيل الحياة اليومية التي لها عمقاً روحانياً وثقافياً تفتقر اليه صور مسربلة بالدم. كما لعبت الحركة الصهيونية على وتر صور الأطفال الفلسطينيين “المدججين بالسلاح” في مخيمات التدريب الخاصة بمنظمة التحرير
الفلسطينية، فكانت (الحركة الصهيونية)، ولا زالت، تروج في العالم الغربي كيف يربي الفلسطينيون أطفالهم على ثقافة القتل والحقد والكراهية. قابلها صور المجتمع “المدني” الإسرائيلي المتحضر، متجنبـين أي اشارة الى طبيعة الثقافة العسكرية التي تسيطر على المجتمع العسكري الاسرائيلي… في محاولة لعصر الذاكرة، لم أتذكر أن رأيت صورة لطفل إسرائيلي مسلح.
وهكذا بقيت ساحة “الانسانية” في الصور الفوتوغرافية فارغة ترتع فيها الحركة الصهيونية كما تشاء، دون رد يستحق التنويه أو التسجيل في هذا الاطار مع بعض الطفرات التي لاقت صدىً قوياً كما حدث في قضية “الباص رقم 300” في نيسان/1984 (2).
كما لعبت الانتفاضة الكبرى (عام 1987)، دورا ايجابيا في كشف الزيف الاسرائيلي، وأظهرت الوجه الحقيقي (الارهابي) للاحتلال الاسرائيلي من خلال الصور التي تصدرت، الى حد ما، صفحات المجلات والصحف، فكان لها صداً واسعاً في أروقة السياسة العالمية وفي الأوساط الجماهيرية ما شكّل حرجاً قوياً لاسرائيل وضغطاً سياسياً لم تحلم القيادة الفلسطينية به من قبل.
كاميرا فلسطينية لصالح اسرائيل :
بعد اعترافنا بحالات أبدع من خلالها مصورون فلسطينيون في ابراز أوجه الارهاب الاسرائيلي، فمن المؤسف أن صور الأطفال الفلسطينيين الممتشقين أسلحة- ليست لهم-وصور المقنعين (المتكررة)، أو الوجوه التي تعكس الحقد والإجرام، غزت صفحات المجلات العالمية التي يسيطر عليها اللوبي الصهيوني بشكل أو بآخر. والمؤسف أكثر أن من يضغط على زر الكاميرا لالتقاط هذه الصور هو مصور فلسطيني قلباً وقالباً.
وعي غير كافي لدى بعض المصورين الفلسطينيين ساهم بشكل مباشر في تشويه صورة الضحية الفلسطيني ويجعل منه جلاداً. ضحالة في الوعي تركت انطباعاً أن الفلسطيني هو مخلوق لا يفقه سوى لغة الدم.
لا ننكر الواقع الذي يفرض نفسه علينا، لكن ليس للدرجة التي يجردنا فيها الاحتلال من انسانيتنا، ليختفي الطفل الفلسطيني البريء والطبيب والفنان والميكانيكي والطالب، والبائع من الساحة الفوتوغرافية. ان ابراز بعض المصورين لمهاراتهم في اظهار الفلسطيني الضحية هي بالفعل حقيقة وأمر ايجابي، الا أنه هذ ليس كافياً، كما قالت المصورة السويدية ميا غروندال في لقاء خاص معها ان صورة الفلسطيني الطاغية في الغرب “حتى الآن” هي صورة الارهابي الحاقد المتسلح بثقافة القتل، داعية الى تسليط الضوء على الفلسطيني الإنسان.
——————–
——————–
(1)كيبوتس: تجمع قروي اشتراكي انتهجته الحركة الصهيونية لخداع الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي بأن الدولة العبرية قائمة على النظام الاشتراكي، والمعبروت جمع معبراه ويعني مركز تجمع سكنية لتجميع المهاجرين السفيراديم (من أصول شرقية) كمحطة قبل “استقرارهم” في المدن الكبرى التي خصصت اليهود الاشكنازيم (من أصول غربية).
(2) إعتقلت أجهزة المخابرات الاسرائيلية شابين فلسطينيين وأعلنت أنهما قٌتلا في اشتباك مسلح، ثم تبين أن جماجمهم تحطمت بصخرة كبيرة خلال تحقيق ميداني في دير البلح بقطاع غزة.
إضافة تعليق جديد