نجيب محفوظ في ذكرى رحيله الأولى
قد يكون البحث عن أثر نجيب محفوظ في الروائيين العرب الجدد أجمل تحية يمكن أن توجه اليه في الذكرى الأولى لرحيله. بعض هؤلاء الروائيين رافقوه وعرفوه عن كثب وبعضهم عرفوه من بعيد وقرأوا أعماله. لكنهم لا يستطيعون جميعاً الا أن يعترفوا بريادته هو الذي أسس الرواية العربية المعاصرة منتقلاًَ بها من مرحلة «الأدب» الروائي الذي تجلى عبر أعمال محمد حسين هيكل ومحمود تيمور وابراهيم المازني وسواهم الى مرحلة «الفن» الروائي القائم على المفاهيم والتقنيات التي عرفتها الرواية العالمية .
كانت «رواية» نجيب محفوظ بمثابة الجدار الذي كان لا بدّ للروائيين العرب الجدد أن يصطدموا به ليتجاوزه ويكتبوا روايتهم الأخرى ويبنوا عالمهم الآخر. بل كانت «رواية» نجيب أشبه بالتحدي الذي تجب مواجهته كي يتمكن الروائيون الجدد من الانتقال الى مرحلة الحداثة الروائية التي تعني في ما تعني التجريب والاختبار والبحث عن لغة جديدة ومعالم وعلاقات وآفاق... لكن هذا «الرهان» لا يعني أن رواية نجيب محفوظ ليست حديثة، وإن ظلت في منأى عن التحولات التي شهدتها الرواية العالمية والعربية في الستينات والسبعينات من القرن المنصرم. ولا تمكن قراءة أعمال محفوظ الا بصفتها سليلة عصره ووليدة البيئة المعاصرة التي عاشها وعاش فيها. وليست المرحلة التاريخية أو «الفرعونية» الأولى التي عرفها وكتب فيها روايته «كفاح طيبة» مثلاً إلا خطوته الأولى نحو عالمه الذي تجلّى لاحقاً عبر المرحلتين المتعاقبتين: الواقعية والواقعية الجديدة.
كان نجيب محفوظ هو المؤسس والمجدد في آن واحد. أسس الرواية العربية في المفهوم الروائي العالمي وصنع لها تراثاً بكامله وحدّثها وجعلها ابنة العصر بهمومه وأزماته وأسئلته الكثيرة. وظّف بعض الأساليب التراثية في بضعة أعمال لكنه لم يقع في أسرها بل سرعان ما تخطاها الى الاساليب الجديدة ولم يكن يضيره أن يكتب الرواية التقليدية أو الكلاسيكية والرواية التاريخية والرومنطيقية والواقعية، هو الـذي تأثر بالتراث الروائي القــديم مثلما تأثر بأعمال ديكنز وتولستوى وبلزاك وفلوبير وسواهم. كان محفوظ قارئاً نهماً للرواية الغربية لكنه لم يرافق تجلياتها الحداثية وما بعد الحداثية.
لا يستطيع أي روائي عربي معاصر أن ينكر «أبوة» نجيب محفوظ، لكن هذه «الأبوة» لم تكن في حاجة الى «أبناء» يقتلونها كي يتمكنوا من تحقيق مشروعهم الخاص. إنها «أبوة» رحبة وقادرة على الاحاطة بـ «الأبناء» ولو كان بعضهم «ضالين» ورافضين. لم يؤثّر نجيب محفوظ في مريديه فقط بل في المتمردين عليه أيضاً. وأثره في هؤلاء وإن كان «سلبياً» يظل أثراً يُذكر. حتى الذين لم يميلوا الى عالمه لم يستطيعوا التخلص من هذا الأثر. روائياً في حجمه وفي مثل اسطورته لا يمكنه أن يمرّ من دون أن يترك أثراً، أياً يكن. لكنّ صاحب «الثلاثية» لم يدّع «الأبوة» يوماً ولم يسع الى البحث عنها لدى «الأبناء». ومشروعه الروائي الضخم الذي أنجزه ما كان ليقوم لولا «لعبة» المراحل التي كان يتجاوز بها نفسه ولغته وكأنه المعلم والمريد في الحين عينه.
في مثل هذا اليوم 30 آب (أغسطس) من العام الماضي رحل نجيب محفوظ عن 95 سنة. سنة على غيابه تبدو كأنها أشبه بالبارحة. هنا شهادات من روائيين عرب.
عبده وازن
ابراهيم الكوني
> إذا اتفقنا بأن وجود المبدع الحقيقي رهين نصّه لا شخصه، فإن تأثير نجيب محفوظ في الرواية العربية سلطة لن تنقشع لمجرّد استبداله الوجود الدنيوي بالوجود الأبدي، بل ربما استعارت هذه التجربة بُعداً أعمق بسبب تلك القداسة التي يهبها الموت والتي تحوّل أعمال أولئك الذين رحلوا مادّةً رمزية جديرة بأن تُعبد.
المبدع، اذاً، كالقدّيس الذي لا يُبعث حيّاً حقّاً إلاّ وتحوّل في يقين الأحياء رمزاً. وهو ما يعني أنّنا لم نخسر محفوظ برحيل محفوظ، ولكن خسره أهله وأولئك الذين عرفوه عن قرب. أمّا بالنسبة الى الإنسانية، فهو أقوى حياةً مما كان عليه أثناء حياته، لا على مستوى السرد العربي وحده، ولكن على المستوى العالمي الذي رآه روحاً مغلولةً برسالة. والتأثير هنا يحتفر سبيلاً أخلاقياً يمتلك سلطاناً أقوى بما لا يُقاس على روح الأجيال الروائية. ولهذا، فإن محفوظ لم يكن مجرّد سلطة روائية، ولكنه كان سلطة روحية، أو فلنقل أخلاقية، لأن سيرته الذاتية أيضاً رواية، أيضاً أمثولة مثله مثل سقراط، الى جانب كونها سيرة فكرية، مما يجعله نموذجاً يصلح لأن نخلع عليه لقب المصلح الى جانب مرجعيّته في حقل الإبداع الروائي. أمّا عن تأثير هذا الحكيم في تجربتي الروائية فأستطيع أن أؤكد أن الكلّ خرج من حارة نجيب محفوظ كما خرج أدب روسيا القرن التاسع عشر من «معطف» غوغول، كما عبّر أحد الأمراء الروس في العبارة الشهيرة المنسوبة خطأ الى دوستويفسكي.
غادة السمان
> كروائيه أشبه أوراق الأشجار، ما إن تمر بي نسمة إبداع حتى أرتجف وتهزني، ولست من الذين يستطيعون أن ينشدوا لأي مبدع من أساتذتي «انت وبس اللي حبيبي»، إذ ما من شاعر أو كاتب جيد طالعته إلا وتأثرت به بالتأكيد (وهذا ينسحب أيضاً على محفوظ). كيف؟ لا أدري بالضبط. ولكن نجيب محفوظ يمثل انتصار جمالية «القص» على جمالية اللغة وهو درس لعلي كنت بحاجة إليه في مرحلتي الأولى: مرحلة «عيناك قدري».
فؤاد التكرلي
> كان تأثير نجيب محفوظ فيّ، ومعه المدرسة القصصية المصرية، في ناحيتين مهمتين:
الأولى: كنت أعتبره منذ البداية رائداً حقيقياً لترسيخ الرواية كنوع أدبي في ذائقة القراء العرب، مما جعلها بمرور الزمن، فناً مقبولاً ومنتشراً في كل الأقطار العربية. هذا الأمر سهّل علينا، نحن الروائيين العرب، ايجاد قراء كثر لنا ومنحنا ثقة بالمستقبل وثقة بأن الفن الروائي سيزيد من انتشاره بين القراء على مرّ الأيام.
الثانية: وهو ما يخص العملية الفنية لديّ. لقد كنا، صديقي عبدالملك نوري وأنا، نعتقد في بداية الخمسينات من القرن العشرين، بأن نجيب محفوظ يكتب بطريقة بلزاك الكلاسيكية القديمة، فيكثر من التفاصيل المملة ويتبع المسار الزمني الجامد ويستعمل لغة قديمة تحتفي أغلب الأحيان ببلاغة تخرج، في نظرنا، عن مجال اللغة الروائية ذات الدلالة.
هذا الاعتقاد، سواء كان خاطئاً أو صحيحاً، أفادني كثيراً، اذ جعلني أبحث عن لغة عربية بديلة، ومختلفة أو على الأصح أكثر حداثة مما كان يكتبه نجيب محفوظ.
لقد بقي هذا العملاق القصصي على نهجه اللغوي القديم ولم يتغير كثيراً. وكنت قرأت له «الحرافيش» حين صدورها فبهرتني وأدهشتني بزخمها وانسيابها وغنى مادتها الخام. ثم عدت أقرأها قبل سنة، فإذا بلغة العملاق تصدمني هذه المرة. انه لم يتغير وبقيت لغته تمّت الى البلاغة العربية القديمة أكثر من انتمائها الى اللغة العربية الروائية المعاصرة. كل ذلك لم يؤثر ولن يؤثر في مكانة نجيب محفوظ العالمية كروائي من الطراز الأول استحق عن جدارة جائزة نوبل للآداب.
لقد أثر فيّ ايجاباً حين مهّد لي ولغيري طريق الرواية ودفعني سلباً الى البحث عن لغتي القصصية ذات الدلالة الملائمة للكتابة الروائية.
رشيد بوجدرة
> أعتبر نجيب محفوظ أحد كبار الكتاب العرب لأنه بكل بساطة مؤسس الرواية العربية في القرن العشرين. عندما شرع نجيب محفوظ في كتابة الرواية كانت الروايات الأميركية تعرف انتشاراً واسعاً مثل فولكنر وغيره، إلا أن نجيب محفوظ كان متأثراً أكثر برواية القرن التاسع عشر.
أنا شخصياً لا أتفق مع نجيب محفوظ في بعض القضايا السياسية كموضوع نوبل ومساندته للسادات وأعرف أنه حتى اليوم تُستغل كتاباته سياسياً من طرف النظام الحالي، ولكن مع كل ذلك جميل أن نستحضره في ذكرى وفاته الأولى، فهو ساهم كثيراً في إخراج الرواية العربية الى العامية.
خيري الذهبي
> الآن وبعد أن انضم نجيب محفوظ الى صفحات التاريخ، تاركاً العضوية فيه للتراب، يحق لنا نحن الفانين أن نتساءل: ما الذي فعله نجيب محفوظ للرواية العربية؟ هل كان ذلك عشرات الروايات؟ هل كان ما فعله عشرات الشخصيات الروائية التي ضجت وتضج بالحياة أكثر من ملايين العابرين من دون مجد؟ هل كانت اكتشافاته التقنية في فن الرواية ومغامراته عبرها، هل كانت في جرأته على المعارضة السياسية لما رآه من أخطاء معاصريه من دون أن يحتك بهم احتكاكاً يؤدي الى تعطل مشروعه الروائي؟ أم... كان إسهامه الحقيقي هو في خلقه اللغة العربية الروائية الجديدة؟
أنا... وكروائي كابدت معظم التحديات التي يكابدها كل من يريد الإخلاص لفن كرس نفسه له، وأعني في هذه الحالة الرواية. أعتقد بأن أعظم ما ساهم به نجيب محفوظ كان... اللغة. والكتّاب المعاصرون يستعملون اليوم اللغة العربية ويظنونها وجدت هكذا، كانت هكذا، طوّعت هكذا منذ أيام العباسيين، ناسين القرون التي خدعت بها اللغة العربية بالقادمين إليها من حضارات كانت مغرمة بالبرقشة والزخرفة والتأنق الشكلاني بعيداً من الحفر عميقاً في ثنايا الروح، فظهرت لغة السجع والمحسنات البيانية والبديعية التي خضعت لها اللغة العربية لقرون وقرون.
ظهر نجيب محفوظ، ظهر بلغته الصارمة صرامة لغة القانون، الأنيقة أناقة لابس بدلة العرس، المحيطة بأسرار الحياة إحاطة «الامبروزاريو» الذي سنراه لديه في شخصية «حسن» في رواية «بداية ونهاية» وفي شخصيات رواية «ميرامار». كان نجيب محفوظ اكتشافاً وأستاذاً وقطرة للعين جعلتها تنفتح لترى ما حولك من دون تكبّر ومن دون ألفة واعتياد. وأعتقد بأن هذه العين هي صانعة الأدب. نجيب محفوظ كان أستاذاً وكان تحدياً، لكن الأهم أنه بالنسبة إلي كان صانع اللغة السردية التي يرتفع الكتاب في رحابها الآن.
الطاهر وطار
> ما يبقى من نجيب محفوظ بصراحة هو أنه الرائد، المؤسس الذي وهب نفسه وسبل أيامه نحو فن سردي جديد في الأدب العربي ألا وهو الرواية.
نجيب محفوظ لم يكتب كهاو، أو باحث عن فلوس، ولا حتى كباحث عن سمعة، لو أنه أراد فقط تلك السمعة لكانت تكفيه رواياته الأولى. ولكنه ظل يطرق كما قلت باباً جديداً وصعباً وليس في متناول كل القراء العرب لولوجه على مدى ما يقرب القرن والرجل ينتزع من عمره ساعات وأياماً وأسابيع ليقدم شيئاً اسمه الرواية بقطع النظر عن محتوى تلك الرواية.
يبدو لي أن محفوظ كتب عن وعي باللغة ووظيفتها، وعندما نقرأ «كفاح طيبة» أو «رادوبيس» نشعر بأن الرجل يكتب بغير اللغة العربية لأنها لغة روائية فعلاً لغة معبرة. وأظن أن ذلك راجع لتأثره بالأدب الانكليزي، إذ درس تقنيات الرواية من كل الأوجه: من اللغة إلى بناء الشخصية.
يبقى نجيب محفوظ الذي قطعت علاقتي القرائية به في الثمانينات لأن وقتي لا يسمح لي بالتخصص في كاتب واحد هو الدليل والقائد وشخصياً رشحته لنوبل قبل أن ينالها عندما استُشِرت في ذلك.
عالية ممدوح
> كروائية، أظن أن خيارات القراءة لروائي ما، من الشرق أو الغرب تترك أثراً، آثاراً ليس لكل عمل من أعماله بالطبع، وبالتالي يغدو التأثير متفاوتاً أيضاً.
نجيب محفوظ روائي شديد الخصوبة والتنوع والغزارة في إنتاجه ومعظمه كان يدخل ضمن ما يطلق عليه «المشروع الكبير أو الضخم» لتأريخ الطبقة، الفرد/ الذات، أحكام منظومة القيم وتراجعاتها، واصطفاء الأسئلة الوجودية الكبرى في الموت والشك والحب وفوضى مواقف البشر من الحرية والعدالة.
كنت شغوفة بمطاردته لشخصيات رواياته في بنائها النفسي والقيمي والفيزيائي حتى، ما بين الإقدام والإذعان وللجنسين، لكن، كان يتآكلني الغم من النماذج السلبية ومنطق اللامقاومة التي كانت تبديها نسوة نجيب محفوظ. وهو الموضوع الذي حاولت دراسته في أطروحة ماجستير في الجامعة اللبنانية لتحليل الاكراهات التي تتعرض لها المرأة في حركية المجمتع المصري، لكن الحرب اللبنانية أطاحت المشروع.
ينبغي القول، إنني لن أنسى الثلاثية لليوم. كنا، وفي شكل ما نحاول امتلاك صرخة كمال عبدالجواد، ربما، تلك كانت بديهية بالطبع، لكنها كانت نقطة انطلاق للعيش في لذة المآزق والشكوك.
عبده خال
> حينما قرأت نجيب محفوظ كنت في السابعة عشرة من عمري. ثمة صدفة محضة حملت إليّ روايات نجيب محفوظ وقصص يوسف ادريس ومحمد عبدالحليم عبدالله واحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي ومحمد جودت السحار والمنفلوطي، وعبدالحكيم قاسم ويحيى الطاهر عبدالله، صدفة حملته دفعة واحدة، ووجدت نفسي أمتلك قصصاً وروايات ولم أكن امتلك فراسة الفرز، فكنت أقرأ كيفما اتفق. واذكر أن أول عمل قرأته لنجيب محفوظ كانت رواية «عبث الاقدار» ولم استسغ حينها تلك الرواية. عدت الى نجيب محفوظ من خلال رواية «الحرافيش». الا أن هذه الرواية كانت ذات تشابك حكائي يبدو للوهلة الأولى انه مكرر، فتوقفت عن قراءة محفوظ لأدخل عوالم أخرى من قراءات الرواية العالمية. وعندما خرجت وجدت نجيب محفوظ مع «اللص والكلاب» وانتقلت معه الى «زقاق المدق» ثم الى «أولاد حارتنا»... هذا الطواف كانت فيه القراءة مبعثرة تستهدف المتعة ولم أكن أستوعب مسألة الأثر والتأثير. في منتصف الثمانينات بدأت الكتابة القصصية، وكانت الساحة الثقافية السعودية تفور بالحداثة، مقترنة برموز روائية تعد النماذج الحقيقية للكتابة. وكانت تصنيفات نقاد تلك المرحلة إسقاط تجربة نجيب محفوظ كونها تمثل الجانب الكلاسيكي في الرواية العربية، ولم يكن من اللائق لشاب يبدأ مساره الكتابي بنماذج كلاسيكية... كانت ثورة على الأشكال والأسماء ومن يحتج على تلك التصنيفات يتم إقصاؤه.
ويبدو لي الآن انها كانت ثورة شكلية، ثورة تتمحك بالمتغير من غير إحداث فعل يقود الى ذلك التغير، سواء على المستوى الكتابي الإبداعي أم على المستوى التنظيري المستقل غير التابع لمقولات مجلوبة لتلائم واقعاً ينادي به نقاد تلك المرحلة.
وعندما جاء فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل (بعد بدايتي الكتابية بأربع سنوات)، انقلب أولئك النقاد الذين صنفوا نجيب كاتباً كلاسيكياً الى حمل لواء «نجيب محفوظ أبو الرواية الحديثة»... هل تأثرت بنجيب محفوظ كتابياً وبطريقة ملازمة لكتاباتي أم أني تأثرت به وقتياً حينما كنت أستهدف المتعة من خلال القراءة؟
الآن وأنا أتلقى السؤال، أحاول الاقتراب من لحظات الكتابة (عندما كتبت رواياتي)، هل كان نجيب محفوظ يمثل لي هاجساً وأنموذجا كي يحفزني على بناء روايات تماثل ما كتبه، أو تتشابك أو تتجاور مع تجربته؟
الكتابة كالفعل المحرم نفعله وننسى ندمنا الأول حينما نعود لارتكابه مرة أخرى.
محمد برادة
> طبيعي أن نتأثر بكتاب ونصوص، إلا أنه يصعب تحديد نوعية التأثير ومداه، لأن عملية الإبداع بطبيعتها معقدة ومتشابكة وتخضع لمناورات اللاوعي والصدفة، أكثر مما تستجيب المقاصد الواعية... وإذا جازفت بتحديد تأثير محفوظ في نصوصي الروائية، فإنني أضعه ضمن الإشكالية المشتركة التي تشمل جيله وجيلي: أي استبطان أو تمثُّل الميراث العربي - الإسلامي، والحضارة الكونية، من منظور نقديّ يتيح الانخراط في سيرورة خلاقة ومتوازنة...
والطريق التي سلكها محفوظ، من خلال محاورة الأقانيم الثلاثة وتمثيلها: الجنس، الدين، السياسة، حفزتني على تمحيص التجليات الحياتية لسلوك شخوصه وردود فعلهم وتناقضاتهم... وأثار محفوظ اهتمامي أكثر عندما تحرر من رِبْق «الواقعية» المتطلعة إلى القبض على العلل المجتمعية والتاريخية،وخاض غمار أسئلة الوجود والصراع الأبدي بين الفرد والمؤسسة ،بين المواطن والسلطة، على نحو ما نجد في «اللص والكلاب» و «الشحاذ» و «أولاد حارتنا»...
من هذا المنظور، كنت أستحضر منجزات محفوظ، لا لأحتذيها، ولكن بصفتها نصاً يستدعي مجاوزته عبر اقترابي من شكل يلتقط تلاوين تجربتي ورؤيتي إلى العالم، ومفهومي للكتابة الروائية المعتمدة على تعدُّد اللغات والأصوات...
إلى جانب ذلك، كانت لشخص عمّنا نجيب كإنسان، مكانة أثيرة في نفسي لأنه يتمتع بخفة الدّم والألفة، ويشخّص نموذجاً للمصري المتعلق بالحضارة والواثق من نفسه. وهذا نموذج، للأسف، تضاءل في هذا الزمن السديمي. من ثمّ أحتفظ للقاءاتي الأربعة معه بذكرى ناصعة دائمة الحضور. وأذكر بالتحديد ما قاله لي سنة 1988، وأنا أُجري معه حواراً لمجلة «فلسطين» التي تصدر في باريس بالفرنسية من أن «طريقه ما كانت لتختلف عن المسار الذي قطعه، فهو بدأ الرحلة الآن، لأن المشكلات نفسها قائمة مع اختلاف في درجة التعقيد». وأضاف: «لكن لن يكون هناك استنساخ حرفي للماضي لأن التغيير قد شمل الأحداث والناس والزمان والمكان؛ وهذه عناصر تمنح الفن والرواية مصادر للتجدُّد».
فعلاً، لقد مهّد نجيب محفوظ الطريق لكي تتجدد الرواية المكتوبة بالعربية من خلال مواجهة أسئلة الحاضر. وأظن أن هذا جانب من تأثيره فيَّ.
نبيل سليمان
> ما إن اكتملت أجزاء روايتي «مدارات الشرق» عام 1993 حتى طلع من قرأ أثراً ما فيها من ثلاثية نجيب محفوظ. وربما كان ذلك محقاً من حيث الطموح إلى كتابة سيرة مجتمعية هي أيضاً حفر في التاريخ. لكنني لا أحسب سوى ذلك من أثر للثلاثية في الرباعية.
قبل ذلك بسنين كان قد طلع مَنْ رأى في لعبة تعدد الأصوات في روايتي «ثلج الصيف - 1973» أثراً من روايتي نجيب محفوظ «ثرثرة فوق النيل» و «ميرامار». لكن الأثر الأكبر هنا كان حقاً لرباعية داريل. ومنذ حين قصير طلعت من قارنت بين روايتي «سمر الليالي - 2000» ورواية نجيب محفوظ «الكرنك» فبدا لها أن تأثير الثانية في الأولى بالغ، إذ لم تكد تفعل «سمر الليالي» سوى أنها أبدلت بالنساء رجال «الكرنك». ولعل في ذلك صواباً أو خطلاً أكبر من توكيدي أنني لا أعي أثراً في رواياتي لإدماني قراءة روايات نجيب محفوظ.
كنت في سنتي الجامعية الأخيرة، أبرأ من الوجودية وأتمركس، وأتلعثم في الكتابة، حين جرفتني ثلاثية نجيب محفوظ في نهرها، وجعلتني ألهث خلف «زقاق المدق» أو «اللص والكلاب» أو «السراب» التي لم ترق لي لسبب ما، لكن نجيب محفوظ كان قد أسرني. وبلغ الأسر غايته بعيد هزيمة 1967 عندما قرأت في الرقة - على مشهد من نهر الفرات - رواية «أولاد حارتنا»، فدخت، وما أكثر ما تصيبني الرواية بالدوار حتى اليوم!
بيد أن كل ذلك أدار لي ظهره ريثما حاولت مشروع روايتين لم تكتملا، ثم كتبت روايتي الأولى التي ستظهر عام 1970، بلا أثر من نجيب محفوظ، ولا سواه، كما أدعي - على الأقل لم يشر أحد إلى ذلك - سوى أن يكون في التكوين أو في اللاشعور.
بعيداً من النفجة والنكران، أعوّل – في ما يخصني على الأقل - في فهم التأثير والتأثر على ما يتعلق بمرحلة التكوين، وعلى اللاشعور. وإذا كان الأمر كذلك، فقد أصابتني عدوى نجيب محفوظ، كما أصابتني عدوى «الطاعون» أو «الإخوة كرامازوف» منذ عشرات السنين، أو كما أصابتني للتوّ عدوى رواية «دميان» لحبيب عبدالرب سروري، أو رواية «المرأة والصبي» للميلودي شغموم. وكما أحسب أنني برئت للتو من هاتين الروايتين، أحسب أنني برئت من عدوى نجيب محفوظ التي تجددت غالباً مع كل رواية جديدة له، كما كان البرء منها يتجدد بعد قليل أو أقل. أما ما لا برء منه من عدوى نجيب محفوظ فهو قائم في سيرته، أي في أمثولته التي تعززت بأمثولات آخرين، منهم بوعلي ياسين، أعني: رهن الحياة للكتابة، أعني: النظام والدأب والتواضع والضحك والطموح والتجريب، وفي بعض ذلك أو كله أثر ما في «المطبخ» الروائي. أليس كذلك؟
علوية صبح
> كان لنجيب محفوظ بالغ الأثر فيّ، فهو الأب والمؤسس وهرم كبير من أهرامات مصر. وفي كل مرحلة من مراحل مراهقتي ونضجي كان له تأثير مختلف. كتاباته ساهمت في تشكيل وعيي وذاكرتي وعلمتني كيف تعقد الكتابة هذه الصلة الوثيقة بالروح والمكان ولا تجعلها على مسافة التباسية من مفاصل المجتمع وكينونة الكاتب الإنسانية الحية.
كان نجيب محفوظ يهبني متعة ومعرفة وهو يعيد اكتشاف الواقع ويساهم في تشكيل ذاكرتي ووعيي بالكتابة والحياة. وتشربت لغته التي تروي الحكاية بغناها السردي ولغة أبطالها وهي تبتعد من البلاغية المقعرة والأيديولوجيا والخطابية كلما اقتربت من الحياة ورسمت أبطالاً من لحم ودم.
أذاقنا نجيب محفوظ نكهة روائية تخص عوالمنا العربية من دون أن نغادرها. نكهة الإنسان في كل ناحية من العالم. وهو الذي أعادنا الى كنف أمكنتنا الأولى التي هربنا منها لنتطلع الى المقلب الآخر. تعرفناه في الروايات الغربية وعرفنا فيها عن الغرب ما لا نعرفه عن جغرافيا العالم العربي وإنسانه. نجيب محفوظ كان من استدرجنا الى العودة. وأذكر مثلاً، كيف في بدايات مراهقتي كنت مثل أي شخص أتوق الى حرق المراحل وأصبو باستمرار الى الأمكنة البعيدة. كنت أظن انني أعرف كل ما يحيط بي، وكنت أرغب في الفرار مما أعرفه (أو يخيل إليّ انني أعرفه) الى بعيد يجذبني غموضه وأسراره. كنت أعتقد أن الواقع حولي بلا غموض وبلا أسرار وأحجية وميتافيزيك. نجيب محفوظ ساهم في إنضاجي. ذهبت الى كتاباته فأدركت أنه حين أعاد لنا اكتشاف الواقع أعاد لنا غموضه وأسراره، فكان لا بد لي من أن أعقد بيني وبين مكاني إلفة حميمة. وشعرت بأن محفوظ يربطني بأمي ومكاني، أكثر من أي كاتب آخر. عرفت انني لن أعرف عني شيئاً ما لم أقرأ عن هنا، وكيف نعيش، وكيف نموت، وكيف نحب ونكره ونتصارع ونحلم وننكسر ونتمرد ونتغير ونتحول... جعلني نجيب محفوظ هذا كله، وعلمني ألا أكتب إلا عن عالمي، زودني القدرة على المقارنة بين مختلفين بعدما كنت لا أفقه عن الاختلاف سوى وجه واحد. ومثل رائحة الخبز الطازج شدتني رواياته لأستعيد مذاق اللقمة الأولى. شكل نجيب محفوظ ذاكرة روائية ضخمة ندين لها جميعاً ولا يستطيع أحد أن يتنصل منها. وما محاولات التنصل منها سوى تنصل من الذاكرة والذات، وتنكر للأهل الكبار الذين نعتقد للأسف أن التنكر لهم يؤكد اختلافنا عنهم، أو أن محاولات الاختلاف عنهم تبدأ من التنكر لأبوتهم لنا!
سجل نجيب محفوظ في «عماراته» الروائية ما أيقظ لدى الكثير من الروائيين العرب، من عقود لاحقة، الرغبة في إنجاز عماراتهم الشخصية، إلا أن سكان عماراته العظيمة ظلوا أحياء يرزقون ويرتاحون في زوايا الذاكرة، ونماذج تتنفس وتنبض بالحياة والصراعات والنضالات والخيبات والأحلام والانكسارات... نماذج تختزل اجتماعها في عمارة واحدة للمجتمع المصري وملامح المجتمعات العربية الأخرى. نعم لقد أثر فيّ كل التأثير، وكيف لا أتعلم منه كل العلم والمعرفة، وهو الأب والمعلم الكبير؟
ليانة بدر
> من منا لم يتأثر بنجيب محفوظ؟
عندما كنت في المدرسة جعلني والدي أطّلع على أعمال توفيق الحكيم من روايات ومسرحيات كي أتعلم معنى الكتابة الحديثة. أخذت بـ «عودة الروح» ولم أصب بهذا الافتتان بعدها إلا عندما قرأت نجيب محفوظ. سيد الكمال هو، وأكثر من كان يغرف من واقعية الحياة اليومية ويحيلها الى سجل أبي حافل بنثريات العيش وتجليات المجتمع السياسية والثقافية والتاريخية. شخصياته ونماذجه الأدبية، حفرت بصماتها في الروح حتى أنها دعتني الى إطلاق اسم «السيد» على أحد أبطال روايتي «عين المرآة». السيد هو ذلك الأب البطريركي الشريد الذي لم تنثنِ كبرياؤه أو تختفِ إثر تحوله لاجئاً خرج من ساحل فلسطين عام 1948. في «عين المرآة» يقوم السيد بإذلال زوجته وجني ثمار عملها كي يحافظ على تواصل سهراته الليلية التي يبكي فيها ضياع بلده بكاء مريراً. أردت أن أجعل «السيد» في صورته الفلسطينية نموذجاً لمن أدوا بالفلسطينيين الى هزيمة مقترنة بالخروج عام 1948. بل إنني أيضاً أردت لـ «السيد» في «عين المرآة» أن يعكس شبهاً ما ولو روحياً بنوعية من القيادات أعادت انتاج تاريخ الشعب الفلسطيني عبر تحويله ضحية دائمة ومن ثم تثبيت هذه الصورة في الوجدان الجمعي للفلسطينيين أنفسهم وللجماهير العربية. وكما في أعمال محفوظ التي تأملت المراحل السياسية بالنقد والمراجعة اخترت عنوان «عين المرآة» التي حين يتأملها الإنسان تصل به الى الأسئلة المستحيلة. لقد أعطانا الأب الكبير زوادة المستقبل في كتاباتنا، كي نرفض قبول الواقع الاستبدادي الذي يفرض علينا تحت شعارات المزاودة والادعاء. نجيب محفوظ علّمنا حكمة الرواية التي تتنفس في مناخ الحرية فكيف لا نتأثر به، وكيف لا نعتبره الجذر الأقوى للرواية العربية الحديثة؟
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد