المسائل الدينية والنفسية والاجتماعية مشتركة بين سائر البشر
لا شك في أن الباحثين في مجال الأسطورة حاولوا ربط العديد من الشخوص الدينية بأساطير الشرق "السومرية والمصرية القديمة"، فالأشخاص الدينية التي أتت بها الكتب السماوية متشابهة في التسمية وفي الأفعال.
غير أن الديانات القديمة تختلف شخوصها في التسميات، لكن أفعالها متقاربة مع شخوص الكتب السماوية، وهذا ما حاول القرآن الكريم توضيحه حيث جاءت الديانة الإسلامية للناس كافة، وجاء دستورها "القرآن" بمثابة الاسترجاع النقدي لكل الديانات الإنسانية، فكان مغربلا للتوراة والإنجيل والميراث الروحي البشري، ومهيمنا عليه، فكأنه خلاصة للديانات التي سبقته.
"وعلى صعيد التفاعل مع الديانات كافة فإن القرآن يشكل "مرجعية معصومة" للذكر كله، فهو وريث الموروث الروحي من عهد آدم إلى آخر الأنبياء والمرسلين، فقد استرجع القرآن كافة هذا الموروث الروحي للبشرية بمنطق التصديق ثم عالجه وأعاد قراءته بمنطق الهيمنة""22".
لذلك لا نستطيع أن نقول إن القرآن متأثر، بالأساطير كما أننا لا نستطيع أن نقول إن التوراة أساطير. من هذا المنطق لا يسعنا إلا التصديق بقصة يوسف "*" كونها ذكرت في كتابين مقدسين وفي سياقين مختلفين، وبالمعنى نفسه، وكما أن الأساطير حقائق عند معتقديها فإن قصة يوسف حقيقة عند المعتقدين بالتوراة وحقيقة عند المعتقدين بالقرآن.
يتكرر نمط زوجة الأب الشهوانية في الميثولوجيا الإغريقية في أسطورة فيربيوس أي أسطورة "هيبوليتوس وفيدرا" "تذهب القصة إلى أن فيربيوس كان هو البطل الإغريقي هيبوليتوس العفيف الجميل الذي تعلم فن الصيد "...".
وكان يمضي أيامه في الأحراش الخضراء يطارد الوحش، ولم يكن يصحبه في هذه الرحلات سوى الصيادة العذراء أرتميس وهي المقابل لديانا وقد بلغ من اعتزاز هيبوليتوس بصحبتها الإلهية أن ترفّع على حب النساء مما جلب عليه المصائب، فقد آلم ذلك التعفف أفروديت فأهاجت حبه في قلب فيدرا زوجة أبيه.
فلما ازدرى مراودتها الخبيثة عن نفسه اتهمته ظلما أمام أبيه ثيسيوس الذي صدق التهمة وابتهل إلى مولاه بوسيدون أن يثأر لـه من أجل هذا الجرم المزعوم، وترتب على ذلك أنه بينما كان هيبوليتوس يقود عربته الحربية بجانب شاطئ الخليج الساروني.
أرسل عليه إله البحر "بوسيدون" ثورا هائجا طلع من بين الأمواج فهاجت الخيل وركضت بعنف من الخوف والفزع وألقت هيبوليتوس من فوق العربة وداسته بأقدامها حتى مات ودفع الحب ديانا إلى أن تقنع المطبب أسكلابيوس بأن يستخدم علمه وفنه ليرد الحياة إلى الصياد فأرسل المطبب نفسه إلى عالم الموتى جزاء له على تجازوه حدوده وتدخله في غير شؤونه ولكن ديانا أفلحت في أن تخفي محبوبها هيبوليتوس عن الإله الناقم داخل غمامة كثيفة بعد أن غيرت ملامحه بأن أضافت إلى عمره بعض السنين ثم حملته بعيدا إلى وديان نيمي حيث تركته في حمى الحورية إيجيريا ورعايتها وهناك عاش في أعماق الغابة الإيطالية مجهولا وحيدا متخفيا تحت اسم فيربيوس.
وقد حكم فيربيوس هناك كملك "..." وقد عبد الناس فيربيوس كإله ليس في نيمي وحدها بل في كثير من الأماكن الأخرى أيضا" "23" يتشابه هيبوليتوس مع يوسف في العفة والجمال وعدم الخضوع للمراودة وعند تحوله بعد الموت والبعث أصبح ملكا.
ورد موضوع زوجة الأب الشهوانية التي تتهم ابن زوجها في الهند في الحكايات البوذية المسماة جاكاتا، وترجع إلى حوالي القرن الثالث قبل الميلاد ومنها وصلت إلى الفرس لتدرج في كتاب السندباد "24".
ولعل هذا التشابه يعود إلى تكرار الأنماط وليس بالضرورة مقارنة هذه المواضيع للبحث عن الموضوع الأصلي ولكن المحاور تتكرر وتتنامى، كلما اجتازت جغرافية جديدة، فتحدث استبدالات في نظم الأساطير، لكنه لا يكون استبدالا كليا، وإنما جزئيا، من أجل أن تظل الملامح القومية عند إجراء الاستفادة أو الاستبدال، لأنه كما يرى ليفي ستروس نستطيع ملاحقة حركة أي أسطورة من الأساطير اعتمادا على البنى الداخلية وليس على الإطارات الشكلية والخارجية "25".
ولذلك نجد تماثلا بين شخصية يوسف وأدونيس وهيبوليتوس... إلخ في بعض الأطر الشكلية واختلافا في البنية الداخلية مما يشكل التميز، لذلك نستطيع أن ننتقل بحرية إلى حافز من أهم الحوافز وهو:
حافز الإخوة الأعداء: لئن جددت قصة يوسف حافز الإخوة الأعداء فإن هذا الموضوع قديم قدم البشرية نفسها، وقد ظل موضوعا للقصص في سائر الأساطير لدى مختلف الشعوب والثقافات، وصياغة المشابهة متمركزة على اغتيال الأخ أو تقديمه قربانا.
يروي العهد القديم القصة الشهيرة لقابيل وهابيل "*"، كما يروي القرآن قصة ابني آدم ولعل هذه الجريمة الاجتماعية الأولى، الواردة في التوراة لا تصور فقط موضوع صراع قديم بين المزارعين والرعاة، أي بين أجداد التكنولوجيا والثقافة "إذا تذكرنا أن اسم قابين يعني الحداد باللغة العبرية وهو يبدو جدّ الكثير من أبطال الثقافة التوراتية من جهة ،وبين أولئك الذين يعيشون حياة البداوة من جهة أخرى "26".
ولعل انتصار يوسف على إخوته له ما يبرره في انتصار المزارع على الراعي، فيوسف تحول من راع إلى فقيه لفنون الزراعة وقد انتصر على إخوته الذين يمثلون الرعاة وحياة البداوة، ولعل أقدم أسطورة تمثل هذه الفكرة هي أسطورة "أيميش وأينتين" "27"، وهي الأسطورة السومرية الأكثر شبها بقصة قابيل وهابيل شكلا وجزءا ومضمونا؛ لأن نهاية الأسطورة تشبه نهاية قصة يوسف التي انتهت بالمصالحة بين الإخوة.
تمثل هذه الأسطورة المعركة بين "أيميش" الراعي "وأنتين" المزارع حيث يقوم الأول بتكثير المواشي وإنتاج الحليب والسمن وما إليها بينما يقوم الثاني بنشر المزارع على الأرض وتنمية الحبوب ورعاية الأشجار، ولكنهما يتخاصمان ويدخلان في مشادّات ومناظرات عديدة تنتهي بتحدي الراعي للمزارع، ثم يحكّمان إنليل الذي يعلن صراحة أنه يفضل المزارع:
لقد أجرى أنتين ماء الحياة في كل بقاع الأرض
وأنتج للآلهة كل شيء إنه مزارع الآلهة
فيا أيميش يا بني كيف تقارن نفسك بأنتين أخيك
هذه كانت كلمات إنليل المقدسة العميقة المعبرة
فانحنى إيميش وركع أنتين
فيتعايش الأخوان معا ويتعاونان وينتهي النص بمديح للأب إنليل:
أي أنليل أيها الأب نسبح بحمدك "28"
تمثل هذه الأسطورة المعركة بين الشتاء والصيف، وهي أول مناظرة سومرية يحدد فيها الإله إنليل وظيفة الشتاء بولادة الغنم والماعز والعجول وتكثير الألبان وتنمية الغلال والخضر في الحقول وأما الصيف فأوكل إليه أن يملأ المزارع بالغلال ويكدس البيادر والمخازن، ولكن المفاخرة بينهما في تقديم الهدايا أدت إلى التحاسد، الأمر الذي جعل الإله إنليل يحكم للشتاء. ويتقبل المتناظران حكمه ويتصالحان ويتصافيان ويخضع الصيف للشتاء "29".
تتفق الأساطير العراقية على فكرة سيادة الفلاح على الراعي، لكنها تستعيد الصراع الدموي حول الظواهر والوظائف التي لها علاقة بنظام الخصوصية الذي يعد الإطار الحيوي لتنظيم الحياة وتطويرها واستحداث ما هو جديد من أجل الاستقرار "30".
ولا شك في أن تحول يوسف من راع إلى عارف بفنون الزراعة يحيل مباشرة إلى هذه الفكرة فكأن الله بعثه ليعلم قومه وأهل مصر فنون الزراعة والتحكم في المجاعة من خلال النظام الاقتصادي المحكم الذي طبقه عندما أوكلت إليه خزائن الأرض، ولعل المراحل التي مر ّبها يوسف ابتداء من تجربة البئر ثم السجن ثم العلو هي نفسها المراحل التي تمر بها النبتة "وفي الأساطير الأخرى تبقى أطروحة الأخ العدو جزءا من المخزون الأصيل.
ففي الميثولوجيا المصرية يقدم سيث الغيور على قتل أخيه أوزريس إذ يقوم بوضعه في صندوق يلقي به في مياه النيل""31".
ولعل أقرب هذه الأنماط جميعا شبها بقصة يوسف أسطورة "أنكمود" و"دموزي" التي تظهر فيها المرأة / الإلهة "إنانا" وسيطا فعالا في نمو الأحداث: يتقدم الشاب "دموزي" الراعي و"أنكمدو" المزارع لخطبة الإلهة "إنانا" التي كانت تفضل الفلاح لكن الإله "أوتو" أخ "إنانا" يحثها على الزواج من الراعي وبعد عملية إقناع.
تتزوج "إنانا" بدموزي الراعي، وتغيّر رأيها يعود إلى طبيعتها الرومانسية الطاغية التي تشكلت لديها لحظة معاينتها دموزي الشاب الجميل الوسيم المرتدي لثوب أحمر حيث رأته في اللحظة الشهوانية، إضافة إلى أنها مكونة من عناصر شبقية طاغية جسدت كامل شخصيتها، وهي غير قادرة على كبح رغبتها والتحكم فيها "وتتشابه إنانا مع زوجة فوطيفار/ عزيز مصر".
وينتهي النص بانتصار الراعي دموزي على الفلاح أنكمدو غير أن الراعي يقوم بدور عدائي تجاه المزارع ويفخر عليه ويترك قطعانه تدمر المزروعات ولكن أنكمدو كان متسامحا مع دموزي الذي استمر في العداء والبغضاء.
إلا أن هذا الانتصار للراعي لم يكن إلا بداية الكارثة لأن "إنانا" أرسلته إلى العالم الأسفل لينوب عنها هناك "وتغدو التضحية بالراعي شرط انتصار الزراعة واستكمال دورة الخصب على الأرض""32"، ويتشابه الموقف الأخير بموقف موت يوسف الرمزي بدخوله السجن، وهو فعل نمطي رمزي، أدى في الأخير إلى التحول الكبير ليوسف من راع إلى مزارع.
تتعاضد الأساطير فيما بينها، وتتشابك وتنمو من بعضها البعض وتتناسل مشكلة حلقات جديدة في منظومة الإنسان الفكرية، فهو يصارع من أجل البقاء ودحر الموت، ولعل الذي يجسد فكرة الصراع بين الخير والشر، وبين الحياة والموت هي أسطورة بعل وموت فلم" يكن الأقدمون مهتمين بالمجردات، وإنما كان تفكيرهم واقعيا.
وكانت آلهتهم تصور مشتبكة في علاقات حيوية وأعمال هامة ونضرب مثلا ببعل "رب الخصوبة والحياة"، وموت "رب العقم والموت" حين يقتتلان، فإن الفعل غير هام في ذاته ولكن له منزلته في أن النتائج إنما تحدد ما سوف تكون عليه الأرض خصبة أو مجدبة لفترة تطول.
ولا شك في أن جل الأساطير الكنعانية تصب في مجرى الخصب والنماء، والجدب وتعكس نصوص هذه الأساطير دورة سبع سنين رخاء التي يقابلها سبع سنين جدب المرتبطة بما يمر به الإله المسن " إيل" فإن عنة إيل إنما تعني بدء السنين العجاف، وتعلن رجولته عن ابتداء دورة السنين الوافرة ،التي ينجب فيها إيل السابوع من آلهة الخصب من أجل إقامة دورة من سبع سنين رخاء وإذا لم ينجبهم كان العكس""33".
ولا شك في أن سنوات الوفرة السبعة، وسنوات الجدب، قد تشكلت على هيئة رؤيا الملك التي أولها يوسف، وهي البقرات السمان اللواتي يأكلهن العجاف والسنبلات الخضر والأخرى اليابسات.
والرؤيا في حد ذاتها تحمل رموز الزراعة والرعي فالحيوانات تحيل على الرعي، والسنابل تحيل على الزراعة، وهي أنماط تتكرر من أجل تذكير الإنسان للسعي في الحياة من أجل العيش والبقاء ودحر العدم من أجل استمرار دورة الحياة والتناسل المستمر.
ومنه نستطيع القول إن أول نمط وجد قبل أن يخلق البشر والإخوة الأعداء هو المعركة بين الجدب والخصوبة، ثم معركة الشتاء والصيف، ويليه معركة الإلهين اللذين نزلا لتعليم البشر، الزراعة والرعي، على أن هذه المعركة التي تبدو في ظاهرها تحمل طابع العداء، تنتهي بالمصالحة: فتصالح الصيف والشتاء، يسند لكل فصل وظيفته ،وتصالح الراعي والمزارع يحيل على التعايش، فكل منهما يحتاج إلى الآخر لتستمر الحياة.
ويبدو " أن الأساطير عند بعض الأمم هي رواية لما فعلته الأرباب عند خلق الدنيا،و يبدو أن أحداثها ترمز إلى النظام الحالي الذي تخضع له المخلوقات، فلم يكن وجود الحقبة الأسطورية عبثا، بل وجدت لتفسير دنيا الأزمان التاريخية وتبرر أحداثها""34" لذلك حينما يريد المصريون تفسير علة وجود شيء ما، فإنهم يسندونه إلى القوة الأولى.
فكانت كل مظاهر القوة سواء طبيعية أو بشرية تمثيلا جديدا لبعض الوقائع الأسطورية، فالشمس مثلا ظهرت عند خلق العالم، لكن دراما الخلق العظيمة هذه تتكرر كل صباح، ورأس كل سنة، حينما تبدد الشمس السحب الرعدية تكرر هزيمة " أبوفيس" على يد "رع" في الماضي الأسطوري "لأن ذلك كان أمرا مقضيا منذ القديم" كما يقول النص، وإذا ما أرعدت السماء فليس هذا إلا "ست" يزمجر وإذا ما شطا النبات فليس هذا سوى روح أوزيريس تقوم من موتها.
ولعل ظهور الشر كان بعد انقضاء العصر الذهبي الذي ساده الكمال التام، حيث كان خاليا من المحن وساد فيه النعيم، وكان مبدأ الشرّ في رأي المصريين حينما غضبت عين الإله الأعلى، لأن أخرى أخذت مكانها أثناء غيبتها، وكانت استعادة هذا العصر الذهبي هي الفكرة المحورية للطقوس، وصار "ست" المصدر الرئيسي للشر والفوضى التي تهدد الانسجام الذي ساد الكون بعد انتصار عقيدة أوزيريس."35"
يغدو كل تفسير أسطوري لمنطق العداء والصراع والتضارب، هو معركة بين الخير والشر وسيادة أحدهما على الآخر، وهي سنّة مستمرة، فالكون فيه الشروق والغروب، الحياة والموت، الجدب والخصب، الظلام والنور... الخ متفاعلة في ما بينهما ومتعايشة.
حافز الحلم أو الرؤيا: لا شك في أن حافز الحلم أسهم في بلورة العديد من الأساطير، وكان في كثير من الأحيان البؤرة التي يتم من خلالها صياغة الخطاب الديني، ولعل وظيفة الحلم الاستهلالية التي تشكلت منه قصة يوسف يشبه إلى حد بعيد وظيفة الحلم الاستهلالية التي تبلورت من خلاله أسطورة جلجامش، التي كوّن فيها حافز الحلم استشراف المستقبل مثلما جاء في الملحمة:
يا أمي لقد رأيت الليلة الماضية حلما.
رأيت أني أسير مختالا بين الأبطال.
فظهرت كواكب السماء.
وقد سقط أحدهما إليا وكأنه شهاب السماء آنو.
أردت أن أزحزحه فلم أستطع أن أحركه.
تجمع حوله أهل بلاد أوروك.
ازدحم الناس حوله وتدافعوا عليه.
واجتمع عليه الأبطال.
وقبّل أصحابي قدميه.
أحببته وانحنيت كما انحنى على امرأة.
ورفعته ووضعته عند قدميكِ.
فجعلته نظيرا لي "36"
مارس الحلم طغيانا وسيادة في النص، من خلال بنية الاستباق الأمر الذي جعل الحلم يفرض هيمنته على تطورات الملحمة فيما بعد، ويتشابه ذلك مع وظيفة الحلم في القصة الدينية غير أن يوسف سرد الرؤيا على والده وليس على أمه، كما أن الكواكب الساقطة في قصة يوسف ساجدة له في حين ينحني جلجامش للكوكب.
ويظهر حافز الحلم في النص السومري في أسطورة هبوط إنانا للعالم السفلي، وفي مقطع تحت عنوان " مصير دموزي"، حيث يرى هذا الإله حلما، جاء نصه كالآتي: " بين الأزاهير استلقى الراعي دموزي وبينما هو نائم بين الأزاهير رأى حلما فنهض من نومه مذعورا مما رأى وعرك عينيه بكفيه ورأسه يدور" "37".
ثم يمضى دموزي المذهول إلى أخته جشتينانا الشاعرة والمغنية ،مفسرة الأحلام فيقص عليها رؤياه: " أختاه سأقص عليك ما رأيت سأقص عليك الحلم الذي رأيت
من حولي كان السمار"38" ينمو ويندفع بسرعة من باطن التربة
وسمارة وقفت وحيدة، وحنت رأسها أمامي.
كل السمار وقف في أزواج إلا واحدة أزيلت من مكانها
وفي الغيضة انتصبت حولي، انتصبت من الأرض أشجارا طوال مرعبة
وعلى مرقدي المقدس انسكب ماء بارد.
وممخضتي خاوية قد أزيل ما بها "..."
وعصا الراعي قد تلاشت وذهبت ريحها ""39".
ثم تفسر له أخته الحلم بأنه ليس طيبا، وفعلا فيما بعد ترسل به إنانا إلى العالم الأسفل لينوب عنها هناك ويبدو أن حافز الحلم هنا، فيه إحالة إلى سيادة الزراعة على الرعي كما مر بنا "والراعي الذي فضلته إنانا على الفلاح أنكمدو في الأسطورة السابقة، وتزوجت منه، تعود لتقضي عليه بنفسها ،ويصبح موته شرطا لعودة القوة الإخصابية من عالم الأموات لتتنفس الأرض من جديد" "40".
فيتفق دموزي مع يوسف أيضا في حافز الحلم، ويبدو أن حلم الحزم الذي مر بنا في قصة يوسف التوراتي يشبه إلى حد ما حلم دموزي، فإذا كانت حزم الإخوة قد سجدت لحزمة يوسف فإن دموزي ركعت لـه سمارة واحدة، وتحول السماّر الآخر إلى أشجار طوال مرعبة وما ذاك التطاول النباتي إلا سيادة للزراعة، ولعل الحزم التي سجدت لحزمة يوسف تحيل على خضوع النظام الزراعي له فيتحول الراعي إلى مزارع يتقن فنون الزراعة وقوانينها.
يتحول الحلم في مرحلة من مراحله إلى لغز، على البطل الموعود أن يحلّه، كي يقوم بدور المخلص والمنقذ، فالأسطورة هنا تعمل على شحن مرسلة "الحلم" وإعادة توظيفها في حقول فكرية جديدة "فيحدث لها تحوّل"؛ لأن المفهوم دائم الذبذبات، لا يعرف السكون ولا يذوب في حالة الأشياء، ليس لـه مكان، فينطق بالحدث ويرفض الشيء، يتجاوز علاقات المطلق كونه يعبر عن فكرة الكل والنسبة بصفته مجموعا لعناصر قادرة على التمفصل والتجزئة والتقاطع "41".
الهوامش
22- أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية، ص 78.
*- إن السلوكات البشرية المرتبطة بالخير والشر أنماط تتكرر بل دائمة التكرر، فإذا كان جائزا أن نقول أن يوسف متأثر بقصة أنوب وباطا، فإنه يجوز لنا أن نقول أن حب روميو لجولييت متأثر بحب عنترة لعبلة أو قيس لليلى "وهذا ضرب من اللامنطق!!".
23- جيمس فريزر، الغصن الذهبي، تر: د.أحمد أبو زيد،، القاهرة، الهيئة المصرية العالمية للكتاب، 2000، ص 91-93.
24- أ.ل.رانيلا، الماضي المشترك بين العرب والغرب، ص 21.
25- ليفي ستروس: الإناسة البنيانية، ت: حسن قبيسي، ط1، بيروت، لبنان، المركز الثقافي العربي1995، ص227-230
وانظرأيضا: سيباستيان غونتر، "تحولات مفهوم الإخوة الأعداء، صراع نمطي في الأدب الإسلامي القديم والحديث"، مجلة آداب، ع 9/10 سبتمبر، أكتوبر، القاهرة، 1999، ص 67- 68.
* cain en arabe ce mot signifie "forgeron" "…" Le nom Abel ataché a la racine yble "meneur de troupeaux ; en syriaque" ce qui soulignerait l’opposition developpée par le texte par le vie nomade de pasteurs et la sedentarité des agricultures, cain : dictionnaire des mythes letteraires sous la direction de pièrre brunel, edition du rocher, jean paul Bertiand, editeur, Paris 1988.p 26ا
26- طه باقر، مقدمة في أدب العراق القديم، بغداد، 1976، ص 164.
27- فراس السواح، مغامرة العقل ، ص 262- 263.
28- طه باقر، مقدمة في أدب العراق القديم ، ص 164.
29- المرجع السابق، ص 264 –265.
30- سيباستيان غونتر، تحولات مفهوم الإخوة الأعداء، ص 68.
31- فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، ص 266، 267.
32- صاموئيل نوح كريمر، أساطير العالم القديم تر: د.أحمد عبد الحميد يوسف، مراجعة: د.عبد المنعم أبو بكر،القاهرة، الهيئة المصرية العالمية للكتاب، 1974، ص 159 – 166.
33- رندل كلارك، الرمز والأسطورة في مصر القديمة، ص 254.
34- المرجع السابق، ص 257 – 258.
35- طه باقر، ملحمة جلجامش، ط4 بغداد، دار الشؤون الثقافية،ص 86.
36- فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، ص 227-228.
37- السمار، أو الأسل نبات أوراقه أسطورية تستعمل في صنع بعض أنواع الكراسي، أو المكانس.
38- فراس السواح، مغامرة العقل الأولى ص 228.
39- المرجع السابق، ص 331.
40-عبد الوهاب ترو، "رمزية التحولات الفكرية والدلالات في الخطاب الأسطوري الفكري العربي"، مجلة الفكر العربي، ع 41، "يوليو سبتمبر"، بيروت، لبنان، ص 98 – 1001.
42- عبد الوهاب ترو، "رمزية التحولات الفكرية والدلالات في الخطاب الأسطوري الفكري العربي ص 103
43- لأن القميص الأصل كان الراحيل فهو قميص زفافها كما مرّ بنا.
44-ناجح المعموري: تأويل النص التوراتي"قميص يوسف"، ص107
45-المرجع السابق، ص108
شادية شقروش
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد