نصارى القدس: دراسة في ضوء الوثائق العثمانية
الملة أو الطائفة هي جماعة دينية من الناس تنظمهما رابطة مذهبية واحدة، بغض النظر عن الجنس، أو اللغة، أو القومية، ويخضع أفرادها إلى زعيم روحي ينتخب من قبل أفراد الملة، ويقترن تعيينه بصدور البراءة السلطانية، ويمنح رؤساء الطوائف حق رعاية شؤون رعاياهم العامة والشخصية، وحرية ممارسة شعائرهم الدينية، والاستخدام العثماني الأكثر شيوعاً لهذا التعبير قبل فترة الإصلاح.
(1839 - 1856م) اقتصر على المسلمين فقط؛ للتمييز عن الذميين، ولكن بعد صدور خط التنظيمات الخيرية عام (1856م) أخذ المصطلح يشير إلى النصارى باستخدام عبارة الملة لكل النصارى، غير أن استخدام المصطلح للدلالة على جماعة دينية انتهى في أواخر ستينات القرن التاسع عشر، وأصبح يستعمل للدلالة على أمة بمعنى الناس جميعاً، فبعد صدور قانون التبعية العثماني في (19 كانون الأول/ديسمبر 1869م)، وفي إطار هذا التشريع غدا جميع قاطني الدولة العثمانية وولاياتها عثمانيي الجنسية بصرف النظر عن أصولهم العرقية، وصار الأشخاص غير التابعين لها أجانب.
وصدر نظام الملة في الأول من كانون الثاني (يناير) 1454م في عهد السلطان محمد الفاتح، وقد بني على أسس إسلامية مستنبطة من المذهب الحنفي، المذهب الرسمي للدولة العثمانية، فأعطى الحرية الدينية لكل الطوائف بما يتفق مع الشريعة الإسلامية، وانتخاب الرؤساء الدينيين من قبل أفراد الملة، على أن يقترن تعيين البطريرك أو الأسقف المنتخب بصدور البراءة السلطانية، ومنح رؤساء الطوائف حق رعاية الشؤون العامة والشخصية لطوائفهم.
وتعارف جميع المتخصصين في التاريخ العثماني من مستشرقين وعرب وعثمانيين على تقويم أوضاع أهل الذمة، وعلى ما كان لنظام الملة من آثار إيجابية فيهم، واندماجهم في جسم الأمة العثمانية، مع الاحتفاظ بكياناتهم الدينية، وقوانينهم الخاصة؛ حيث منح نظام الملل لهم حقوقاً مدنية ودينية، وجعل لهم سلطة سياسية لم يكونوا يتمتعون بها قبل الفتح العثماني للقسطنطينية، في ظل الدولة البيزنطية نفسها.
وتأتي هذه الدراسة ( نصارى القدس: دراسة في ضوء الوثائق العثمانية - الدكتور أحمد حامد إبراهيم القضاة - مركز دراسات الوحدة العربية، الهيئة المصرية للكتاب - 576 صفحة) لتمثل أول دراسة تتناول الأحوال العامة للنصارى في القرن التاسع عشر في ضوء معطيات سجلات محكمة القدس الشرعية في القدس العثمانية حيث مثلت طوائف النصارى ثلث سكان المدينة اعتماداً على المصادر المعاصرة كالرحالة والقناصل والإحصاءات العثمانية الرسمية. ومن أبرز هذه الطوائف: الروم الأرثوذكس، الروم الكاثوليك، الأرمن، اللاتين، الأقباط، الأحباش، السريان، البروتستانت والموارنة.
اختلف موقف الدولة العثمانية من النصارى خلال القرن التاسع عشر، قرن التغيرات السياسية والضعف في السلطنة العثمانية، فقد تطاول محمد علي باشا على الدولة العثمانية واحتل بلاد الشام (1831 - 1840م) وحقق الحكم المصري في القدس قسطاً من الحرية الدينية للنصارى، وألغى القيود التي فرضت عليهم من قبل الدولة العثمانية، ثم أصدر السلطان عبد المجيد خط شريف كالخانة وخط التنظيمات الخيرية، فكان هذان الخطان بمثابة اعتراف من الدولة بحقوق النصارى وإطلاق الحريات الدينية، ومساواتهم مع المسلمين في الحقوق والواجبات، وقد تناول الكتاب موقف الدولة العثمانية من طوائف النصارى على النحو التالي:
المرحلة الأولى (1800 - 1831م): حرصت الدولة العثمانية في هذه المرحلة على تطبيق العهود والمواثيق التي منحها المسلمون للنصارى، وانطلاقاً من هذا الحرص وفّرت لهم الأمان والحماية طالما سددوا ضريبة الجزية، فعندما تعرض دير الروم للسرقة عام 1809م أصدرت الدولة فرماناً إلى متسلم القدس بملاحقة السارقين، ورد الأشياء للدير. وسمحت الدولة العثمانية للنصارى بتولي بعض الوظائف المالية؛ لخبرتهم بالأمور المالية فعينت ابرايم قسطندي الرومي بوظيفة كاتب سنجق القدس.
وفرضت الدولة العثمانية بعض القيود على النصارى. كما منعتهم من ركوب الخيل والحمير، ومن التزيي بزي المسلمين حيث فرض عليهم لبس اللون الأسود والأزرق، ومنعتهم من لباس العمائم، وعدم مخالطة المسلمين في الحمام رجالاً ونساءً. ومن اقتناء الجواري والرقيق، ومن حمل السلاح، وقرع أجراس الكنائس بصوت مرتفع.
المرحلة الثانية: (1831 - 1839م): اهتم محمد علي باشا قبل إرسال ابنه إبراهيم على رأس الحملة العسكرية إلى بلاد الشام، بكسب ود الدول الأوروبية، ليضمن عدم تدخلها إلى جانب السلطان. لذا أعلم القناصل الأوروبيين بأن حكومته ستأخذ بالاعتبار مصالح هذه الدول، وتعامل الأقليات غير المسلمة في تلك المناطق معاملة أفضل من معاملة العثمانيين، وأكد ذلك في اجتماعه مع القنصل الفرنسي العام في الإسكندرية، حيث قال: «.... وسينال نصارى الشام الاستقلال والسعادة ما لم يروه من قبل، وسيقرعون أجراسهم متى شاؤوا، أكِّدوا لحكومتكم ولمواطنيكم تحرري في هذه الأمور».
ومنذ الحكم المصري في الشام أعلنت المساواة بين كافة الأجناس والأديان، ومنحت الحرية الدينية، بإصدار إبراهيم باشا فرماناً في القدس عام 1831م: «... ليس خافيكم أن القدس الشريف تحتوي على معابد وأديرة ترد لأجل زيارتها جميع أملال العيساوية والموسوية من كل فج.. ومن حيث إن الأديرة والكنائس الكائنة بمدينة القدس هي مقر الرهبان والقسس، وبها يتلون الإنجيل الشريف، ويجرون طرائق اعتقادهم وطقوسهم...» كما أكد حمايتهم، وعدم التعرض لهم فأرسل أمراً إلى أرباب الأمر والنهي في القدس في عام 1831م فيه: «ونخبر متسلمنا (الشيخ سعيد مصطفى) أنه يلزم منك أولاً أن تكون دائماً مطابقاً كافة أمورك إلى الشرع الشريف والقانون المنيف وتسعى براحة رعايانا خصوصاً رعاينا أهالي بيت المقدس».
وأصدر محمد علي باشا فرماناً بإلغاء كافة الرسوم كرسم العوائد السنوية ورسم العبودية، والضرائب التي كانت تدفعها الأديرة وزوار القدس إلى الوالي ورجاله. وكانت هذه الضرائب والرسوم تذهب إلى خزائن الوالي والقاضي والمتسلم وأرباب الوظائف وتحمل الحكم المصري عند إبطالها ما يخص القاضي وأرباب الوظائف بأن خصص لهم من خزينة القدس الأموال الأميرية سنوياً. كما اتبعه بأمر آخر يمنع فيه جباية ضريبة الحراسة في معابر البلاد ومسالكها من قبل إبراهيم أبو غوش في الطريق المؤدي من يافا إلى القدس.
وحرص الحكم المصري على توفير الأمن للنصارى في القدس، فبعد أن تعرض دير الروم للسرقة أرسل محمد علي باشا أمراً للتحقيق بقضية السرقة وضرورة معاقبة الجناة، وعندما تعرض بعض العساكر لرئيس رهبان الكاثوليك في القدس وعملوا على تحقيره عاقبهم إبراهيم باشا بالسجن، وبعد أن اعتدى مشايخ حيفا على دير الكرمل أرسل إبراهيم باشا فرماناً يحذرهم من التعدي مرة أخرى.
المرحلة الثالثة (1839 - 1900م): بدأت هذه المرحلة بإعلان خط شريف كولخانة عام 1839م ويتبين من إصدار خط شريف كولخانة أن الدولة العثمانية كانت تهدف إلى تحديث البنية الاجتماعية والسياسية للدولة من طريق إلغاء التشريع الذمي القديم الساري المفعول، وإعادة بناء الإدارة كلها وفق الأسس الدستورية والعلمانية السائدة في أوروبا في أعقاب الثورة الفرنسية. ونستطيع أن نقرأ في خط شريف كولخانة ما يؤكد ذلك: «لذلك نرى من اللازم لأجل حسن إدارة ممالكنا المحروسة وضع بعض قوانين جديدة تتعلق موادها الأساسية بأمنية النفوس، والمحافظة على الأموال والعرض والناموس. وأن لا يحصل تسلط من طرف أحد على عرض وناموس شخص آخر؛ بل كل واحد يكون مالكاً أمواله وأملاكه».
وأشار الخط إلى وضع قوانين جديدة من قبل مجلس الأحكام العدلية ليصار من خلالها الى إحياء الدين والدولة والملك والملة: «... وبما أن هذه القوانين الشرعية سيصار وضعها لإحياء الدين والدولة والملك والملة يعطي العهد والميثاق من جانبنا الهمايوني بعدم حركة تخالفها، والقسم بالله على ذلك أيضاً بحضور العلماء..».
ويستدل من سياسة الدولة العثمانية بعد إصدار خط شريف كولخانة حرصها على الإصلاح ونشر العدالة، وتحقيق المساواة بين جميع رعايا الدولة، فبعد أن تعرض نصارى القدس للتعدي من قبل بعض المسلمين صدر فرمان إلى محمد عزت باشا وأعيان القدس عام 1840م، يمنع التعدي وحفظ الأرواح ومعاقبة المفسدين.
وسمحت الدولة لهم بإعادة ترميم الكنائس والأديار التي أصابها تخريب أو تعطيل إن من جراء قدمها، وإن من الحرائق بناء على فرمان صادر من السلطان، وعلى القضاة وأرباب السلطة المحلية ألا يستوفوا منهم سوى الضرائب المعتاد أخذها ونهيهم عن أخذ هدية أو رشوة.
ومنحت الدولة النصارى حرية الدخول إلى كنيسة القيامة من دون دفع أي رسوم كما كان يحصل سابقاً، وأوجبت على الجنود الموكول إليهم حراسة باب كنيسة القيامة أداء الإكرام ومظاهر الاحترام لبطاركة القدس وأساقفتها والمحافظة على أرواح البطاركة من أي اعتداء، فقد سمحت الدولة لكل بطريرك أن يرافقه قواس ويحمل معه سلاحاً لحمايته.
واستكمالاً لسياسة المساواة فقد أصدرت الدولة خط التنظيمات الخيرية عام 1856م بهدف تأمين المساواة للجميع أمام قانون واحد، ومن جهة ثانية دعمت الامتيازات الطائفية على صعيد الأقليات، وبصورة أعم، عملت على تأمين سلامة البنية السياسية والدينية للدولة في جملتها، وبالفعل نستطيع أن نقرأ في خط التنظيمات الخيرية ما يؤكد ذلك: «إن الضمانات التي قطعنا بها عهداً في خط همايون كولخانة، والموافقة للتنظيمات لجميع رعايا إمبراطوريتنا بلا تمييز في الطبقة، أو الدين صوناً لسلامة أشخاصهم وأملاكهم، وحفظاً لكرامتهم، عززت اليوم وثبتت، وستتخذ تدابير ناجحة كي يؤتى أكلها كاملاً غير منقوص».
ويلي ذلك التوكيد على تساوي الرعايا جميعاً، وتثبيت كل الامتيازات الطائفية لغير المسلمين، بعد إعادة النظر في تنظيماتها من قبل الطوائف على أن تتقدم طائفة إلى الباب العالي بمقترحات الإصلاح التي تتفق مع ما طرأ على الدول العثمانية من رقي وتقدم: «وقد صار الشروع في رؤية وتسوية الامتيازات والمعاقبات الحالية للعيسويين وسائر التبعة، غير المسلمة في جملة معينة بحيث يهتمون بعرضها إلى جانب بابنا العالي، بعد المذاكرة بمعرفة المجالس التي تشكل بالبطريكخانات تحت ملاحظة بابنا العالي وبحسب الإصلاحات التي يستدعيها الوقت، والآثار الدينية المكتسبة». وسمح للطوائف غير المسلمة بالحرية في ممارسة شعائرها الدينية، وبناء معابدها بشروط يتوافر فيها التسامح.
وعلى رغم أن خط التنظيمات الخيرية أكد المساواة بين النصارى والمسلمين فنجد أن هنالك قيوداً فرضت عليهم جعلت حريتهم مقترنة بموافقة السلطان من خلال إصدار فرمان، كما قلصت من نفوذ رجال الدين على طوائفهم بإنشاء المحاكم المختلطة لذا لقيت هذه الإصلاحات معارضة من قبلهم.
ولم تكن هذه التنظيمات مرعية الجانب دائماً من قبل الحكومات المحلية، حتى إن الحكومة العثمانية نفسها كانت تغض الطرف عن العديد من الشكاوى التي تصل إليها عن مخالفة التنظيمات.
ولتضمن الدولة ولاء طوائف النصارى لها عملت على تنظيم شؤون طوائف الروم والأرمن، وأصدرت أنظمة خاصة لكل طائفة بدأت بنظام انتخاب بطريرك طائفة الروم في اسطنبول، والصفات التي يجب أن تتوافر في البطريرك المنتخب وأشرف الباب العالي على انتخابه، فإذا وجد في قائمة المنتخبين شخصاً «غير أهل» لهذا المنصب شطب من القائمة ويجري الانتخاب من الباقين. ويعين بموجب صدور البراءة السلطانية واعتبر المنتخب واسطة لتنفيذ أحكام الدولة في القضايا المتعلقة باتباع كنيسته. وبذلك ضمنت الدولة ولاء البطريرك لها - نظرياً لأنها تمتعت بحق عزل البطاركة وتعيينهم. وتمكنت الدولة من التعامل معهم في شكل أفضل من السابق في ظل معرفة الدولة بالنظام الداخلي لكل بطريركية.
اما (علاقة طوائف النصارى ببعضها) فيشير المؤلف إلى الصراع العنيف الذي نشب بين طوائف النصارى في القدس، حول أولوية الدخول، وإقامة الشعائر الدينية في الكنائس، والإشراف عليها، وبخاصة كنيسة القيامة، فقد دخلت طائفة اللاتين في نزاع مع الطوائف الأخرى المنافسة لها في ما يتعلق بشؤون ادعى الأرمن بأن لهم حقاً في زيارة مغارة سيدنا عيسى عليه السلام. كما طلبوا أن تكون بيدهم مفاتيح كنيسة المهد؛ فرد الروم على ادعاء الأرمن أنه «من قديم الزمان إلى تاريخه لهم (الأرمن) «حق الزيارة في أيام محددة على أن يتوجه إلى وكيلهم (الروم) بالقدس، ويأخذوا منهم ورقة إلى رئيس الكنيسة وهكذا جرت العادة منذ القديم»، وحسمت الدولة العثمانية الخلاف بإصدار فرمان إلى متسلم القدس بإبقاء القديم على قدمه. وهذه الخلافات استمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر مع حرص الدولة العثمانية على حلها.
وفي ما يتعلق بـ «العلاقات بين النصارى والمسلمين» فكان التسامح وحسن الجوار والتعاون صفات مميزة لها منذ بداية القرن التاسع عشر، حيث ظهرت هذه مع قدوم الحملة الفرنسية على بلاد الشام عام 1799م، إذ قدمت طائفة الإفرنج مبلغ مئة ألف قرش إلى الحاج حسن أفندي لتعمير سور مدينة القدس، ولشراء الذخائر للدفاع عن المدينة، وأوقف النصارى بعض أملاكهم على المسجد الأقصى وقبة الصخرة وعلى فقراء المسلمين.
وتمتع النصارى بممارسة طقوسهم الدينية في الأعياد والحج بالحرية الكاملة داخل القدس، ولجأ النصارى إلى محكمة القدس الشرعية للفصل في الخلافات الناشئة على الإرث والطلاق بينهم، لا سيما النساء منهم للحصول على حقوقهن.
وتوترت العلاقات بين الطرفين إثر ثورة المورة عام 1821م. إذ هاجم بعض المسلمين أديرة النصارى والبطريركية الأرثوذكسية في القدس، وفي بيت جالا، وعين كارم، وخلال الحكم المصري لبلاد الشام (1831- 1840م) وبخاصة بعد أن ألغيت العوائد والرسوم والضرائب التي كان يدفعها النصارى للمسلمين كافة، باستثناء ضريبة الجزية، جاءت ردة الفعل من قبل بعض المسلمين بمهاجمة أديرة الروم في القدس، ورهبان الكاثوليك، وقام بعض المسلمين بمهاجمة حارات النصارى وبخاصة بعد رفضهم الانضمام للثورة الفلسطينية عام 1834م.
ثم عادت العلاقات بين الطرفين إلى سابق عهدها وصدرت فتاوى شرعية بجواز إعطاء صدقة الفطر والزكاة للفقراء من النصارى، كما إن المسلمين أرسلوا بناتهم للتعليم في المدارس التي افتتحت في القدس عام 1835م، من قبل الإرساليات البروتستانتية.
ولكن ساءت العلاقات بين الطرفين إثر اندلاع فتنة عام 1860م، في دمشق ولبنان من دون وقوع أي اعتداء من الطرفين، وساعد على عدم تعرض النصارى لأي اعتداء، وصدور فرمان السلطان بوجوب المحافظة على الأمن والهدوء في المدن المحيطة بدمشق لمنع حدوث نزاع بين المسلمين والنصارى، وعادت العلاقات التجارية بين الجانبين، فقد اشترى السيد حسن أفندي جود، رئيس المؤذنين بالحرم القدسي الشريف بالوكالة عن الخواجة حنا ولد الخوري جريس الرومي قطعة الأرض الواقعة في قرية لفتا، وساد الود في العلاقات بين الطرفين عام 1877م، ووصف مراسل جريدة «البشير» في القدس العلاقات: «فلله الحمد ترى الجميع من مسلمين ومسيحيين سائرين بالاتحاد والألفة ووحدة الروح، ولا يوجد شيء، ولو جزءاً يكدر صفاء العيش، وظهر أثر الوفاق أولاً لدى صدور الأوامر بتقديم الإعانة لسلطاننا الشرعي».
وأختتم المؤلف دراسته بالتوصل إلى عدة نتائج أبرزها: كانت طائفة الروم الأرثوذكس أكثر الطوائف نفوذاً في المجالات الاقتصادية بحكم الأراضي التي امتلكتها، ومشاركتها في أغلب الصناعات والمهن مقارنة مع أبناء الطوائف الأخرى، وتوليها الوظائف المالية والقضائية، والدينية بسيطرتها على أغلب الأماكن المقدسة، وتقدمها على الطوائف الأخرى بإجراء الطقوس الدينية في الحج والأعياد، باعتبارها أقدم الطوائف وجوداً في القدس، ولكثرة أتباعها، ودعم الدولة العثمانية والروسية لها، كما لم تضع الدولة العثمانية عقبات أمام رعاياها من النصارى، بل أتاحت لهم قدراً كبيراً من الحرية، حتى إن تعليمات فرض القيود على النصارى في مجال الملبس وركوب المطايا كانت لهجتها أقوى من تطبيقاتها، فكانت القيود الاجتماعية التي فرضت عليهم شكلية في الغالب، أيضاً حقق الحكم المصري لبلاد الشام (1831 - 1840م) قسطاً من المساواة الاجتماعية، وأتاح للكنائس فرصة للنمو والتطور، ولم يعد بوسع الدولة العثمانية التراجع عما تم في عهد محمد علي باشا، بالإضافة إلى تدخل الدول الأجنبية والقناصل لحماية الطوائف النصرانية، فأصدر السلطان خط شريف كولخانة عام 1839م، وخط التنظيمات الخيرية عام 1856م، فأكد الخطان المساواة بين رعايا الدولة العثمانية بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، كما ساهم النصارى في الحياة الاقتصادية، فكان لهم دور واضح في المجال الزراعي من خلال امتلاكهم مساحات واسعة من الأراضي الزراعية إلى جانب تخصصاتهم التي أبدعوا فيها، فأنتجوا كثيراً من الصناعات المقدسة التي لها شهرة بالغة في الأسواق الداخلية والخارجية، بخاصة صناعة التحف الدينية والصدفيات، والشموع وغيرها، أيضاً ساهم النصارى في أجهزة الحكم والإدارة من خلال عملهم في الجهاز المالي، وفي الجهاز الإداري، كبلدية القدس، ومجلس الشورى، ومجلس إدارة لواء القدس، وفي الجهاز القضائي من خلال عملهم في محكمة البداية والتجارة، كما تمتع النصارى بالحرية الدينية من خلال إنشاء الكنائس والأديرة وترميمها، ووقف الأوقاف الذرية والخيرية على أفرادها وكنائسها، وحج عدد كبير من النصارى للقدس، واحتفلوا بأعيادهم مع حرص الدولة العثمانية على توفير الأمن للزائرين النصارى في أثناء الاحتفالات الدينية.
كما تميزت العلاقات بين المسلمين والنصارى في القدس بالود أحياناً من خلال اتفاق الطرفين في مواجهة الحملة الفرنسية على بلاد الشام (1798 - 1801م) وتقديمهم مبلغاً من المال لشراء الأسلحة والذخائر، ولتعمير سور مدينة القدس، وقامت علاقات تجارية بين الطرفين، ودخل بعض النصارى في الإسلام.
محمد عويس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد