الأبعاد الأساسية للسياسة الأمريكية الشرق أوسطية للفترة القادمة
الجمل: برزت في الآونة الأخيرة المزيد من المؤشرات التي تفيد لجهة أن منطقة الشرق الأوسط سوف تشهد خلال الفترة المقبلة قدراً أكبر من التصعيد والتوترات التي يمكن أن تُفضي إلى المواجهة بالوسائل الدبلوماسية، إن لم يكن بالوسائل العسكرية: ما هي التغييرات المتوقع حدوثها في الموقف الأمريكي إزاء دول منطقة الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص سوريا ولبنان والفلسطينيين؟
* الأبعاد الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية:
يقصد بالسياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية، برنامج العمل السياسي الخارجي الأمريكي الذي ظلت تختاره وتؤكد عليه الإدارة الأمريكية وينفذه المسئولون الأمريكيون الرسميون إزاء بلدان منطقة الشرق الأوسط. وفي هذا الخصوص، نشير إلى أن الرهان الأمريكي الداعم لإسرائيل لم يتغير برغم تغيير ليس الإدارات الجمهورية والديمقراطية وحسب، وإنما بتغيير الوجوه أيضاًَ. وبكلمات أخرى، فإن هنري كسنجر، جيمس بيكر، فيليب حبيب، دينيس روس، جورج ميتشل، كولن باول، كونداليزا رايس، هيلاري كلينتون، ديفيد ولش وجيفري فيلتمان ظلوا يمثلون شخصية نمطية واحدة، وهي شخصية المسئول الأمريكي الرفيع المستوى المنحاز لإسرائيل بما يفوق حد الوصف.
تتسم بيئة السياسة الخارجية الأمريكية إزاء منطقة الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص إزاء سوريا ولبنان والفلسطينيين بالعديد من الأبعاد المثيرة للغرابة والدهشة، ويمكن الإشارة إلى ذلك على النحو الآتي:
* الانفصام عن الواقع المجتمعي الأمريكي: وفي هذا الخصوص نلاحظ:
- الاستناد على دوافع سياسية خارجية شرق أوسطية تختلف تماماً عن دوافع المجتمع الأمريكي إزاء قضايا السياسة الداخلية الأمريكية.
- القيام بأدوار متناقضة، بحيث أن انفتاح جولات المسئولين الأمريكيين يتزامن في معظم الأحيان مع قيام الكونغرس الأمريكي والإدارات الأمريكية بإصدار القوانين والتشريعات والقرارات التي تسعى إلى القطيعة والانغلاق في التعامل مع البلدان الشرق أوسطية لاستثناء إسرائيل.
- اعتماد ازدواجية الأداء السلوكي السياسي الخارجي المتعاكس، فقد سبق أن سعت أمريكا إلى دعم جهود مفاوضات السلام مع سوريا، ولكن إسرائيل أفشلت المفاوضات، ولاحقاً سعت إسرائيل إلى التفاوض مع سوريا ولكن أمريكا رفضت دخول تل أبيب في أي مفاوضات سلام مع سوريا.
* تزايد حجم اللايقين وانعدام المصداقية: وفي هذا الخصوص نلاحظ الآتي:
- غموض معاملات السياسة الخارجية الأمريكية في البيئة الدولية، وعلى وجه الخصوص في منطقة الشرق الأوسط.
- ضغوط السياسة الخارجية الأمريكية على البيئة الدولية، وعلى وجه الخصوص إزاء منطقة الشرق الأوسط.
- قيام السياسة الخارجية الأمريكية بخلق الأزمات في النظام الدولي، وذلك بسبب المواقف غير المنطقية والمطالبات الجائرة التي ظلت الإدارة الأمريكية تسعى لفرضها على النظام الدولي، وعلى وجه الخصوص في منطقة الشرق الأوسط.
تجسدت كل أبعاد السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية من خلال إسقاطاتها على سوريا ولبنان والفلسطينيين. وما هو مثير للاهتمام أن الإدارات الأمريكية بمختلف أنواعها، ظلت هي نفسها غير قادرة على ضبط عملية صنع قرارات السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية، وتوجد حالات عديدة لرؤساء أمريكيين ومسئولين كبار في الإدارة الأمريكية أدلوا فيها بإفادات –بعد مغادرتهم للإدارة الأمريكية- تؤكد بأن المواقف والأداء السلوكي الذي كانوا يقومون به إزاء منطقة الشرق الأوسط كانوا غير مقتنعين به، وإنه كان مفروضاً عليهم.
* السياسة الخارجية الأمريكية إزاء مثلث سوريا-لبنان-الفلسطينيين: إشكالية التفضيلات المتعاكسة
تتصرف السياسة الخارجية الخاصة بأي دولة على تنفيذ جدول أعمال لبرنامج عمل دبلوماسي يقوم على أساس اعتبارات الـ(توجهات) مثل الانحياز، أو عدم الانحياز، أو الحياد، أو عدم الحياد، وما شابه ذلك، والـ(أدوار) مثل دور صانع السلام، أو الوسيط الدولي، أو صانع السلام العالمي وما شابه ذلك، والـ(إستراتيجيات) وتتمثل حصراً في الحسابات الشاملة الخاصة بالسياسة الخارجية لجهة العلاقة بين متغير الأهداف المحددة ومتغير القدرة على تحقيقها.
وتأسيساً على ما سبق، وبالإسقاط على السياسة الخارجية الأمريكية إزاء منطقة الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص إزاء لبنان وسوريا والفلسطينيين، تبرز المفارقات التي تتسم بها تفضيلات السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، ويمكن الإشارة إلى هذه المفارقات على النحو الآتي:
- من الذي يحدد أهداف السياسة الخارجية الأمريكية إزاء سوريا ولبنان والفلسطينيين؟ وإذا كانت الإجابة المعروفة تقول بأن تحديد الأهداف يتم بواسطة صانع القرار، والعوامل الموضوعية التي تحدد المصالح الوطنية الأمريكية العليا، فمن هم يا ترى صنّاع القرار؟ والكثير منهم بعد خروجه من الوظيفة أكد بأن أهداف السياسة الخارجية الأمريكية إزاء سوريا ولبنان والفلسطينيين كانت تملى عليه، أما بالنسبة للعوامل الموضوعية التي تحدد المصالح الأمريكية الوطنية العليا، فأين يا ترى يمكن أن توجد تلك المصالح؟ هل في إسرائيل... أم في بقية بلدان الشرق الأوسط؟
- من الذي يقوم بتنفيذ أهداف السياسة الخارجية الأمريكية إزاء سوريا ولبنان والفلسطينيين؟ وإذا كانت الإجابة المعروفة تقول بأن الأجهزة الدبلوماسية المختصة والمسئولين الرسميين هم الذين يقومون بذلك، فإن هنالك شواهد ماثلة تقول وتؤكد بأن الذين كانوا وما زالوا يقومون بعملية التنفيذ، لم يكونوا في يوم من الأيام معنيين بالقيم المؤسسية المتعارف عليها في كل أجهزة دول العالم، بل وحتى تسمية وتعيين هؤلاء المسئولين ظلت تتم بشكل كامل بعيداً عن هذه الأجهزة المعنية.
- من هو المستفيد بشكل مباشر من عملية تنفيذ أهداف السياسة الخارجية الأمريكية إزاء سوريا ولبنان والفلسطينيين؟ وإذا كانت الإجابة المثالية تقول بأن أمريكا هي المستفيد المباشر، فإن الإجابة الواقعية المسنودة بالأدلة والشواهد تقول وتؤكد بوضوح بأن إسرائيل هي المستفيد الأول المباشر، وأيضاً هي في نفس الوقت المستفيد الثاني غير المباشر.
- ما هو موضوع أهداف السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية إزاء سوريا ولبنان وفلسطين؟ هل هو الإقليم الجيوسياسي الشرق أوسطي، أم هي النظم السياسية الشرق أوسطية، أم هي الموارد، أم تحقيق المكانة والـ(برستيج) الدولي لأمريكا؛ الإجابة تقول بكل وضوح، لو كان موضوع الأهداف هو الإقليم لتعاملت أمريكا مع كل أطراف ومكونات الإقليم وأيضاً مع كل نظمه السياسية بشكل لا يقوم على الانتقاء الجائر الذي يسعى لإعطاء إسرائيل المكانة العليا، ومن هم غيرها المكانة الدنيا؛ ولو هدفت أمريكا إلى موارد الإقليم لأصبحت الشريك الأول الأكثر أهمية لجهة الحصول على المنافع، ولكنها بدلاً عن ذلك هدفت لدعم إسرائيل التي لا تقدم المنافع لأمريكا، وإنما تستنزف موارد أمريكا وتسلبها المنافع، أما بالنسبة لتحقيق المكانة والبرستيج الدولي، فقد فقدت وأضاعت أمريكا الكثير من المكانة والبرستيج بسبب دعمها لإسرائيل.
تحدث المزيد من الخبراء طوال العقود الماضية عن وضعية اللاسلم واللاحرب، ولم تكن أحاديثهم صائبة آنذاك، فقد كان هناك من جهة اللاسلم، ومن الجهة الأخرى كانت هناك الحرب (حرب 67، حرب تشرين، حرب لبنان الأولى، حرب لبنان الثانية، حرب وغزو العراق، حرب قطاع غزة). ولكن، وبفعل التطورات الجارية والمتغيرات الجديدة، فإن حالة الحرب يمكن القول بأنها انتقلت فعلاً إلى حالة اللاحرب، ولن تستطيع دوائر صنع واتخاذ القرار الإسرائيلية القيام بسهولة باتخاذ قرار الحرب، طالما أنهم أصبحوا يدركون أن الحرب مع سوريا وحزب الله اللبناني لن تكون هذه المرة «لعب عيال»، وبالتالي، فمن المرجح أن يسعى صانع ومتخذ القرار الإسرائيلي إلى المزيد من التسويق السياسي الإعلامي المهدد بإشعال الحرب، طالما أن عملية التسويق الحربي ضد سوريا ولبنان سوف تتيح للإسرائيليين تحقيق المزيد من المنافع والمزايا الإضافية عبر ابتزاز أمريكا من خلال نافذة السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية. وتقول التسريبات الجديدة، بأن الخبراء الإسرائيليين وخبراء اللوبي الإسرائيلي يسعون حالياً بشكل حثيث على تغيير إستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي بحيث يتم إضافة تركيا إلى خانة المخاطر، بما يتيح لإسرائيل الضغط على أمريكا لجهة الحصول على المزيد من الدعم والسند الذي يتيح الحفاظ على تفوق إسرائيل في الميزان العسكري الخاص بالمنطقة طالما أن تركيا أصبحت ضمن الخصوم. ومن أبرز الشواهد الدالة على هذه التوجهات ما تم نشره عبر التسريبات الإسرائيلية القائلة بضرورة عدم قيام لا أمريكا ولا إسرائيل بتقديم الدعم لتركيا، طالما أن الجيش التركي يجري التدريبات مع الجيش العربي السوري، وطالما أن تركيا تقدم الدعم المعلوماتي المخابراتي لإيران في مواجهة الحركات الكردية الانفصالية الحليفة لأمريكا وإسرائيل!
قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد