عملية الخليل تفرض نفسها على حفلة المفاوضات التنكرية في واشنطن
بدأت المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية بطريقة غير مباشرة قبل موعدها المقرر، جرّاء عملية الخليل البطولية التي وضعت الدعوة الأميركية أمام موقف محرج. فالإدارات الأميركية المتعاقبة كانت تعلن على الدوام أن المستوطنات غير شرعية وتذهب أحيانا إلى اعتبارها عقبة أمام السلام. لكن ما إن وجه مقاومون فلسطينيون ضربة لأشد عتاة المستوطنين اليهود تطرفا حتى بادر الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى اعتبار ذلك «مجزرة لا تعرف الرحمة»، ووجه رسالة ودية الى الاسرائيليين وتحذيرية الى حركة حماس الفلسطينية.
وفي ما بدا أنه برنامج جديد للمقاومة الفلسطينية، أصيب مستوطن وزوجته بجروح عندما تعرضت سيارتهما لإطلاق نار قرب مستوطنة ريمونيم قرب محافظة رام الله. وذكرت مصادر إسرائيلية أن حالة أحد المصابين خطيرة.
وبدت الأجواء في واشنطن أقرب إلى حفلة تنكرية لا تظهر فيها البتة المواقف الحقيقية للأطراف. فإدارة أوباما التي كانت تريد حفل استئناف المفاوضات نوعا من التغطية لحفل الخروج لقواتها المقاتلة من العراق، ومحاولة لإقناع بعض الدول العربية باستمرار الالتزام بالعمل على حل الصراع العربي الإسرائيلي، وجدت نفسها من جديد تؤكد التزامها بأمن إسرائيل. وحاول بنيامين نتنياهو الإيحاء بأنه يطالب المستوطنين بضبط النفس وعدم الرد على «الاعتداء» الفلسطيني، ولكن المراسل العسكري للقناة العاشرة ألون بن دافيد كشف النقاب عن أن رد فعل نتنياهو على عملية الخليل كان مطالبته الجيش بالإغارة على قطاع غزة.
وأوضح المراسل أنه فور تنفيذ العملية بدأت مداولات إطلاع لرئيس الحكومة وهو في طائرته المتجهة إلى واشنطن، ثم بعد هبوطه من الطائرة. وحينها كان واضحا أن حركة حماس تقف خلف هذه العملية، فطلب نتنياهو الرد على العملية بالهجوم على غزة. ولكن رئيس الأركان غابي أشكينازي ورئيس الشاباك يوفال ديسكين عارضا مثل هذا الهجوم، وقالا إنه يلحق الضرر بفكرة الفصل بين غزة والضفة الغربية، فضلا عن أنه يضر بالجهود التي تبذلها أجهزة الأمن الفلسطينية لإحباط عمليات حماس. ولذلك فإن القرار بمهاجمة غزة تم تأجيله مؤقتا.
وفي كل حال فإن الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي وصل إلى واشنطن مرغما، وجد نفسه في كل منبر يوضح أن استئناف النشاط الاستيطاني يعني ترك طاولة المفاوضات. بل إن بعض المقربين منه يؤكدون أنه لا يتورع حتى عن التهديد بحل السلطة الفلسطينية إذا تم إجباره على خلاف ذلك. ولكن كثيرين يعلمون أنه حتى لو صحت نوايا عباس فإن هناك «طائفة» من الفلسطينيين باتت تعبد السلطة لذاتها، وهي على غير استعداد للقبول بحلها تحت أي ظرف من الظروف.
ولعلها لم تكن صدفة أن عملية الخليل قد نفذت أثناء حفل إفطار أقامته قيادة المنطقة الوسطى الإسرائيلية للقيادات الأمنية الفلسطينية في أحد المراكز العسكرية الإسرائيلية. وساد الإفطار حرج كبير بعدما وصلت المعلومات عن العملية، ما دعا وزير الشؤون المدنية في السلطة حسين الشيخ للإعراب عن الأسف لهذه العملية، والاستعداد لفعل ما يلزم لضبط منفذيها. ويقال إن السلطة الفلسطينية شرعت فور ذلك بواحدة من أكبر عمليات الدهم والاعتقال في الآونة الأخيرة.
تجدر الإشارة إلى أن عملية الخليل نفذت في ظل حملات اعتقال متواصلة منذ أسابيع بحق حركتي حماس والجهاد الإسلامي، بل واعتقالات في صفوف مناضلي الجبهة الشعبية. وكان القمع السلطوي قد بلغ حدا لم يسبق له مثيل بكم الأفواه ومنع المعارضين للمفاوضات المباشرة من عقد مؤتمر لهم في رام الله قبل بضعة أيام.
وكان رد الفعل اليميني الأول على عملية الخليل الشروع بعمليات عربدة في القرى الفلسطينية في جوار الخليل. وأُعلن عن تحطيم منازل وإحراق أشجار وفق ما دأب المستوطنون على تسميته بـ«اشارة الثمن»، وهي الرد على أية عمليات ضدهم باستهداف مدنيين فلسطينيين. غير أن الرد اليميني تجاوز هذه المرة الحرق والتكسير إلى الإعلان عن استئناف النشاط الاستيطاني في منطقة الخليل، حيث بدأ عدد من المستوطنين فعلاً بوضع الأساسات لإقامة بؤر استيطانية في الضفة الغربية.
كما أن بلدية القدس التي يسيطر عليها اليمين الاسرائيلي، اتخذت يوم أمس قرارا ببناء مقر ضخم لجمعية يهودية ومتحف لتخليد «ضحايا الإرهاب» في الشيخ جراح في القدس الشرقية معتبرة القرار ذا «أهمية قومية ويهودية». تجدر الإشارة إلى أن المكان يجاور «فندق شبرد» الذي أثيرت حوله إشكالية مع الإدارة الأميركية أثناء زيارة سابقة لنتنياهو إلى واشنطن.
وقد أدان اوباما نفسه عملية الخليل ووصفها بالمجزرة وأكد أن دعم الولايات المتحدة لأمن إسرائيل لا يتزعزع. وقال أوباما، وإلى جانبه نتنياهو، إنه يريد «التحدث إلى الإسرائيليين وسكان المنطقة التي وقعت فيها المجزرة العبثية قرب الخليل». وأضاف «أريد أن يعرف العالم اجمع أن الولايات المتحدة لن تضعف في دعمها لأمن إسرائيل، وسنصد هذا النوع من الأنشطة الإرهابية»، مشيراً إلى أنه «ينبغي أن تفهم حماس، وكل من يتبنى هذه الجرائم الشنيعة، أنها لن تتمكن من منع ضمان امن إسرائيل، ولا الحصول على سلام دائم»، لكنه أقرّ بأنه «سيكون هناك متطرفون ورافضون يسعون إلى الدمار بدلا من السلام». كما أن نتنياهو شدد أمام وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون على أن إسرائيل ستعمل من أجل تصفية الحساب مع منفذي العملية مما يعني أن الرد الإسرائيلي قادم.
وطوال ساعتين تحادث أوباما ونتنياهو حول الوضع القائم وسبل تحقيق السلام. وقال نتنياهو لأوباما إن السلام ممكن التحقيق شرط توفر الجدية والاستعداد الحقيقي من الجانب الفلسطيني. وشدد على أن الجانب الإسرائيلي جاهز وجدي، وأنّ كل تسوية يجب أن ترتكز إلى ترتيبات أمنية ملموسة توقف ناشطي الإرهاب والصواريخ، وكل الأخطار التي تتهدد مواطني إسرائيل. وبحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية، فإن نتنياهو قال لأوباما إنه مستعد لدفع الثمن السياسي، ولكن في مقابل سلام نهائي ودائم وليس مقابل وقف الاستيطان. وأكد نتنياهو أن وقف الاستيطان هو من بين قضايا الحل النهائي.
وبعد اللقاء خرج أوباما ليؤكد استمرار ضمان أميركا لأمن إسرائيل في مواجهة الإرهابيين وأكد أن «المجزرة العديمة الرحمة لن تمنعنا من مواصلة العمل من أجل السلام في المنطقة». وأثنى أوباما على كل من الرئيس المصري حسني مبارك والملك الأردني عبد الله الثاني، اللذين وصلا إلى واشنطن للمشاركة في القمة ولتأييد العملية السياسية. وأكمل أوباما محاولته احتواء عملية الخليل بلقاء الرئيس عباس ثم الملك الاردني عبد الله الثاني فالرئيس المصري حسني مبارك قبل ان يستضيف القادة العرب الثلاثة في حفل افطار مع نتيناهو في البيت الابيض .
وسبق الإفطار مؤتمر صحافي لأوباما دعا فيه الإسرائيليين والفلسطينيين إلى انتهاز «فرصة» صنع السلام التي قد لا تتوافر مرة أخرى، مؤكدا أن «الوقت حان للقادة الشجعان وأصحاب الرؤية أن يفتحوا الباب أمام السلام الذي تستحقه شعوبهم»، معتبرا أن مفاوضات السلام «تحقق تقدما»، مشيرا إلى أن عباس ونتنياهو يعتقدان أنه من الممكن التوصل إلى اتفاق للسلام في الشرق الأوسط خلال عام.
أما على صعيد المفاوضات نفسها وبحسب ما نشر في إسرائيل فإن نتنياهو أوصل رسالة واضحة للقيادة الأميركية: أنا أنوي مواصلة البناء الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس ولا أنوي تمديد التجميد. ومع ذلك يشدد نتنياهو لكل من يريد أنه جدي في نواياه العمل من أجل تحقيق السلام مع الفلسطينيين. نتنياهو من الوجهة الشكلية يوافق على الدخول في مفاوضات مع الفلسطينيين حول مستقبل القدس والحدود الدائمة وكل قضايا الحل النهائي. ما لا يوافق عليه هو ترتيب البحث في هذه القضايا حيث يريد أولا وقبل كل شيء إجبار الجميع على عبادة «بقرة الأمن الإسرائيلية» المقدسة قبل مناقشة أي قضية أخرى. وتشير التقارير الإسرائيلية إلى أن الأميركيين رحبوا باقتراح نتنياهو مواصلة المحادثات المباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية على مستوى القمة التي ستعقد مرة كل أسبوعين. وأشارت التقارير إلى أن اقتراحات عرضت لمواصلة المفاوضات المباشرة في مصر لكن إسرائيل رفضت الفكرة.
وكانت أنباء افادت بأن المصريين أرادوا أن تجري المفاوضات بعد افتتاحها في واشنطن في مصر، لكن إسرائيل ردت برفض الفكرة. وكان مسؤولون مصريون قد أشاروا إلى أن أميركا عرضت على مصر استضافة حفل افتتاح المفاوضات المباشرة، إلا أن الرئيس مبارك رفض الاقتراح إلا إذا حضر الرئيس أوباما نفسه لحضور حفل الافتتاح.
وكانت كلينتون عقدت بدورها سلسلة لقاءات مع كل من عباس ونتنياهو ونظيريها الأردني ناصر جودة والمصري احمد أبو الغيط. وقد خيمت عملية الخليل على معظم هذه اللقاءات. وقد أدانت كلينتون العملية معتبرة أنها «تنم عن وحشية همجية»، فيما توعد نتياهو بمعاقبة المسؤولين عن «سفك دماء المدنيين الإسرائيليين»، داعياً في الوقت ذاته المستوطنين إلى «ضبط النفس» و«احترام القانون»، فيما ذكرت وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا» أنّ «الرئيس محمود عباس والقيادة الفلسطينية يدينان العملية التي حدثت في الخليل من منطلق إدانتنا لأية أعمال تستهدف مدنيين فلسطينيين أو إسرائيليين».
من جهته، قال المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط جورج ميتشل إن «فرصة نادرة» تلوح للإسرائيليين والفلسطينيين للتوصل إلى اتفاق سلام تاريخي في غضون عام، مشيراً إلى أنّ الرئيس باراك أوباما واثق، بناء على البيانات الخاصة والعامة لنتنياهو وعباس، من إمكانية التوصل إلى اتفاق نهائي. ولفت إلى أنّ «ذلك أمر واقعي. ونعتقد أنه يمكن تحقيقه».
ورداً على سؤال حول تجميد الاستيطان في الضفة الغربية، قال المبعوث الأميركي «موقفنا من المستوطنات معروف جيداً ولم يتغيّر. لطالما أوضحنا للطرفين أن عليهما نشر أجواء إيجابية للمفاوضات»، محذراً من أنّ «فشل المفاوضات قد يتسبب في صراعات كبيرة تستمر لسنوات». وأشار ميتشل إلى أنّ حركة حماس يمكن أن تشارك على المدى الطويل في المفاوضات في حال تخلت عن العنف.
في هذا الوقت المح وزير الدفاع الإسرائيلي ايهود باراك إلى إمكانية تسليم أجزاء من مدينة القدس للفلسطينيين، وهو ما سارعت مصادر في مكتب نتنياهو إلى استبعاده. وقال باراك، في مقابلة مع صحيفة «هآرتس» إنّ «القدس الغربية والأحياء اليهودية الـ12(في القدس الشرقية)، والتي يسكنها حوالى 200 ألف شخص ستكون لنا، أما الأحياء العربية التي يعيش فيها قرابة ربع مليون فلسطيني ستكون لهم»، مشيراً إلى أنه «في البلدة القديمة وجبل الزيتون ومدينة داود (أي حي سلوان) سيكون هناك نظام خاص وترتيبات متفق عليها».
وحول مبادئ اتفاق التسوية الذي يمكن التوصل إليه في نهاية المفاوضات المباشرة، قال باراك إن «الحل يقضي بإقامة دولتين للشعبين، وإنهاء الصراع، ونهاية المطالب في المستقبل»، مضيفاً أنه «سيتم رسم الحدود داخل أرض إسرائيل، بحيث تكون في داخلها أغلبية يهودية صلبة لأجيال قادمة، ومن جهتها الأخرى دولة فلسطينية منزوعة السلاح لكنها قابلة للحياة سياسيا واقتصاديا وإقليميا»، على أن «يتم الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية بأيدينا وإعادة (سكان) المستوطنات المعزولة إلى داخل الكتل أو إلى داخل إسرائيل، وحل قضية اللاجئين داخل الدولة الفلسطينية أو بواسطة تحسين مكانتهم في العالم، كما ستكون هناك ترتيبات أمنية مشددة».
وأوضح باراك أنّ هذه الترتيبات يجب أن تستند إلى مواضيع ثلاثة هي «أولا، عدم العودة إلى الوضع الحاصل في لبنان وقطاع غزة، عندما أخلينا مناطق وتحولت إلى مخزن للقذائف الصاروخية والصواريخ. وثانيا، لن تكون هناك موجة إرهابية كالتي كانت بين العامين 2001 و2003. وثالثا، التعامل مع التغيرات الجيو- إستراتيجية المحتملة في الشرق الأوسط، فهذه منطقة تتميز بانعدام اليقين، والجبهة الشرقية قد تثور مجددا ولذلك فإن ثمة حاجة لتواجد (عسكري إسرائيلي) لسنوات طويلة في غور الأردن وترتيبات تكنولوجية وتحصين الكتل الاستيطانية».
وتعقيباً على تصريحات باراك، أكد مسؤول في مكتب نتنياهو أنّ القدس ستبقى «عاصمة موحدة لإسرائيل»، مشيراً إلى أنّ «موقف رئيس الوزراء هو أن القدس واحدة من المسائل الجوهرية المطروحة على طاولة المحادثات».
من جهته، اعتبر مبارك، في مقال نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، أنّ «الوقف التام للتوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس هو أمر مهم لنجاح المفاوضات»، مشيراً إلى أنّ «الفلسطينيين لا يمكنهم تحقيق السلام وهم منقسمون. فإذا تم استبعاد غزة من إطار السلام، فسيظل ذلك مصدر نزاع ويقوض اي تسوية نهائية». كما لفت إلى أن على الدول العربية أن تقدم بوادر لتهدئة المخاوف الإسرائيلية.
في أنقرة، رحبت وزارة الخارجية التركية باستئناف المفاوضات، داعية إلى «تفادي أعمال أحادية قد تقوض المفاوضات». في المقابل، انتقد الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد استئناف المفاوضات، لافتاً إلى أن «عشرات المفاوضات حصلت في السنوات الثلاثين الأخيرة، وجرى تقديم عشرات الخطط للسلام، لكنها فشلت كلها».
حلمي موسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد