طـلاب سـوريـا يتكيّفـون مـع الحـرب: التعـلـيـم أولاً
قد يبدو الحديث عن التعليم في سوريا ترفاً في مثل هذه الأيام، ولعل بعض المناطق قد هجرت العلم أو أن العلم قد هجرها. ولكن صحيح أن التعليم لم يعد أولوية بقدر تأمين المأوى الآمن، إلا أن هذا الترف تحول إلى تحدٍّ قد يكلف البعض حياتهم. هؤلاء يخاطرون برغم كل شيء للحفاظ على هذا الحق، من دون أن يأبهوا بالدمار الذي لحق بالمدارس والتفجيرات التي طالت الجامعات والمراكز التعليمية وخطف الطلاب والكفاءات العلمية. هكذا، يستمر قطاع التعليم في سوريا بتحقيق إنجازات يومية، بقدرته على الصمود والتكيّف مع جنون الحرب.
المدارس تتحدى الرصاص
في منتصف أيلول الماضي، أطلقت وزارة التربية صافرة البداية للعام الدراسي 2012- 2013 برغم اشتعال المعارك التي فرضت نزوحاً في العديد من المحافظات، محوّلة بعض المدارس إلى مراكز إيواء. وتشير أرقام الأمم المتحدة وتقرير منظمة اليونيسيف في أيلول الماضي إلى تعرض أكثر من ألفي مدرسة للتدمير الكامل أو الجزئي (ارتفع هذا الرقم وفقاً لوزارة التربية إلى 2400)، فيما تقيم مئات العائلات في 800 مدرسة (ارتفع الرقم إلى 1499 مدرسة)، لتعمل المنظمة الدولية على إصلاح أربع وستين منها في إطار برنامجها للإغاثة الذي يستهدف أربعة ملايين سوري. وهو ما نجحت فيه ضمن بعض المناطق مثل حماه، التي افتتحت اليونيسيف فيها 30 مدرسة موزعة بين المدينة والريف. وفي السياق، تشير أرقام اليونيسيف إلى أهمية تزويد مليون طفل في سن الدراسة بالمواد التعليمية الأساسية واستفادة 150 ألفاً من أطفال المدارس من صفوف التقوية والأنشطة الترفيهية في بيئة تعليمية أفضل.
من جهة ثانية، تشير أرقام وزارة التربية السورية إلى تكلفة تصل إلى 60 مليون ليرة سورية، هي كلفة صيانة المدارس في ريف دمشق وحدها التي دُمرت فيها 200 مدرسة. العدد ذاته تقريباً في حمص، فيما لا أرقام واضحة بالنسبة لباقي المناطق.
وتكشف إحصائيات الوزارة أن نسبة الالتحاق بالدوام المدرسي للفصل الدراسي الأول بلغت 74 في المئة، حيث نجحت في الكثير من المناطق كالوعر في حمص والجورة في دير الزور والعديد من مناطق ريف دمشق في افتتاح المدارس وتأمين المدرسين والكتب والكوادر الإدارية. وقد بدأ الفصل الدراسي الثاني منذ أسابيع على ان ينتهي في منتصف أيار مع تكثيف في بعض المقررات وإقامة دورات للتأهيل النفسي والاجتماعي.
ونجحت بعض المدارس في التكيف مع الوضع الجديد من خلال إيجاد فترتين للدوام أو نقل مقارّها، وخاصة المدارس الخاصة، إلى مناطق أكثر أمناً، فيما تضاعف الثقل التعليمي على مدارس هذه المناطق وخاصة في دمشق التي استوعبت تلاميذ الكثير من المناطق الساخنة.
ومع كل الظروف المحيطة، لجأ الأهالي إلى اتخاذ إجراءات مشددة حيال أولادهم، تبدأ بنقلهم إلى أقرب المدارس للبيت وانتظار خروجهم خوفاً من حالات الخطف المتكررة، وصولاً إلى إلزام بعضهم الآخر بالدروس المنزلية تعويضاً عن غيابهم عن المدارس في بعض المناطق الساخنة.
الجامعات.. صامدة
واقع الجامعات في سوريا يبدو أفضل حالاً بسبب تجمعها في كتل كبيرة في قلب المدن، حيث تضم البلاد خمس جامعات حكومية هي جامعات دمشق وحلب و«البعث» في حمص و«تشرين» في اللاذقية و«الفرات» في دير الزور. وتتبع لكل جامعة سلسلة من الكليات الرئيسية أو الفرعية في المحافظات المجاورة لتغطي مختلف المناطق. في المقابل، افتتحت في السنوات الأخيرة قرابة عشر جامعات خاصة، معظمها في ريف دمشق على الطريق بين دمشق ودرعا، بالإضافة إلى ريف حمص وطرطوس.
وفي ظلّ الأزمة الحالية، اضطرت الجامعات بدورها للتكيف مع الوضع الجديد، فنقلت مقارّها إلى قلب العاصمة، وخاصة تلك التي تقع على طريق دمشق ـ درعا، وذلك على إثر سقوط عدة قذائف في مقارّها الأساسية وانقطاع الطرق المؤدية إليها بفعل الاشتباكات. وبقيت جامعة أخرى على طريق دمشق ـ حمص في موقعها، لكن الوصول إليها بات محفوفاً بالمخاطر في الآونة الأخيرة، لا سيما مع عمليات خطف الطلبة والأساتذة، وقد كان آخر هؤلاء عميد كلية الطب.
أضف إلى ذلك، استهداف الجامعات، كما حصل في جامعة حلب التي شهدت مجزرة مروعة قبل حوالي الشهر، فيما شهد محيط جامعة دمشق عمليات خطف طالت العديد من الطلاب وهي التي انطلقت فيها تظاهرات احتجاجية في بداية الأزمة السورية.
وبين عمليات الخطف والتفجير، يبقى الخوف الأكبر، وفق ما يرويه طلبة في جامعتي حلب ودمشق، من الاصطفاف السياسي بين موال ومعارض. مثال على ذلك، حادث إطلاق النار من قبل أحد الطلاب في كلية الهندسة الميكانيكية في دمشق على رفاقه، ليسقط أحدهم قتيلاً ويصاب الآخرون بجروح. وهو ما يتحدث عنه الطالب عمر من كلية الآداب في جامعة دمشق، قائلاً «مع تقدم عمر الأزمة، أصبح هناك كتل طلابية مميزة بين موال ومعارض ومحايد، حيث يقف كل طالب مع رفاقه في الخط السياسي ذاته. ويتعمق الشرخ يوماً بعد آخر مع أي حدث يتبادل معه الطرفان الاتهامات».
بدوره، يشير عدنان، وهو طالب حقوق، إلى أن «المناطقية باتت عاملاً رئيسياً للفرز بين الطلاب. ».
أما ليلى، طالبة الهندسة، فتشير في حديثها إلى أن استمرار الجامعات في دمشق وحلب وغيرها هو إنجاز بحدّ ذاته، برغم كل الأخطار التي تحيط بها. صحيح أن كثيرين يغيبون عن قاعات الدراسة، لكن الجميع يحضر في فترة الامتحانات مهما كانت الظروف.
وهو ما يشير إليه الطالب ياسين في جامعة الفرات، حيث يوضح أن الطلبة النازحين قد عمدوا إلى حضور الدروس في جامعات المدن التي نزحوا إليها، فيما عاد البعض إلى مدن الحسكة والرقة ودير الزور لتقديم الامتحانات برغم حدة المعارك التي تشهدها تلك المدن، على حدّ تعبيره.
ووسط جنون العنف، تتملّك الرغبة بالهجرة الكثير من طلاب سوريا، سواء كانوا من حملة البكالوريوس أو الدراسات العليا. وما شجّعهم على ذلك، كان فتح عشرات الجامعات حول العالم أبوابها للمهاجرين الجدد.
وفيما كانت مصر هي الوجهة الأولى لمعظم الطلبة ، لم يتردد العديد من الجامعات الأوروبية بتقديم منح عبر مؤسسات ومنظمات غير حكومية للسوريين لإكمال دراستهم فيها، ولكن قلة فقط هم من تمكنوا من الوصول إليها بفعل القيود الكثيرة التي تفرضها الدول الأوروبية على السوريين. وتتمثل الخطورة الأساسية في هجرة الكثير من العقول السورية الشابة، التي يعوّل عليها في مستقبل البلاد إثر انتهاء الأزمة الحالية. وهو ما عبر عنه أحمد، خريج الاقتصاد، باستياء شديد، وقال «لا أستطيع وصف ذلك سوى أنه قمة الأنانية، وخاصة أنني أعرف جيداً أن الأغلبية ممن غادروا البلاد لن يعودوا إليها مهما حصل في الداخل».
ما يحصل في سوريا اليوم يشبه إلى حدّ بعيد ما حصل في العراق عندما هاجرت الكفاءات التعليمية، تاركة البلاد للخراب. ويبقى المشهد السوري اليوم في هذا الإطار مربكاً وشديد الإيلام، بين حق تلك الكفاءات في الهرب من موت محدق، وإحساس من هم في الداخل بأن هروب هؤلاء هو قمة الأنانية.
طارق العبد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد