عندما قرّر أوباما اللجوء إلى «الاستخارة»
مخطئ من يفكر أن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون تراجع احتراماً لإرادة البرلمان. ومخطئ أيضاً من يفكر أن إسرائيل بلعت الموسى نزولاً عند رغبة سيدها الأميركي، تماماً كما هو مخطئ من يفكر أن الرئيس باراك أوباما تراجع احتراماً للكونغرس واللعبة الديمقراطية.
لا يا إخوان، اسألوا عن فحوى الرسائل التي أبلغها الإيرانيون إلى جيفري فيلتمان والسلطان قابوس في زيارة «الصدفة» المزدوجة لطهران. لجيفري فيلتمان قالوا: إن كان رئيسك الأساس جاداً في الحديث عن «جنيف ٢»، فعليك أن تذهب الى دمشق وتفاوض فيصل المقداد ومن ثم يسارع رئيسك للدعوة إلى المؤتمر تحت سقف الأسد، ونقطة على أول السطر.
ولجلالة السلطان قالوا: إن كنت تريد منع الحروب وتبعد شظاياها ودخانها عن المياه الدافئة، وهي رغبة ملحة ودائمة لديك، فما عليك إلا أن تفهم أصدقاءك في لندن وواشنطن أن عليهما الإذعان أن دمشق أضيفت الى بنت جبيل باعتبارها خط الدفاع الأول لجبهة المقاومة، وإلا فلينتظروا «فيتنام ٢» ويوم القيامة. وانطلقت ماكينة المشاورات والاتصالات حتى ارتجفت واصطكت ركبتا أوباما وركع عند بوابات دمشق يلتمس لنفسه عذراً بغطاء ديمقراطي.
لا شيء يحصل على سطح هذه الارض بالصدفة، لأن مفهوم الصدفة يتعارض مع السنن الكونية. ولكن لماذا ظل الحديث يجري وبقوة خلال الفترة الاخيرة، وانطلاقاً من الحدث السوري، عن سايكس بيكو جديد أو «سايكس بيكو ٢»، وظلوا يروّجون كثيراً لمؤتمر «جنيف ٢» ويقولون إنه لا يمكن أن ينجح إلا إذا حصل ثمة تكافؤ ميداني على الارض السورية بين من يسمونهم المعارضة وبين الدولة المركزية في دمشق.
في هذه الأثناء، ثمة من ظل يتساءل بقوة عن سبب بقاء الوسيط الدولي العربي الاخضر الابراهيمي في مهمته، رغم أنه خرج أو يكاد تماماً من التأثير على مشهد التحولات السوري. ثمة من يرد فيقول إن ذلك ما كان ليحصل لولا أنه لا يزال يراهن ويعمل على تحقيق حلمه بـ «طائف ٢» يراه الحل الوحيد للأزمة السورية، وأنه يلقى دعماً وإسناداً من أوساط دولية هي من تدير المعارك على الارض السورية بطريقة تمنع أن تحصل فيها الغلبة لأي طرف على الطرف الآخر، لتخرج منها معادلة «جنيف ٢» بالقراءة الاميركية، أي من دون استمرار الاسد الى نهاية ولايته في ربيع عام ٢٠١٤. وفجأة يقرر ما يسمى المجتمع الدولي، وغالباً ما يقصد به أميركا وإنكلترا وفرنسا وربيبتهم المدللة إسرائيل، أن المطلوب ضرب العمود الفقري للدولة السورية، أي الجيش العربي السوري. وكلنا يعرف ماذا يعني ذلك في ما لو نجحوا ـــ لا سمح الله ـــــ في مهمتهم الأخطر، أي القضاء على آخر ما يجمع قوام المجتمع السوري الموحد والدولة السورية الواحدة، خاصة إذا علمنا أن الجيش السوري هو الجيش العقائدي الوحيد بين الجيوش العربية، أي الجيش القومي الوحيد العابر للدولة القطرية، والذي يعتبر فلسطين قضيته الاولى وليس حماية حدود سايكس بيكو. هل يعني ذلك فعلاً أننا وصلنا الى نهاية المطاف في رحلة المراوحة بين المتحاربين بالنيابة والوكالة في سوريا، وبين الدولة المركزية (القطرية)، فلزم الأمر التخلي عن الوكيل ودخول الأصيل على خط المنازلة لتبدأ الرحلة الماراتونية الى «سايكس بيكو ٢»؟ كان التخوف، حتى وقت قريب، أن يقع الروس في خديعة من نوع جديد مع هذا المجتمع الدولي، ليست على غرار العراق أو ليبيا، ويقبلوا بالتخلي عن بشار الاسد في مقابل الاحتفاظ بنفوذ ما لهم في سوريا والمتوسط، أي القبول بـ«جنيف ٢» بقراءة أميركية تحت ضغط ورقة الكيميائي المفبركة. وعندئذ، قد يقررون إمرار ضربة محدودة مكرهين، بحجة أنها لن تسقط دمشق ولكنها تأتي بالأسد منهكاً الى «جنيف ٢» ليوقّع على نهاية سوريا الأسد «بالعافية»، كما يقول إخواننا المصريون، بعد انتهاء ولايته، في مقابل حصة من النفوذ في المتوسط ولكن بالاشتراك مع الأميركيين. وهو حلم واشنطن الوحيد المتبقي في المنطقة، والذي لن يتحقق، لأن هذا ما لن تسمح به إيران الثورة الاسلامية مطلقاً. من هنا جاءت مقولتها: إن سوريا (الشام) هي خطنا الأحمر، ومن يريد النزول الى أراضيها أو الاعتداء عليها، عليه أن يحمل تابوته» معه، كما جاء على لسان الجنرال قاسم سليماني، قائد «جيش القدس» في الحرس الثوري الايراني، فيما أكد قائد قوات الحرس كلها، الجنرال محمد علي جعفري، تحويل سوريا الى فييتنام جديدة ستكون أثمانها هذه المرة نهاية دويلة الكيان الاسرائيلي، ما يعني أن طهران قررت مواجهة مقولة «سايكس بيكو ٢» بـ«فيتنام ٢». ماذا يعني هذا في علم الجيو استراتيجيا؟ هذا يعني أن مياه المتوسط بالكامل باتت أو تكاد مياهاً عربية إسلامية مقاومة، وكل ما فيها من خيرات نفطية وغازية ونفوذ استراتيجي هو في مربع جغرافيا جبهة المقاومة السياسية، ونقطة على أول السطر.
هل تستطيع واشنطن أن تحمل هذا التحول الجيوستراتيجي الأخطر بعد إذعانها مكرهة لوصول أقدام الايرانيين الى شواطئ المتوسط وتموضعها بنحو نهائي هناك منذ حرب تموز المجيدة في عام ٢٠٠٦؟ أم باتت مكرهة ومحشورة بين مطرقة «جنيف ٢» بقراءة روسية ــ إيرانية، ما يعني تكريس النفوذ الإيراني بتوقيع أميركي، وبين سندان «فييتنام ٢» التي ستجعلها تخسر أهم وأخطر مواقع نفوذها في المتوسط، لتنهي بذلك دويلة إسرائيل وتعلق نشاطها الإمبراطوري في هذه المياه المتوسطية الى الأبد؟ هنا قرر أوباما التأمل، وخطرت في باله فكرة «الاستخارة»، كما ورد على لسان جمهور واسع من الناشطين على شبكة التواصل الاجتماعي تهكماً، فخرج كما كتبوا بالجواب الآتي: «ساويت استخارة ما انشرح صدري اضرب سوريا الآن».
ولانه ليس في عالم باراك حسين أوباما، بل واقع بين المطرقة والسندان الآنفي الذكر، فقد لجأ الى حيلة: صحيح أنني مفوّض بالحرب والسلام، لكن الأفضل لي كديمقراطي أن أعود إلى الكونغرس وأتشاور معه، ولسان حاله يقول لعله ينزلني من الشجرة، أو كما يقول المثل: «اللي طلع الحمار على الميذنة ينزلوا».
محمد صادق الحسيني
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد