استعادة الماغوط في زمن الجنون العربي
الشعر شخصياً
أومن بأن التكرار موت، ومن العبث أن أكرر ما تعرفونه عن الماغوط الذي هو برأيي أحد أكثر شعراء العربية حياة.
في سبعينيات القرن الماضي دهش الأدباء والنقاد عندما منح سعيد عقل الجائزة التي تحمل اسمه لمحمد الماغوط، وعندما سئل عقل كيف يمنح جائزته لشاعر يكتب قصيدة النثر التي يرفضها ولا يعتبرها شعراً، قال: «الماغوط هو الشعر شخصياً.» ولأن الشعر الحقيقي يتعدد بتعدد قرائه، سأحاول أن أحدثكم عن ماغوطي أنا.
أعترف لكم أنني منذ أن قرأت قصيدته التي يقول في آخرها: «أنا سأرفع رسالة إلى الله، ممهورة بعذاب البشر، لكن كل ما أخشاه أن يكون الله أميّاً. «ومنذ ذلك الحين، أنظر إلى الماغوط كما لو أنه حزمة ديناميت من الممكن أن تنفجر في أية لحظة.
أحسب أن الماغوط هو أفضل من جسّد بإبداعه رحلة الريفي البسيط إلى المدينة. كانت حياته سلسلة لانهاية لها من المعارك مع ألوان العالم وقيمه وثقافاته، صحيح أنه كان يطمح لأن يتطور ويتغير من خلال تمثّل أفضل ما في بستان الثقافة العالمية من ثمار الإبداع، وأن يكتسب المعارف الحديثة وينغمس في العصر، حتى لو اضطر لأن يشرب دموعه، لكنه كان يقاوم بكل قواه محاولات الحداثة المغوية لأن تغير هويته كإنسان.
لم يكن الماغوط يتواضع عندما قال: «لا مشروع ثقافياً لدي. لا نظرية شعرية. لا حلم أريد تحقيقه. أنا لست مثقفاً. شهادتي متوسطة زراعية»، فجوهر ما فعله الماغوط برأيي، هو أنه صهر اللغة في مرجل موهبته وحرر الكلمات من ظلال الآخرين وغبارهم ثم سكب فيها روحه الفريدة وأعطاناً إياها إبداعاً لا يشبه أحداً سواه فجاء شعره ماغوطياً، ومسرحه ماغوطياً وروايته ماغوطية، ومقالته الأدبية ماغوطية، وزاويته الصحافية ماغوطية أيضاً.
لن أحدثكم عن حياة الماغوط الذي ولد في السلمية عام 1934 وغادر دنيانا ذات اثنين من نيسان عام 2006. كما لن أتعرض لرحلة الماغوط الإبداعية بدءاً بأول مجموعة شعرية له «حزن في ضوء القمر» وانتهاءً بآخر كتاب له «شرق عدن-غرب الله»، بل سأكتفي بعرض ثلاث لحظات فريدة جمعتني بالماغوط.
1
في أواخر تسعينات القرن الماضي اتصل بي أحد الأصدقاء من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأبلغني أن الجبهة قررت تكريم الماغوط وأن الحكيم جورج حبش شخصياً سيحضر الحفل، وأنه قد وقع الخيار عليَّ لتقديم مداخلة بهذه المناسبة. لست أنكر أنني شعرتُ بمزيج من الزهوّ والارتباك فأنا أحب الرجلين وأقدّرهُما وأعتبر كل منهما نسيجاً أصيلاً في مجاله. كانت القاعة صغيرة والجمهور كبير وحرُّ تموز يضغط على الصدور، والمسافة بين المنصة والجمهور لا تزيد عن بضعة أشبار، وقد شاءت الصدفة أن يأتي مكاني خلف الطاولة مقابل الماغوط الجالس الى جانب الحكيم جورج حبش في الصف الأول.
كنت مرتبكاً كما لو أنني أقدم فحصاً شفهياً أمام جمهور مختلط وأنا حافي القدمين عاري الصدر! في بداية مداخلتي تعكزتُ على ما قاله الروائي الإنكليزي الكبير سومرست موم في لقاء نُشر معه على صفحات مجلة «ساتردي ريفيو» قبل تسع سنوات من رحيله، عام 1966، فعندما سُئل عن رأيه بالشعر قال: «الشعر هو تاج الأدب، إنه نهايته ومبتغاه، إنه أسمى فعالية يمارسها العقل البشري. إنه إنجاز الجمال والرقة ...إن كاتب النثر ليتنحى جانباً عندما يمر الشعراء».
بعدها صارحت الجمهور بأن رغبتي في التنحي كي يمر الشاعر محمد الماغوط لا يعادلها شيء على الإطلاق! فليس من محنة يعانيها كاتب النثر أكثر من أن يتكلم عن الشعر في حضرة شاعر كالماغوط! غير أن رغبتي في التنحي يومها اصطدمت برغبة أخرى أقوى منها؛ هي أن أتغلب على ارتباكي وأن أشكر الشاعر بلغة الناس اليومية المتعبة، على ما سبق وقاله هو بلغة الشعر المضيء!
نظرت في عيني الماغوط كما لو أنني أستنجد به، كان وجهه حيادياً لكنني لمحت في عينيه ظل ابتسامة مشجعة. قلت له:
هنا ارتسمت على وجه الماغوط ابتسامة تكاد لا تلحظ فبدأ إحساسي بازدحام القاعة يخف تدريجياً حتى لم يبق أحد فيها سوى هو وأنا :
تابعت الكلام:« نضحك من أعماقنا جاهلين أنك تستخدم كيمياء الشعر لتحول أوجاعك الممضة إلى ابتسامات وفراشات تحط في قلوبنا كخطوط دفاع في وجه تصحر العالم وامتلاء العالمين بالرماد! تمزح على طريقة برنارد شو، فتقول الحقيقة! ونضحك نحن كما لو أن الحقيقة هي أعظم مزحة في العالم! «
بعد انتهاء التكريم وقف الماغوط قبالتي ووضع يده على كتفي في نصف عناق وكرمني بابتسامة سأحملها معي حتى آخر أيامي.
2
لم يكن المبدع محمد الماغوط، يحب الأمسيات الشعرية ولا اللقاءات الصحافية، لذا نُسبت إليه مقابلات أكثر من تلك التي أجراها بكثير، كما اعتذر عن أمسيات أضعاف تلك التي حضرها بآلاف المرات.
في آخر أمسية رأيتُ الماغوط فيها، وقف الشاعر الفريد نزيه أبو عفش وأعلن أنه قرر باسم أصدقاء محمد الماغوط ومحبيه أن يمنحه «جائزة الحب « وهي عبارة عن قرنفلتين خجولتين، لهما بياض قلب الهادي والمهدى إليه!
بحركة عفوية تماماً تناول الماغوط القرنفلتين، لم يضعهما على الطاولة. لم يشكل واحدة منهما في عروة قميصه، ولم يلوح بهما! بل وضعهما ببساطة في كأس الماء الذي سكب له كي يشرب منه أثناء إلقاء قصائده!
صحيح أن الماغوط قد قام بهذه الحركة البسيطة عفو الخاطر، لكنها برأيي المتواضع، تجسد موقفه الجوهري من الشعر والحياة. فأسمى أهداف الشعر، هو تأخير موت الوردة فينا، ومن حولنا، والشاعر الحقيقي هو الذي يؤثر الوردة على نفسه بالماء!
قبل بضع سنوات شاركتُ في ندوة تلفزيونية عن الماغوط لصالح إحدى المحطات الفضائية العربية، وقد قلت يومها...» لو شئنا أن نشبه الماغوط بعضوٍ ما من جسم الإنسان سنجد أنه يشبه القلب العاري. بعض الناس، يشبهون الفم الذي يقضم ويبتلع، بعضهم يشبهون اليد التي تقبض وتنفق وتضرب وتصفع وتداعب، بعضهم يشبهون أعضاء أخرى، أما محمد الماغوط فهو قلب عارٍ بلا أضلاع تحميه، يتناسخ في قلوب الآخرين من خلال الكلمة!»
3
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي فاز فيلم «التقرير» الذي كتب له الماغوط السيناريو والحوار بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان فالنسيا لسينما حوض البحر الأبيض المتوسط، ونظراً لأن منتج الفيلم نادر أتاسي كان قد غادر المدينة قبل نهاية المهرجان؛ فقد ارتأت الإدارة أن أقوم أنا باستلام الجائزة نيابة عن مستحقها، وقد تمت دعوة ملكة جمال إسبانيا لتقديم الجوائز في تلك الدورة.
كانت الجائزة عبارة عن تمثال لنخلة اصطلاحية مسبوكة من معدن الكروم تبرز منها ثلاث سعف مستدقة الرؤوس كما لو أنها حراب! كان لا بد من أن أضع الجائزة في حقيبتي لأنني لو حملتها معي الى صالة الركاب في الطائرة، لظنوا أنها سلاح أريد أن أخطف به الطائرة! وعندما وصلت الى دمشق اكتشفتُ أن إحدى السعف الحراب قد خرقت بنطلوناً عزيزاً بسبب ضغط الحمولة! يومها أخذت النخلة الجائزة معي إلى الجريدة خشيةَ أن تتسبب حرابها المنتشرة بكارثة إذا ما وقعت بين أيدي أطفالي. اتصلتُ ببيت الماغوط فلم يرد علي أحد، اتصلت بالفنان دريد لحام مخرج الفيلم وبعد أقل من ساعة كنت قد تخلصت من تلك الأمانة الثقيلة! في أول لقاء لنا قلت للماغوط: «جائزتك فريدة وحادة مثلك فقد خرقت إحدى حرابها بنطلوناً عزيزاً على نفسي» فأجابني بجدية :«مر على البيت وخذ بنطلوناً بدلاً منه»!
يومها حكيت للماغوط ما جرى معي أثناء قيامي باستلام جائزته في مهرجان فالنسيا من ملكة جمال إسبانيا. فخبط بيده على كتفي وقال متهكماً:
«هذه هي كتابتي! ابنة ستين كلباً! تعطي أزهارها للآخرين وتخصُّني أنا بأشواكها!».
حسن م يوسف
حطّاب لغوي أحرقَ الغابة ثم صمتَ باكراً
هل تكفي ثلاث مجموعات شعرية لإحداث مثل هذا الصخب حول خصوصية تجربة محمد الماغوط؟
الرجل صمت شعرياً مبّكراً، على رغم كل المديح الذي واكب حضوره المتفرد والاستثنائي، ليضع قصيدته على رفّ خاص في المكتبة العربية، إذ اتفق أصدقاء قصيدة النثر ومعاديها على شاعرية الماغوط دون غيره من الشعراء، وظل بمنأى عن الحروب الطاحنة حول ما هو شعر، وما ليس شعراً، ولم يدخل في السجالات النقدية والنظرية حول شرعية ما يكتب. كانت قصيدته ولا تزال، خارج سجلّ النفوس الشعري، ولم تُرجم بحجر أو تُتهم بخطيئة، فيما خاض الآخرون معارك شرسة لإثبات هوية قصيدة النثر وشرعيتها. حتى انه لم يكلّف خاطره بتسمية ما كان يكتبه: هل هو شعر أم نثر، أم صراخ في برية؟
وحين كثرت الكتابات النقدية حول شعره، تشبّث الماغوط بعفويته وفطرته، وراح يؤكد صراحة أنه لم يكمل تعليمه، وتالياً لم يطّلع على خزائن الحداثة كي يغرف منها نصوصه أو يتأثر بأعلامها.
ولكن ماذا لو أن محمد الماغوط لم يغادر إلى بيروت حينها، هل كان له أن يحقق مثل هذا الحضور الصاخب؟
لا شك بأن بيروت أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، تلك المدينة الكوزموبوليتية، هي التي منحت نص الماغوط شرعيته وبريقه، خصوصاً بوجود أباطرة الحداثة في مشروع مجلة (شعر).
يعترف الماغوط بأن معلمه الأول في الشعر هو سليمان عواد ابن مدينته السلمية، فيما لم يتجاوز اسم المعلم حدود البلاد، ثم أليس غريباً أن يصمت الماغوط عن كتابة الشعر بمجرد أن غادر بيروت واستقر في دمشق مجدداً؟ كأن المدن تلعب دوراً أساسياً في إنضاج تجربة إبداعية أو موتها!
قصيدة الظل
كانت آخر مجموعة شعرية كتبها هي (الفرح ليس مهنتي) (1970)، بعدها تحوّل إلى كتابة المسرح والزوايا الصحافية التي كانت طوق النجاة من غرق الصمت الشعري. لنتذكر مقالاته آنذاك في مجلة المستقبل الباريسية تحت عنوان (أليس في بلاد العجائب) مروراً بـ(كاسك ياوطن) في الكفاح العربي، إلى (تحت القسم) في مجلة (الوسط). هذه المقالات على رغم غضبها وسخطها وطرافتها ومفارقاتها، كانت كما أزعم، قصيدة الظل التي لم يتمكن الماغوط من استعادة وهجها. هكذا بقي على تخوم الشعر، إذ من النادر ألا يلتقط القارئ جملة شعرية مباغتة بين السطور، وهو ما استمر على تأكيده في تجاربه النثرية الأخيرة التي أطلق عليها اسم (نصوص) حين طبعها في كتب (شرق عدن غرب الله)، (سياف الزهور)، (البدوي الأحمر). أما شراكته المسرحية مع دريد لحام، فقد قادته إلى ساحة كتابية جديدة تختلف جذرياً عما كتبه من نصوص مسرحية سابقاً، مثل: (المهرّج)، و(العصفور الأحدب)، وحتى (خارج السرب). النصوص الجديدة مثل (غربة)، (ضيعة تشرين)، (كاسك يا وطن)، لا تمثّل بأية حال ما كان حققه الماغوط في سابق عهده لجهة البناء الشعري والبلاغي والهجائي. لنقل إن الماغوط اعتاد الشهرة، ووجد في دريد لحام - الممثل الكوميدي - أفضل شريك لكي يحافظ على حضوره العلني بالمعنى الجماهيري عن طريق المسرح الشعبي بخلطة من التوابل السياسية والحقن المهدّئة.
من يقرأ اليوم (العصفور الأحدب) أو (المهرّج) سيباغت بذلك المزاج الحاد الذي وسم مسرحياته، وسيفتقد في المقابل في مسرحياته المشتركة مع دريد لحام ذلك البريق، أو تلك المقولات الغاضبة التي كانت شخوصه تنطق بها بين تلك الجدران العفنة، وذلك بذهابه نحو المفارقة والنكتة السياسية وحسب.
لنعد إلى الخريطة الشعرية التي أنجبت تجربة الماغوط، ورسمت حدود مملكته المستقلة، فهو نصبَ راياته، وأعلن نشيده الوطني الخاص دون أن يخوض معركة واحدة. قاد انقلاباً أبيض، من دون إيقاع أو أوزان، كما أنه لم يتكئ على الأسطورة كما فعل السياب، ولم يوغل بالأفكار مثل أدونيس، ولم يقرأ الشعر الفرنسي كي يلتحق بتجارب شوقي أبي شقرا وأنسي الحاج وتوفيق صايغ. كما أنه أدار ظهره للتراث، ليراهن على أتون التجربة الفردية وحسب. الفرد الأعزل والهامشي والصعلوك الخارج من جحيم القاع. هكذا حصد اعتراف الجميع، وراح ينسج بنولٍ خشن أوجاعه وآلامه ومكابداته بأقصى حالات التكثيف الشعري، لتحتل الصورة المدهشة واجهة القصيدة، فالماغوط مبتكر صورة في الدرجة الأولى، صورة تنهض على المفارقة وتمتحن مفردات الحرية ببسالة. هكذا يتحوّل العالم إلى سجن وقفص وجدار كتيم للصراخ والشكوى، وعلى رغم رومانسية الماغوط إلا أنه أطاحها بخشونة ليتمرّد على كل ما هو مستقر، ويرفع راية الحزن الأبدي، حزن البدوي الذي غادر الصحراء المفتوحة، ووجد نفسه في قفص.
قصيدة الماغوط في مرآة أخرى، هي حداء صحراوي مثقل بالألم، وغنائية شجية تمتح من مفردات الحياة اليومية إيقاعها ومجازها، وإذا بها تتجاوز ما هو مألوف نحو معجم مبتكر بأبجدية جديدة تذهب بالمعنى إلى تخوم أخرى، وحساسية تقترب من جماليات نثر الواقع، حساسية تجد في التشبيه بنية أساسية للمفارقة. هكذا تصبح (كاف التشبيه) جوهر كيمياء الشعرية لديه على خلفية من غضب أبدي، لا تنظمه أيديولوجيا سوى فردانيته وضجره كشاعر أرصفة ومقاهٍ، شاعر متشرّد محبط لا يراهن على الأحلام في ظل عسف جماعي طال كل ما يحيط به.. (شعر واقعي لا يحلّيه الأمل، ولا يبهره اليأس) حسبما تقول عنه خالدة سعيد.
في المآل الأخير، فإن الماغوط صنع عالمه من اللغة، وبنى سُلّماً من الغبار، ورمى سفينته في بحرٍ من الحبر، ثم راح يصارع أمواج المجاز، فالعالم الذي أسس له، ونادى به، كان من المستحيل أن يتحقق إلا على أرض اللغة وحدها. هكذا أنشأ مدناً هامشية بديلة، وأدار ظهره للمركز، وانتعل الأرصفة ولهاث القاع، وأعلن هزيمة الأمة: (اهربي أيتها الغيوم، فأرصفة الوطن، لم تعد جديرة حتى بالوحل)، ويكمل انكساره الصريح حين يهتف: (حسناً أيها العصر لقد هزمتني، ولكني لا أجد في كل هذا الشرق مكاناً مرتفعاً أنصب عليه راية استسلامي).
لكن هذه العلاقة الملتبسة مع العالم ستبقى محض مجاز شعري تبنيه اللغة وتحطّمه اللغة أيضاً. عالم افتراضي لرجل بدائي وجد نفسه في ورطة الحداثة وتعقيدات العصر، فلم يتمكن من العودة إلى البراءة الأولى أو المجازفة والانخراط في قيم مدينية لا تمثل أية قداسة بالنسبة إليه، وهو ما جعل نصه على وجه العموم، خارج التصنيف والتجنيس، وما اللجوء إلى اللغة الطليقة إلا استغاثة متأخرة لاستعادة البراري المفقودة والمنتهكة، وكانت البدائل الإيقاعية للتعبير عن مأساته الشخصية هي شحن اللغة وتكثيف الصورة، وقبل ذلك كله الالتفات إلى الإيقاع الداخلي، فالماغوط، في المآل الأخير، شاعر غنائي بصرف النظر عن شروط الغنائية التقليدية، وتالياً، فإن انخراطه في ترميم عطب قصيدة النثر جاء تلقائياً، وليس عن دراية نقدية، فهو يعلم أن للقصيدة شروطها، وفي مقدمة هذه الشروط الإيقاع.
ولعل ما يدهش حقاً لدى فحص واختبار كيمياء شعر الماغوط، أنه ليس تصاعدياً، بمعنى أن شعره بقي في مستوى واحد، فهو ظل على الدوام بنبرة عالية ولغة مدهشة منذ قصائده الأولى إلى قصائده الأخيرة. قصيدة بلا مطبات. جامحة وغاضبة ومتمردة، ليس من هضاب أو أودية. براكين وحمم وحسب، سواء لجهة المعنى، أم لجهة الجسارة البلاغية، وحين أحس أن سفينته وصلت إلى الضفة الأخرى من دون خسائر أو أشرعة ممزقة، تمدد على الشاطئ، وذهب في غيبوبة طويلة، مطمئناً إلى أنه وصل إلى مبتغاه.
هكذا استبدل صمته الشعري المبكر بكتابة مقالات غاضبة بقيت في الذاكرة إلى اليوم رغم مقاصدها الآنية، فهو واحد من قلائل يمسكون بتلابيب القارئ إلى آخر نقطة في السطر، ليضعه في الزاوية الحرجة كي يتفرج على ذاته من دون أقنعة، ذاته المسلوبة والمستلَبة لأنظمة قمعية أفقدته القدرة على مواجهة مآسيه اليومية والتاريخية، وإذا به أقرب ما يكون إلى كائن هجين في قفص من زجاج.
الحرية
الحرية إذاً، هي المفتاح السحري الذي طالما بحث عنه الماغوط في عتمة الليل العربي لفتح كوة بسيطة نحو الضوء.
لقد نضب شعر الماغوط ولم يكتف من التطلع إلى الحرية من دون أن يروي ظمأه إليها، ثم أكمل مسيرته في كتاباته الأخرى، وتنضاف إلى الحرية عناصر أخرى أساسية في تجربته، في مقدمتها الخوف والفزع في ثنائية العصفور والقفص. من هنا جاء نصه حاراً ومحرقاً. يقول في تفسير تمرده وغضبه الدائمين: (عندي هموم تفور من قمة رأسي كالبركان. كنت غريقاً ولم يكن لدي وقت لاختيار أو انتقاء صنف وطول ومنبت الخشبة التي ستنقذني. كنت أكتب فقط لأنجو).
هكذا يضع الماغوط العالم في جهتين متقابلتين في حربٍ خاسرة: (نحن)، و(هُم)، في ثنائية تكشف حجم المفارقة وطول المسافة بين الواقع المظلم والحلم المستحيل. كل ذلك من دون أن تستند نصوص هذا الشاعر الاستثنائي إلى شعارات كبيرة، بل كان مهموماً بما يحتاجه الكائن العادي في حياته اليومية، وتمكّن من انتزاع شرعية للقضايا الصغيرة الخاسرة، حيث (يغدو الرغيف بصلابة الخنجر).
ولكن لماذا صمد الماغوط إلى اليوم؟
لعل السبب الجوهري يكمن أولاً في موهبته الفذة في بناء علاقات لغوية وشعرية من طراز خاص، بالإضافة إلى تلك البساطة المذهلة في مفرداته، البساطة التي ألغت المسافة والمهابة بين الشاعر والمتلقي. في شعر الماغوط لن تجد مفردة واحدة ليست محسوسة أو غريبة مما يبحث عنه الآخرون في القواميس المحنّطة، وقد استبدل الجزالة التقليدية في الشعر العربي بالجملة أو الصورة المتوترة والساخنة كرغيف اُخرج للتو من التنور. هكذا دخل غابة الشعر بكل وحشية، وبفأسٍ حادة أخذ يحطّم الأشجار العالية، ليعيد إلى القصيدة حسيتها، وللأشياء ملمسها الخشن، وللحنجرة صراخها التاريخي ضد الظلم والاستبداد، فهذا الحطّاب اللغوي، لم يكتف ببضعة أغصان يابسة لإشعال موقده، بل أراد إحراق الغابة كلها غير آبه باحتجاجات فقهاء البلاغة وأصحاب المساطر الدقيقة في توصيف الشعر.
وفي الوقت الذي كانت فيه القصيدة الحداثية ترفل بالألفاظ الغريبة والأساطير، كان الماغوط يختبر أسطرة اليومي عبر أنا الفرد المهزوم والمحطّم والمهمش، فإذا به يصير في المتن، يصرخ بأعلى صوته مطالباً بالأوكسجين الذي افتقده عبر كل تاريخه الطويل من الحرمان، وبأقصى حالات القسوة. شاعر دخل إلى ديوان العرب بأصابع ملوّثة بالحبر، ومعطف مثقل بالأحزان، من دون بزة رسمية وربطة عنق، ما جعل الرسميين يتململون في مقاعدهم وهو يحطّم أصابع البيانو، ويستبدلها بعويل القصب ورائحة البراري.
نعم، لقد كانت قصيدة محمد الماغوط غيمة ماطرة في سماء الشعر العربي، وقد صارت شجرة مثقلة بالثمار ذات النكهة الفريدة واللاذعة، قبل أن يهزّها الماغوط نفسه في خريف تجربته ويعريها من ألقها القديم، ويصرف فاتورة الأرباح بنصوص لم ترقَ إلى ما كان أنجزه من قبل، بقصد التعويض عن خسائره الأخيرة!
خليل صويلح
معطف الماغوط الشهير
متكئ على جذع أغنية يتردد صداها في هدأة أعماقه «ممالك الغرقى» تمسح بمنديل حروفها غبار الكرى المتراكم فوق قلبه «رابية الحسرة» ينصت محمد الماغوط إلى كأس نبيذ تقصّ عليه دمعه كيما تشاطره العزاء؛ بينما زفرته الطويلة التي صارت أنشودة تسترجع صدى أطياف أحباء تكاثروا في نعاسه العاري، قبل أن يصحو من أثر جمر التبغ المتدلي من شفتيه، حين لا حياة لليد التي لوّحت للحياة، كما لوحت للتعب؛ اليد التي رسمت للعذارى حفيف صحوة الرمان، تحت وطأة الساتان الموشى بذهب أغانيه «وراء كل نافذة شاعر يبكي وفتاة ترتعش.. قلبي يا حبيبة فراشة كئيبة تحوم حول نهديك الصغيرين». إذ لم يكن يدري ذلك الفتى العائد من ثانوية «خرابو الزراعية» في غوطة دمشق إلى مدينته السلمية، بعد أن أحرجته رسالة والده الفلاح الفقير إلى مدرسته ليرأفوا بابنه. لم يكن يدري أن تلك الرسالة ستغير حياته إلى الأبد، عندها انتسب الفتى إلى الحزب القومي السوري دون أي معرفة منه بمبادئه، إلا أن مقر الحزب «فيه مدفأة» هي غايته الحقيقية في الانتساب إليه، كما كانت السبب أيضاً في دخوله المعتقل السياسي بطريقة ما بعد مقتل العقيد عدنان المالكي واتهام أعضاء الحزب القومي السوري باغتياله، وملاحقة أعضائه وزجهم في السجن، ومن بينهم كان صاحب «العصفور الأحدب». ولأن للحياة مصادفاتها الغريبة، تعرف الماغوط إلى الشاعر السوري أدونيس المعتقل السياسي أيضاً في سجن المزة العسكري، لتبدأ بين الكبيرين سجالات ونقاشات مطولة حول الشعر، أعطت الماغوط أفقاً آخر لتجربته الشعرية التي بدأها قبل ذلك التاريخ بوقت قريب، عندما نشر قصيدته الشهيرة «غادة يافا» في مجلة الآداب البيروتية، فاستطاع صاحب «كاسك يا وطن» الهروب إلى بيروت، واللقاء هناك بالشاعر يوسف الخال، لينضم بعدها إلى رواد «خميس الشعر» الاحتفاء الشعري الذي كان يقيمه الشاعر الخال في بيته بحضور عدد من رواد قصيدة النثر، ومن بينهم أدونيس وأنسي الحاج، وعبد المعطي حجازي، وطبعاً الماغوط؛ الشاعر الأكثر جدلاً وإثارةً رغم قلة اكتراثه بالجدية التي كان الخال يتعاطى بها مع «خميس شعره» لتصدر بعد العديد من تلك الجلسات المجلة الشهيرة المختصة بالشعر باسم «مجلة شعر».
حزن في ضوء القمر
أدار صاحب «حزن في ضوء القمر» ظهره إلى كل تلك المهاترات «الفاضية» كما كان يسميها، مؤثراً أن ينحت الكلام من الهواء والماء والطيور والأشجار والنساء والخمر بأسلوب شعري فريد ومتميز، إن كان بالسرد اللغوي الذي جاء عنده عفوياً وتلقائياً، بعيداً عن التصنع والثرثرة الفائضة عن الحاجة؛ أو بطريقته المدهشة بإنزال الشعر من مراميه الفلسفية وأبعاده الماورائية وجدله البيزنطي إلى حرارة الحياة اليومية بكل تفاصيلها، بألفتها وقسوتها، بفرحها وحزنها، بضجرها ودهشتها؛ لتأتي مجموعته الشعرية الأولى «حزن في ضوء القمر» تتويجاً للحالة الشعرية العالية التي كان يحياها بعيداً عن صخب الكلمات الطنانة، ولتصبح حديث مجلة شعر والعديد من الدوريات الثقافية والفكرية التي أرعبها ذهولها ووقوعها في غرام هذا الكلام البسيط والمدهش في آن. فلقد أحدثت تلك المجموعة الشعرية الرائعة لشاب مغمور نقلة نوعية في طريقة التفكير بالشعر، وكانت بمثابة ضربة جناح قوية لطائر في فضائه؛ وذلك بما تضمنته من قصائد امتازت بكثافة الصور الشعرية الرشيقة والمتلاحقة، كما لو أنها فيلم سينمائي يسرد شعراً بالصورة المرئية، ومن أجمل قصائد هذه المجموعة الشعرية قصيدة «القتيل» التي يقول فيها: «كانوا يكدحون طوال الليل، المومسات وذوو الأحذية المدببة، يعطرون شعورهم، ينتظرون القطار العائد من الحرب، قطار هائل وطويل كنهر من الزنوج، يئن في أحشاء الصقيع المتراكم على جثث القياصرة والموسيقيين».
لم تكن القصيدة بالنسبة إلى صاحب «غرفة بملايين الجدران» تصدر عن وعي مباشر وإدراك حسي واعٍ، بقدر ما كانت تنبع من أعماق نهر يتفجر في داخله، تنبعث منه الكلمات والصور من رقادها في أعماقه، لتصير كائنات من لحم ودم على الورق، بتلات ورود حقيقية وخصور نساء تلمسها عيناك وأنت تقشر لحظة قراءتها كبرتقالة يسطو على عبقها الندم، ونادراً ما كان الماغوط يعيد صياغة قصيدته بعد أن يكتبها لأول مرة؛ لأنها تولد من رحم خياله مكتملة النمو وناضجة، تاركاً للبرية التي سقت نظراته بمدى لا ينتهي أن تجتاحه، أن تتموضع فوق الورق كما يريد أو كما تريد لا فرق، ما دام يكتبها وتكتبه؛ يحضنها وتحضنه.
يقول هذا النبي الجديد في قصيدة «أغنية لباب توما»: «أشتهي أن أكون صفصافة قرب الكنيسة أو صليباً من الذهب على صدر عذراء؛ تقلي السمك لحبيبها العائد من المقهى، وفي عينيها الجميلتين ترفرف حمامتان من بنفسج». رغم كثرة النقد اللاذع الذي تناول القصيدة الماغوطية واتهامها بأنها تقوم على الصور المسطحة التي لا عمق فيها، وبأنها تفتقر إلى الحركة الداخلية، وأن شعره بحاجة إلى روافد جديدة من المفردات المبتكرة والصور الجديدة، إلا أن قصيدته استطاعت أن تكون القصيدة الأكثر وصولاً إلى قلوب الناس، إن كانوا من البسطاء العاديين أو من المثقفين النخبويين الذين وجدوا في الماغوط الشاعر الفرنسي «رامبو»، بصوفيته العميقة وسرياليته المتجددة والقوة الإيحائية المنبعثة من الطاقة الهائلة التي تولدها مفردات قصيدته من علائقها المتشابكة، وهي بكامل انفصالها، كما أن الشاعر السوري منذر مصري اعتبر في مقالة له «أن كل الشعراء السوريين الذين جاؤوا بعد الماغوط خرجوا من معطفه» حتى صار معطف الماغوط أشهر من معطف غوغول! طبعاً هناك من اعتبر أن القصيدة الماغوطية هي لعنة الشعراء السوريين الذين لم يستطيعوا الخروج من سطوة شعره على نصهم وخصوصاً جيل الثمانينيات والتسعينيات. ومن تابع الحركة الشعرية في تلك المرحلة، فسيجد إلى أي درجة كانت النصوص الشعرية للعديد من الشعراء تتكئ في نسيجها الداخلي على المنهج الشعري الفريد والخاص بصاحب «الفرح ليس مهنتي».
المسرح
لعب محمد الماغوط بعد عودته إلى دمشق دوراً كبيراً وفعّالا في تظهير المشهد الثقافي السوري بمنطق ومظهر جديدين مفارقين للسائد بكل تشعباته، إن كان في الشعر أو المسرح أو الدراما؛ فكما كان طائراً برياً في الشعر، هكذا كان شأنه في المسرح، عندما عمل على تأليف عدد من النصوص المسرحية، عمد فيها إلى تكسير كل القوالب المسرحية الجاهزة برتابتها وضجرها ولغتها الخشبية، تلك النصوص التي أعادت للمسرح ألقه وجمهوره وجعلته فن الشعب، بملامسته الحقيقية لهموم الناس وأوجاعهم بطريقة متهكمة وساخرة ومؤلمة حد الحزن في طرحه لمواضيع لا تابوهات فيها من الديني والسياسي والجنسي، مؤمناً بحقيقة أنه لا يوجد جمهور رديء، بل يوجد فن جيد وفن رديء والفن الجيد هو الذي يعكس نبض الشارع، ويرفع صوت صرخته عالياً، ولكم كان لتعاونه مع دريد لحام كبير الأثر في إعادة الحياة إلى «مسرح نقابة العمال» في العديد من الأعمال المسرحية التي ما زالت حتى اليوم تتركنا مشدوهي الأبصار ونحن نتابع كيف يستطيع المبدع الحقيقي أن يستشف المستقبل؛ ويحذر من التشوهات الاجتماعية التي بدأت تضرب الأرضية الصلبة لسورية الجريحة اليوم، بعد أن حذر من أن تلك الأخطاء والمحسوبيات وفساد المسؤولين، ستحدث زلزالاً في المستقبل. وها نحن الآن نقف على ألواح الجليد المتكسرة التي تتلاطمها مياه الغدر من كل جهة. فمن أهم أعماله المسرحية «كاسك يا وطن، غربة، ضيعة تشرين، خارج السرب.. وغيرها». ومن الأعمال التلفزيونية «حكايا الليل، وين الغلط، وادي المسك»، كما أسهم محمد الماغوط بقامته الشعرية العالية في تحديد هوية وطبيعة وتوجه «جريدة تشرين» مع رفيقه الأديب زكريا تامر عند نشأتها وصدورها في منتصف السبعينيات. بعد أن فقد الفرح ولم يعد مهنته، صار الحزن الصديق والخل الحقيقي لمحمد الماغوط الشاعر والإنسان والرجل والزوج والأب... الحزن الذي لوّن حياته وصاغ الكثير من إبداعه الشعري والأدبي، عندما بدأ يفقد أحبته تباعاً، ليرحل والده الطيب أولاً، ثم أخته الوحيدة ليلى، وبعدها رفيقة عمره وحبيبته الوحيدة الشاعرة سنية صالح، التي كان يقبّل قدميها وهي على فراش الموت، تقول له: أنت أنبل رجل في العالم. صار الحزن والتبغ والنبيذ سُمّاره بعد أن قرر أنه سيخون وطنه بشرف شفاف وصدق لم تحتمله روحه النبيلة، ليؤلف كتابه الأشهر «سأخون وطني».
تمام علي بركات
الأرجوحة «لغز الاسم الصغير»
يائس من الحب والحريّة والمستقبل! خائف من الإرهاب، محاط بالرعب والضجر! ذلك هو الماغوط كما يُصرّح في آخر حواراته(1)، وتلك هي هواجسه التي تؤرق صباحات دمشق، وتُسدل الستائر المُعتمة على شرفات ياسمينها. إنها الهواجس ذاتها التي تُفصح عنها أيضاً روايته اليتيمة: (الأرجوحة/1991)(2) عبر شخصيّة بطلها المحوري (فهد) الذي يبدو قناعا للماغوط نفسه؛ فيحيل عليه في أبرز محطّات حياته التي تُعنون بالتشرّد والكتابة والسجن والفقد والوِحدة. لم يقتفِ الماغوط الأثر في شعره، ولم يكتب بحبر الآخرين، أو ينسَق لمرجعيات تراثية أو غربيّة في إطار قراءاته ومخزونه، بل بدا طفلاً في عفويته وفطريته وحسيّته ولحظة دهشته بالعالم وتصادمه معه وغضبه منه وتمرّده عليه؛ طفلاً لا يحاكي ما حوله بقدر ما يصرخ فيه ويُعمل معوله في هدمه، ويحاول إعادة خلقه من جديد بمخيّلته الساحرة، ومجازاته الكثيفة بمعجمها الحسّي البعيد عن الترميز الملغز والادعاء الأيديولوجي أو الرؤيوي أو الصوفي. وعلى هذا المنوال يمضي في روايته (الأرجوحة) هادماً الحواجز بين الأنواع الأدبية، غير ممتثل لقواعد أو أنماط أو ترسيمات لهذا الجنس الأدبي؛ سواء في نماذجه الكلاسيكية أم الحداثية وما بعدها. إنه لا يشبه إلا نفسه، ومن هنا تبدو أي قراءة لروايته مجازفة ما لم تتحرّر من إطار التقعيدات والعناصر السرديّة القارّة في الخطاب النقدي. ليس ثمة حبكة أو عقدة أو خطّ بياني لمسارات الأحداث والشخصيّات وصراعاتها وتحولاتها الدرامية بالمعنى المعهود، كما ليس لها بداية أو نهاية، وكأنما الرواية مقطع من نهر الحياة يحيل تخييلياً إلى ما كان عليه النهر من قبل وما سيؤول عليه من بعد! ومن هنا جاء الاستهلال بضمير المُخاطَب ملتبساً إذ زجّ بالمتلقيّ في مناخ شاعري لا سردي، مناخ يستدعي حالة وجدانية لا حدثا روائيا: (( أيها الأسم الصغير كتابوت طفل! يا من لصقتك على الجدران وثياب المسافرين. ورافقتك على دراجتي حتى النافذة الأخيرة من الوطن، دون رياح أو أزهار، مُخلِّفا الشيخوخة بين شمس الأصيل وحديد المزلاج).
التخييل والسيرة
سيغدو الاسم الصغير كتابوت طفل بدءاً من هذا الاستهلال لغزاً لدى المتلقّي، فهل هو اسم لمسقط الرأس؟ أم لسوريا؟ أم للأم، أو للحبيبة، أو لكل هؤلاء؟ وستدل القرائن المتعدّدة أنه اسم لـ(غيمة) حبيبة (فهد) ومعادل للأرجوحة التي بها يرتفع وبها يهوي. ولمّا كان فهد قناعاً روائياً تخييلياً سيريّاً للماغوط فإن (غيمة) لا تعدو أن تكون هنا قناعاً لرفيقة عمره الشاعرة سنيّة صالح وما يعزّز هذا الاستنتاج تشابه الشخصيتين في الواقع وفي الرواية من حيث اهتمامهما بالشعر وتجاوزهما للمألوف. وهذه الإحالات السيريّة ما بين الرواية والواقع لا تعني على الإطلاق المطابقة بينهما، إذا تبقى الرواية عالما تخييليّاً في المقام الأول على الرغم من الإحالات الدلالية التي تربطها بمرجعيتها الواقعية على نحوٍ ما. عدا الاستهلال تهيمن صيغة الراوي الغائب كليّ المعرفة على البرنامج السرديّ برمّته، ومع أن هذه الصيغة العريقة في السرد تتيح إمكانات معرفة الراوي لشخصياته أكثر من معرفتها لنفسها؛ إلا انها تبدو صيغة حيادية تموضع السرد في سياق موضوعي لا ذاتي. وربما لو استخدم المؤلف صيغة الراوي المتكلم لكانت أكثر إيهاما بالسيريّة أو برواية السيرة. ومع ذلك لم تنجُ هذه الصيغة من اقتحام صوت المؤلف الحقيقي (الماغوط) لبنيتها، فبدا السرد من مبتداه إلى منتهاه صوتا شاعريّاً واحداً مهيمناً على مختلف الشخصيّات من دون بروز فروق واضحة في المنطوق بين شخصيّة وأخرى إلا في حدود ضيّقة تُلمح في بعض المشاهد الحواريّة. وإذا احتكمنا إلى ترسيمات الجنس الروائي فإن (الأرجوحة) تبدو نصّاً أحاديّ الصوت أو معزوفة فردية في الوقت الذي تكون فيه الرواية نصّاً متعدّد الأصوات أو (أوركسترالياً). يتوزّع الفضاء المكاني ما بين دمشق وقرية (فهد) البعيدة نحو ثلاثمئة كيلومتر عن دمشق، و يبدو من خلال وصفها أنها (السلمية): (أما القرية التي تنشق فيها فهد أولى نسمات الحياة أو ما أشبه ذلك كما كان يردد في البارات فتتكون من الغيوم والأبقار والرياح. أما الكروم فكانت حوافرها الخضراء التي تتلقّى عنها لسعات السياط الندية كل شيء فيها رطب وحي ويكفي أن تنكش بظفرك حتى ينبثق الماء. الحوانيت والكروم، يصطدم بها الرائح والغادي، فإن موتاها كانوا يبدون كأنهم يشاركون في حياة ذويهم، يؤازرونهم في الزرع والحصاد، ولذلك كانت هذه القبور أشبه بخزائن ترابية بالنسبة إلى الأطفال، ففي جوانبها يخبئون دخلهم ومسروقاتهم. وعلى حوافها تجلس الأمهات، ينقين العدس، ويفلين الجدائل الطويلة بأمشاط مصنوعة من عظام الخيول)). وبقدر ما تبدو (السلمية) فضاء مفتوحاً وأليفاً وبسيطاً فإن دمشق تضم فضاءات عدة متباينة ما بين مفتوحة: الشوارع والحدائق، ومغلقة: السجن، المطبعة. وتبدو أكثر تعقيداً من فضاء القرية، وهو ما ينعكس على سلوك كل من (فهد) و(غيمة) بشكل خاص. يعود زمن المتن الروائي في (الأرجوحة) إلى الخمسينيات، زمن الانقلابات والصراعات السياسيّة، الذي تُوّج بالوحدة السورية المصرية، وهو زمن تحولات كبرى، شهد انهيار قوى وصعود قوى جديدة، كما شهد اعتقالات واسعة كان بعضها على الشبهة وحدها! ومنها اعتقال (فهد) الريفي القادم إلى دمشق، بتهمة تصنيع آلة صغيرة لم تكن في الحقيقة سوى لعبة لابنة الجارة! لكن واقع الحال يشير إلى تلفيق تلك التهمة بوشاية من الجارة الشقراء أُمِّ الطفلة نفسها للإيقاع بفهد الصحافي الذي لا يسكت عن قول الحقيقة. وفي السجن تتكشّف آليات القمع والتنكيل الوحشية بالسجناء، حيث تُنتهك كرامة الإنسان، وتمسخ آدميته، وتحوّله إلى حشرة تدوسها الأقدام بلا رحمة! في السجن لا يعاني السجين وحده بل كل محبيه، فأمُّ فهد تواجه الويلات لرؤية ابنها من دون جدوى؛ فتعود خائبة إلى بلدتها البعيدة عن دمشق. و(غيمة) حبيبة فهد ﻻ تستسلم للصعوبات فتواصل البحث عن فهد مستنجدة بمعارفها حيناً وبالمنجّمة (نظمية) حيناً آخر حتى تتمكن من معرفة مكانه وإيصال الطعام والكتب والصحف إليه إلى حين إطلاق سراحه. أمّا (أبو سليم) القروي الذي زجوّا به في السجن في الوقت الذي كان يستعد فيه للحصاد بتهمة (شتم الشعب) بعد أن سبقه ابنه بالتهمة نفسها فإنه نموذج فريد للسجين الضحيّة الذي يُذل ويُهان أمام الملأ فيشتهي الموت لكنه لا يأتي! في هذا العالم الكابوسي الذي نتعرف فيه أيضا إلى السجين (دبّاح) المستنسر على زملائه تبرز نبرة الماغوط الساخرة السوداء التي لا تُُضحك بقدر ما تُبكي وتُدمي القلب. فالسجن ليس مجرّد فضاء معادٍ مغلق، إنه تكثيف لأقسى صور التعذيب الجسدي والنفسي، حيث النجوم أقرب إلى السجين من السيجارة، والقوي يبتزّ الضعيف، والسجّان كثيرا ما ينسى أنه إنسان: يذكر الآن وهو يترنح في باحة السجن بانتظار تفتيش ثيابه انه لم يُضرَب في الوكر الذي أعلن فيه استسلامه، ولم يُصفع كما كان يتوقع بل إنهم استقبلوه دون دهشة ...... حتى أن الرئيس الذي فتح له باب الزنزانة قال له رأساً: (لا توجد أغطية كما لا يوجد طعام، ولكن إذا شعرت بالجوع فكلْ قطعة من حذائك).. لم يكن رصد عالم السجن إلا رصداً لعالم الواقع الموّار بالتناقضات أيضا؛ فالناس تواقون إلى الحرية والأمن والسلام؛ سواء أكانوا في السجن أم خارج أسواره؛ ومن هنا جاءت رواية (الأرجوحة) صرخة عذاب واحتجاج ماغوطية داعية إلى تأمل حياة الناس وتقديمها عبر الأعمال الإبداعية كي يروا أنفسهم من خلاله: «يجب أن يرى الشعب الفرح والألم والحرية كما يرى الباص والهاتف والمئذنة. أما الجراح والإهانات الدفينة في الأعماق فإبرازها يحتاج إلى المهارة والصبر»
1 ـ محمد الماغوط ـ اغتصاب كان وأخواتها، حوارات حرّرها: خليل صويلح، دار رفوف، دمشق، 2103م.
2 ـ الأرجوحة ـ محمد الماغوط، دار الريّس، لندن، قبرص، 1991م.
نذير جعفر
في قبضة الشاعر
رغم أن كاف التشبيه حاضرة بقوّة في الشعرية العربية منذ نشأتها، وليس ثمّة شاعر منذ الأوان الجاهلي إلى يومنا هذا إلّا ووظّفها: (تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد. وليل كموج البحر. لمعت كبارق ثغركِ المتبسم). غير أن ما يميّزها عند الماغوط هو الكثافة العالية، فهي كثيراً ما تأتي كصفعة شعورية ترتكز على الصورة الشعرية في علاقاتها مع الصورة البصريّة، والتي تغدو من خلال هذا الحرف الرشيق مخيالاً متكاملاً يستند إلى خزّان الصور البصرية الذي في الذاكرة. وهو خزان أحسن محمد الماغوط التعامل معه برموز تخصّ أبناء الثقافة العربية؛ سواء كانت هذه الرموز متأتية من الفصحى، أو من دلالات اللهجات المحليّة والثقافة الشعبية. وهي إذا كانت تُستعمل عادةً للتوضيح والشرح، فإنّها في نصوص «البدوي الأحمر» تصير قيمة شعرية؛ وضرباً من الفن اللغوي القائم بذاته. وكثيراً ما تنجح في أخذ شكل البديهة والحدس، بعد أن يختار بمهارة مذهلة بين المشبّه والمشبّه به، فلا نعود نعلم من منهما العنصر الرئيس المراد توضيحه في عملية التشبيه، فيقبض على ذائقة القارئ وينجح باستدراجها منذ اللحظة الأولى.
كاف التشبيه
لنلق نظرة على هذه المقاطع المنتقاة من مجموعة أعمال متنوّعة للشاعر المجيد محمد الماغوط، ولندقق كيف استعمل كاف التشبيه في نصوصه: (وأنا أقف أمامك كالصنم ودموعي مستقيمة كالأزرار / صرتُ أتلاعب بوجهي كالعجين؛ أبزغُ كالوحش في كل مكان، أصرخُ وأصرخُ حتى صار عنقي نحيلاً كسلك / هل رأيتما نهديها؟ نعم لقد كانا كطفلين محروقين / وأن عدالتكم تختفي وتبرز كمخالب القط ساعة تشاء / سيأكلنا البحر، سنمرّ من بين أسنانه كالأسماك الصغيرة/ أيها الشعر الأليف كسعال أبي / إنه رعب يتفجّر كحبّة الكستناء في كل لحظة/ أيها الصوت العميق كالذكريات كحفر القنابل / آه لو يتم تبادل الأوطان كالراقصات في الملاهي). والآن: لننتبه إلى واو العطف (يا ناكر الخبز والملح والسياط / هدير الشاحنات المعبأة حتى حوافها بالمؤن وبكرات المصاعد / أمام أفواه الأسرى والخراف المسلوبة من أقاصي الدنيا / ألست مثقفاً كهؤلاء الذين يحملون أكفانهم بيد وأمشاطهم باليد الأُخرى / إننا ننكر شكوكنا منك ومن عينيك المليئتين بالدمع والأسنان / ببعض الشعر والأفلام الوثائقية والصور الفوتوغرافية واللوحات المائية وبعض الموسيقى الحالمة تفاهمت مع الأفق والوحل ورياح السموم).
هاتان الأداتان المبهرتان لازمتا شعر الماغوط ولم تفارقانه، فكانت طريقة استعماله لهما من عوامل تفرّده وأصالته. بالطبع، لا سبيل للبحث في كامل حقيبة معداته العجائبية، هذا إذا افترضنا جدلاً، أن ذلك ممكن، غير أنّ هذين المفتاحين يُمكن أن يكونا مثالاً عن توظيف الماغوط للغة نحوياً لمصلحة الصورة الشعريّة بعد إعادة تعريفها، وذلك من حيث طريقة الاستخدام والدلالة؛ فعندما يقول على سبيل المثال: (أمام قباب الجوامع والكنائس اللامعة والمنتفخة كالحروق الجلدية) نشعر أن كاف التشبيه هنا سقطت كالبديهة في مكانها، وُلدت من تلقاء نفسها كالقدر، في مكانها الطبيعي الذي كان جاهزاً لها بل وينتظرها، حتّى أنّ القارئ قد يأخذ يلوم نفسه كيف لم تخطر بباله من قبل، فالكاف ظهرت رشيقة خفيفة لدرجة أنّه يُمكن الاستغناء عنها؛ أي يكفي أن يوضع المشبّه والمشبّه به الواحد منهما تلو الآخر حتى تلمع في الذهن العلاقة البصرية المذهلة بينهما كأن نقول: «قباب الجوامع والكنائس، الحروق الجلديّة» لذلك يُمكن استبدال الكاف بأدوات وصل لغوية مغايرة، فالعلاقة بينهما أقوى من هذه الكاف بكثير.
الصورة
إن استخدام هذه الأداة بهذه المهارة جعل الصورة البصرية الشعريّة متفوّقة على الصورة البصريّة الفوتوغرافية أو السينمائية، فالصورة السينمائية تفترض التتابع، أي يجب أن يأتي الموضوعان أحدهما تلو الآخر، أمّا في الصورة الشعريّة المصمّمة على طريقة الماغوط فإن الموضوعين يمثلان في وقت واحد معاً، يندمجان في وحدة لغويّة إدراكيّة دون أن يلغي أحدهما الآخر، وإنّما يعزز كلّ منهما الآخر ويؤكد عليه.
ومن حسن الحظ أن الماغوط كتب للسينما وللمسرح، ما يُتيح لنا اقتفاء هذه النقطة ومعرفة كيف تتجلّى، ليس بالمعنى اللغوي وإنما بالمعنيين المجازي الدلالي؛ والرمزي البصري، ففي فيلم «الحدود» تقوم الشخصيّة الرئيسة العالقة بين حدود الدولتين، ببناء بيت من قطع السيارة بعد تفكيكها، فالبيت هنا أصبح «ك» السيّارة، وذلك في رمزيّة بصريّة، وباب البيت هو باب السيارة، وجرس البيت هو بوق السيارة، ونافذة البيت هي نافذة السيارة في تعبير عن التشرّد، عن ذلك المواطن العربي الذي يقضي عمره مشتتاً بين الحدود في بيت كالسيارة، فالذي ظهر هنا هو معنى التشبيه من دون الأداة اللغوية، مع أن اندماج البيت والسيارة في وحدة مادية واقعية يقترب كثيراً في الواقع من آلية عمل كاف التشبيه في اللغة، فالطرفان ماثلان معاً. ويظهر كذلك معنى هذه الأداة الشعرية في مسرحيّة «كاسك يا وطن» خلال عدد من المشاهد، منها ما تقوم به الشخصيّة الرئيسة عندما يدعو زوجته إلى تناول وجبة ساخنة، فتكتشف أنّها مجموعة من الصحف وقد شرع الزوج بتناولها كطعام، فأخبار الصحف باتت كوجبة يومية يتناولها الإنسان صباحاً ومساء. أي أن المشهدين السابقين، السينمائي والمسرحي، صُنعا من المادة الأوليّة الإبداعية نفسها؛ والتي يُدرك بها الشاعر الشبه والتماثل بين الأشياء، فيعيد ترتيب العلاقات في ما بينها. وهذا لا يخرج عن دور الشعر عموماً في تعبيد الطريق للفلسفة أوّلاً، وثانياً في ضبط اتجاه ومزاج الفنون الأخرى جميعها، واقتراح موضوعاتها، مهما تعددت واختلفت.
واو العطف
وأمّا واو العطف، فإنّ وظيفتها عند الماغوط تشبه وظيفة فن المونتاج في السينما، فهي لم تعد تعطف بين شيئين مختلفين وتجمع بينهما في معرض الكلام، أو بين عام وخاص في سياق جملة عابرة، وتوقّفت عن كونها أداة تجميع ورباط لحزمة مسمّيات حدث وإن وردت في جملة ما، كما في قول المتنبي (والسيف والرمح والقرطاس والقلم). بل أصبحت عند شاعرنا أداة لوضع شيئين، عنصرين، مفهومين متباعدين ومفارقين، جنباً إلى جنب، لتوطيد علاقة بين ما يبدو متنافراً، بين هادئ؛ وبين صاخب، بين عادي مألوف عفوي في حضوره، وبين غرائبي نافر غير متوقّع، فإذا بواو العطف البسيطة تُصبح أداة. وكما توضع لقطة سينمائية محددة بعد لقطة ما لإحداث التتابع، وللقيام بمقارنة كانت من دون تتابع اللقطتين غير ذات معنى، وكما يجمع المونتاج بين متناقضين، أو بين منسجمين متكاملين، أو يُساعد على توليف متضادين لم يكونا معاً إلّا بوضعهما متعاقبين لمشاهدتهما معا. فإنّ واو العطف تنهض بوظائف مماثلة عند شاعرنا، وذلك عبر مكيدة لغوية إدراكيّة تستغلّ الذائقة المعتادة على البسيط من الربط المألوف المتوقّع، ففي هذه الجملة مثلاً: (أناشدك الله يا أبي دع جمع الحطب والمعلومات عنّي) تأخذ الواو بمفردها دور صناعة الصورة الشعرية في سلاسة تقوم على الوظيفة اللغوية التقليدية من حيث الإدراك، ولكنّها تصير إلى مشهدين بصريين متتابعين، إذ تقوم الواو بسحب كل ما قبلها على ما بعدها بلمحة واحدة، وفي قوله: «إننا نخجل أمام وجنتيك المليئتين بالدمع والأسنان» فإنّ الجملة تكون عادية مألوفة إلى ما قبل واو العطف، فتأتي كلمة واحدة بعدها لتكون مركز الثقل الشعري كلّه، فتندمج بعلاقة بين المعطوف والمعطوف عليه وتبلغ ذائقة القارئ كعبوة لغوية واحدة لا يُمكن الفصل بين طرفيها، كما تأتي كلمة «الأسنان» لتقلب المشهد وتنفي كل ما عداها.
يواصل صاحب «العصفور الأحدب» وضع هذه الأداة في مختبره الخاص؛ مستفيداً منها إلى أقصى مدى، ففي المثال التالي تُصبح وسيلة لتأسيس الصورة الشعرية، بما يشبه تأسيس اللقطة السينمائية العامة، فتبدأ من مكان وتستقر على مكان آخر مروّع وغير متوقّع، كقوله: (بل أفكّر بالسحب الرائعة والأطفال الموتى بين الزهور) فتأثيرها هنا يشبه إلى حد كبير حركة الكاميرا من فوق إلى تحت، كاميرا تأخذ السماء والسحب البيضاء، ثم تنتقل إلى أسفل حيث الأطفال الموتى. وإذا أردنا أن نبحث عن امتداد واستعمال لهذه التقنية في أعماله المسرحيّة والسينمائية فلن نكون منطقيين، لسبب بسيط وجوهري وهو أنّنا نقوم بعملية عكسيّة، فهذه التقنية مستعارة أصلاً من الصورة البصرية لمصلحة الصورة الشعرية.
ولكن، هل قام الشاعر بدمج التقنيتين معاً، أي كاف التشبيه وواو العطف في جملة مقتضبة أو في قصيدة واحدة؟ بالطّبع نعم، وكثيراً، فهما تظهران معاً في جملة واحدة كهذه: (ليلتق العبيد والفولاذ في مكان ما كذئبين أسيرين) وكذلك في هذا المقطع من قصيدة بعنوان احتضار 1985 (لو شطروا أطفالنا كالإسفنج، ونشروا دماءهم على مطالع الكتب والتماثيل، لن نخونكِ يا حبيبة، أبداً من خلف الشوارع والنجوم والأدغال، من خلف البكارات الرطبة والدموع الزرق، سنرقب طيوركِ وقراكِ المزوبعة كأوراق الصحف في الشارع، سننغرس على حدودك كالكلاّبات).
بشار عباس
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد