هل أوقعت حماسُ المقاومة في الفخ ؟
الجمل ـ محمد صالح الفتيح: كثيرٌ من الجماهير العربيَّة مبتهجٌ الآن بإطلاق صواريخ من قطاع غزَّة على المدن الإسرائيليَّة بما في ذلك العاصمة تل أبيب وحيفا البعيدة عن غزَّة، ولكن بعيداً عن هذا الابتهاج كان اللافتُ النبرة الرسمية جداً، والخالية من أي تعهُّدات أو تحمُّس، التي خرجت بها بياناتُ سورية وإيران وحزب الله حول ما يحصل في غزَّة. البيانُ السوريُّ خرج في اليوم الأوَّل للعمليَّة الإسرائيليَّة أما بيانا حزب الله وإيران فخرجا في اليوم الثالث للعمليَّة، ولكن أيَّاً من هذه البيانات لم يعبِّر عن اندفاعٍ لإنقاذ من يفترض أنهم الركن الرابع لمحور المقاومة. فالبيانات خرجت رتيبةً تدين إسرائيل وتدعو الدولَ العربيَّة والإسلاميَّة والمجتمعَ الدولي لمناصرة الفلسطينيين، ولكن لم يكن هناك، مثلاً، تهديدٌ أو رسمٌ لخطٍ في الرمال يجب عدم تجاوزه. تأخُّر البيانات وصياغتُها يمكن أن تدفع المرء للاعتقاد أنَّ هناك في محور المقاومة من لا يشعر بالارتياح تجاه ما يحصل الآن في غزَّة. تحاول هذه المقالة البحث في الحرب الحالية: أسبابها، خفاياها، وعواقبها المحتملة على الأطراف ذات الصلة.
البداية مع إسرائيل والمخطوفين الثلاثة
بداية التصعيد كانت مع عمليَّة اختطاف الطلاب الإسرائيليين الثلاثة يوم 12 حزيران، والتي جاءت بعد 10 أيامٍ فقط من ولادة حكومة الوحدة الوطنيَّة الفلسطينيَّة التي اُعتقِدَ أنَّها محاولةٌ للتهدئة وتأمين المستلزمات المعيشيَّة الضروريَّة لسكان قطاع غزة بعد أن ساءت الأوضاعُ عقب سقوط الحكم الإخوانيِّ في مصر. اختطافُ الطلاب الثلاثة، اثنان منهم قاصران وواحدٌ منهم يحمل الجنسيَّة الأميركيَّة، تسبَّبَ بحملة اعتقالاتٍ كبيرةٍ ضدَّ الفلسطينيين وأعمالٍ عدائيةٍ من قبل اليهود المتطرفين، كان أبرزها اختطاف وقتل الشاب محمد أبو خضير. اتهمت إسرائيل فوراً حركة حماس بالمسؤولية عن الاختطاف؛ كان اللافت أن حماس لم تدفع التهمة عن نفسها بل كررت خطاباً، طوال فترة البحث عن المختطفين، مفاده أنَّ عمليّة الاختطاف هذه لن تكون الأخيرة وسيكون هناك المزيد منها، علماً، بحسب ما تكشَّف يوم 30 حزيران، أن المختطفين الثلاثة كانوا قد قُتلوا في نفس يوم اختطافهم. وبحسب ما أعلن مكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي شارك في التحقيقات لوجود مختطفٍ أميركي، فإن النيّة،بحسب ما يبدو، كانت تصفية المختطفين منذ اللحظة الأولى لاختطافهم، وليس الاحتفاظ بهم. قد لايكون من الممكن، الآن، مناقشة نوايا المنفذين، ولكن لماذا استمرَّت حماس بخطابها التصعيدي، وهي تعلم تماماً أنَّ المختطفين قد قُتلوا، ولم تتوقف بالرغم من تصاعد الاعتقالات وأعمال العنف تجاه الفلسطينيين في الضفَّة الغربيّة؟
عمليةُ الاختطافِ، والتصفيةُ، هذه قد قدَّمت لرئيس الوزراء الإسرائيليِّ، بنيامين نتنياهو، فرصةً تاريخيَّةً غير مسبوقةٍ، لم تتح لأيِّ رئيس وزراء آخر خلال الأربعين عاماً الماضية، أو لنكون أكثر دقة منذ عمليّة ميونيخ 1972 في عهد غولدا مائير. في أيلول 1972، قامت مجموعة فلسطينيّة تدعى «أيلول الأسود» باختطاف 11 لاعباً أولمبياً إسرائيلياً كانوا مشاركين في أولمبياد ميونيخ. انتهت العملية يومها بمقتل المختطفين الإسرائيليين. جاء الرد الإسرائيلي على شكل غارات جوية على مخيمات فلسطينية وسلسلة من عمليات الاغتيال التي طالت قياداتٍ فلسطينية مختلفة في لبنان وأوربا. الفرصةُ الجديدة المتاحة لرئيس الوزراء هي إنزالُ عقابٍ بسقفٍ مفتوحٍ بالفلسطينيين دون أن تكون هذه العملية قراراً سياسياً يتحمّل نتنياهو، أو أركان حكمه، تبعات فشله – إذا فشل طبعاً. فالمطلوب اليوم في الشارع الإسرائيلي، باختصار، هو أن تنزع قدرات الفصائل على القيام بعمليات أخرى ضد إسرائيل وتدمير أو تحييد القدرات الصاروخية التي راكمتها الفصائل في غزة، وهذا ما سيحاول نتنياهو، بكلِّ سرورٍ، أن يقدمه لجمهوره. المفارقة أنَّ أيَّ جهدٍ ستقوم به فصائل المقاومة في غزَّة، بمافي ذلك استمرار اطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية، إذا لم يوقع إصابات كبيرة أو نوعية في صفوف الإسرائيليين، سيكون دافعاً شعبياً لدعم تصعيد العمليّة العسكريّة الإسرائيليّة. بالفعل، فقد اظهر آخر استطلاع للآراء موافقة 91% من الإسرائيليين على استمرار العملية العسكرية، عمليَّة «الجرف الواقي». اللافت هنا أنَّ الجيش الإسرائيلي لم يُعلن، حتى الآن، عن قائمة أهدافٍ واضحةً للعمليَّة الجارية الآن، والتي يتم تصويرها على أنها عملية رد فعل تتصاعد وتيرتها مع تصاعد الردود الفلسطينية من غزة. وبالتالي، غالباً، لن يكون هناك، في الجانب الإسرائيليِّ، من يقوم لاحقاً بعمليَّة جردٍ ومحاسبة. هذا مايخص الجانب الإسرائيلي من الأزمة، أما فيما يخص الفصائل في غزة فيجب التمييز بين حماس وكتائب القسام من ناحية وبقية فصائل غزة من ناحية أخرى.
حماس والقسام
عندما تم تأسيس حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، على يد الشيخ الشهيد أحمد ياسين والشهيد عبد العزيز الرنتيسي والدكتور محمود الزهار، تم الحرص على فصل الجناح العسكري، كتائب الشهيد عز الدين القسام، عن الجناح السياسي بحيث لايتم تحميل الجناح السياسي أي مسؤولية قانونية عن عمليات الجناح العسكري ولكي يتمكن أفراد الجناح السياسي من مواصلة النضال السياسي والتنقل بين دول العالم لشرح القضية الفلسطينية. هذا، على الأقل، ماكان عليه الحال عند ولادة حماس في نهاية العام 1987. ولكن في العام 2004 بدأت الصورة تتغير تدريجياً. كانت البداية في ربيع العم 2004 بتصفية اثنين من القادة المؤسسين، الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، لتنتقل قيادة الجناح السياسي إلى خالد مشعل، ولتأخذ حركة حماس خطاً مختلفاً عما كان عليه الحال طول الأعوام السبعة عشر السابقة. كان الاختلاف الأبرز هو قرار حماس المشاركة في الانتخابات التشريعية، التي قاطعتها حركة الجهاد الإسلامي، وفوزها بأغلبية سمحت لها بتشكيل الحكومة الفلسطينية. كان هذا التغيير لافتاً لكونه أشار إلى تحول في سياسة حماس من النضال إلى ممارسة السلطة.
كان الجناح العسكري، كتائب الشهيد القسام، قد نما مستفيداً من سنوات من الدعم السوري الإيراني ليصبح لديه الخبرات والأسلحة التي مكنته من تطوير عملياته، التي اقتصرت في التسعينات على العمليات الاستشهادية والطعن بالسكاكين. أما في الذكرى العشرين لتأسيس حماس فقد أصبح لدى كتائب القسام صواريخ غراد وكاتيوشا ومضادات دبابات حديثة قادرة على إعطاب دبابة الميركافا الإسرائيلية. كان التغيير الآخر الذي شهدته كتائب القسام، بعد وصول حماس إلى الحكم، هو أنها لم تعد الجناح المسلح الوحيد، فقد قامت حكومة اسماعيل هنية بتشكيل قوة مسلحة سميت بالقوة التنفيذية، والتي بقيت مفصولة عن كتائب القسام التي استمرت في مهمتها الأصلية وهي بناء القدرات لمواجهة الجيش الإسرائيلي. تعاظم حجم القوة التنفيذية ليصل اليوم إلى حوالي عشرة ألاف مسلح. كما تغلغت حركة حماس في بقية القطاعات الحكومية في غزة، وذلك خلال السنوات التي تولت فيها حماس رئاسة الحكومة هناك منذ العام 2007 إلى نهاية شهر آيار 2014. تذكر تقارير، صادرة عن مراكز أبحاث غربية، أن قطر تولت، طوال تلك السنوات، تمويل الرواتب لموظفي حماس، ولاسيما عناصر القوة التنفيذية. نتج عن هذه المتغيرات تحول حماس من حركة نضال سياسي إلى سلطة حكم تملك عناصرها المسلحين القادرين على فرض سلطة حماس على القطاع والقضاء على مناوئيها. ومن الأمثلة البارزة هنا ماقامت به القوة التنفيذية من أعمال تصفية طالت المئات في منتسبي حركة فتح في شهر حزيران 2007.
وهكذا، بفضل الأموال والماكينة الإعلامية القطرية، تم تحويل حماس إلى سلطة حكم تهيمن على كل قطاع غزة بحيث لايمكن أن يحصل شيء في هذا القطاع بدون موافقة حماس. القوة الوحيدة، في القطاع، التي يمكن لها، نظرياً، أن تمنع حماس من الاستمرار في هذا المسار هي الفصائل الفلسطينية المسلحة وعلى رأسها كتائب القسام. حماس بالتأكيد مدركة لهذا التهديد وهناك إشارات إلى أنها عملت على فرض سيطرتها على كتائب القسام بوسائل مختلفة شملت محاولات اضعاف القوة العسكرية لهذه الكتائب واستقطاب بعض القيادات والتخلص من القيادات المناوئة. كان اللافت هنا أن أبرز عمليات الاغتيال، التي حصدت خلال العامين الماضيين أحمد الجعبري نائب قائد الكتائب ومحمد شعبان قائد قوة الكوماندوز البحرية في الكتائب، تمت بصواريخ موجهة استهدفت القادة وهم في سياراتهم مما يشير إلى وجود خرق مخابراتي كبير وقدرة على التنسيق والتواصل مع إسرائيل (إسرائيل تقول أيضاً أنها اغتالت أيمن صيام، المسؤول عن سلاح الصواريخ في كتائب القسام ولكن هذا مايزال ينتظر تأكيداً من الكتائب). إذا ما ربطنا بين القدرة على معرفة تحركات المستهدفين وإمكانية الاستفادة من اغتيالهم وازاحتهم من المشهد، فإن الأصابع ستشير، بشكل منطقي، إلى حماس. يجب لفت النظر هنا إلى أن إسرائيل كانت قد اغتالت، بنفس الطريقة السابقة، في آذار 2012، زهير القيسي، الأمين العام للجان المقاومة الشعبية في غزة. حينها صرح المكتب السياسي لحماس عن رفضه المشاركة في الرد العسكري على إسرائيل لأن الحرب الشاملة قد تجلب الدمار على الشعب الفلسطيني. كان ذلك هو الموقف الأغرب لحماس في تاريخها.
يمكن التماس تأثير استقطاب بعض قادة الجناح العسكري من خلال الرد العسكري المتقلب، أو المتخبط، التي تنفذه كتائب القسام. فعلى عكس العمليات التي نفذت خلال عملية «الرصاص المسكوب»، 2008-2009، والتي اتسمت بالرد المتدحرج المتزايد، ككرة الثلج، تبدو العمليات الحالية متخبطة. ففي الأيام الأولى للعملية تم استهداف مدينة حيفا وفي الأيام الأخيرة تم اللجوء لقذائف الهاون، في حين أن المنطق يفترض حصول العكس. أما معدل إطلاق الصواريخ المرتفع في اليوم الواحد، والمتفرق في الصلية الواحدة والضعيف التأثير بالتالي، فيعتقد أنه قد استنزف القدرات الصاروخية لحماس، وربما أيضاً للفصائل الأخرى.
فصائل المقاومة في غزة
لايبدو أن فصائل المقاومة الفلسطينيَّة على قلبٍ واحدٍ وقد ظهر هذا، على وجه الخصوص، في تصريحات أحمد جبريل، أمين عام الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين- القيادة العامة، لقناة الميادين عندما لمَّح إلى حركة حماس بالقول أنّ هناك من يرفع سقفَ المواجهة ويضع شروطاً عاليةً لوقف إطلاق الصواريخ ولكنَّه، في نفس الوقت، يسعى وبوساطةٍ قطريةٍ للوصول إلى اتفاق تهدئةٍ متبادلٍ مع إسرائيل. إذا ما كان كلامُ أحمد جبريل صحيحاً فهذا يشير، وبقوةٍ، إلى أنَّ القيادة السياسيَّة لحماس تعمل على مسارين: فهي من ناحيةٍ أولى تنسِّق مع قطر للعودة إلى اتفاق التهدئة القديم الذي ستتولى فرضه وبذلك تبرز من جديد كصانعِ القرار الأقوى في قطاع غزَّة ومن ناحيةٍ ثانيةٍ فهي تستمرُّ بالمزايدة وتوريط بقية الفصائل للقتال وكشفِ المزيد من قدراتها العسكريّة في مواجهةٍ كانت حماس هي سببها، من خلال حادثة اختطافِ وقتلِ الطلاب الثلاثة. أما مقولة التنسيق بين حماس والفصائل المختلفة في غزة فهي كذبة يحاول بعض مؤيدي حماس نشرها. والدليل على عم صحتها هو أن كلًّ من حماس والجهاد الإسلامي قد اطلق على عمليته اسماً مختلفاً، «العصف المأكول» لحماس و «البنيان المرصوص» للجهاد الإسلامي، كما أنه لم يتم الإعلان عن أي عملية مشتركة بين الفصائل. علاوة على أن حماس والجهاد الإسلامي قد أظهرا مواقف متناقضة من المبادرة المصرية. ففي صباح الأربعاء، رحب بها الجهاد الإسلامي، من حيث المبدأ، بينما رفضتها حماس؛ أما في مساء ذلك اليوم، فقد أعلن الجهاد الإسلامي عن رفضها في حين أن حماس أعلنت أنها ماتزال تدرسها!
صحيح أنَّ حماس، قبل الربيع العربيِّ، كانت الطفلَ المدلّلَ لسورية وإيران وكانت تظفر بحصة الأسد من السلاح والتمويل وتتلقى السلاحَ النوعيَّ قبل أبرز منافسيها، أي الجهاد الإسلامي، ولكن حماس فقدت هذا الامتياز لأسبابٍ باتت معروفة اليوم. فالسلاح النوعي، وإن لم ينقطع تماماً عن حماس، إلا أنّه أصبح يتدفق بالدرجة الأولى على كوادر الجهاد الإسلامي التي أصبحت منافساً قوياً لحماس. قد يكون سبب استمرار تقديم السلاح لحماس هو كونها الحاكم الفعلي للقطاع، وبالتالي لايمكن أن يمر شيء بدون موافقتها. أما فيما يخص تفاصيل سلاح الفصائل في غزة، فمراكز الأبحاث الإسرائيليّة تذكر أنَّ ترسانة حماس تحتوي حوالي 6000 صاروخٍ منها أكثر من 4000 صاروخ قصير المدى (15- 20كم) وحوالي 1200 صاروخ (45كم) و 600 صاروخ (80كم) وحوالي 200 صاروخ بعيد المدى (أكثر من 80 كم). أما الجهاد الإسلامي، وبحسب نفس المصادر، فيملك حوالي 5500 صاروخ منها حوالي 800 صاروخ (45كم) و200 صاروخ (80كم) و 200 صاروخ بعيد المدى (أكثر من 80 كم) والباقي قصير المدى (15 – 20كم). أما بقية الفصائل فلا تملك سوى بضع مئات من الصواريخ القصيرة المدى (15 إلى 45 كم). تملك حماس والجهاد الإسلامي تقريباً نفس الأسلحة المضادّة للدبابات والمضادَّة للطيران. أما نقطة التفوُّق على الآخرين التي تملكها حماس فهي الاحتضانُ القطريُّ والرعاية الإعلاميَّة والأموال الهائلة التي تغدقها قطر على كوادر حماس. صحيحٌ أنَّ هذه الأموال لا تستطيع شراءَ السلاح النوعي ولكنها كافيةٌ للحصول على الأسلحة الفردية من السوق السوداء ولدفع رواتب كوادر حماس وأجهزتها الأمنية.
إذا ما استطاعت حماس أن تدفع منافسيها إلى خسارة السلاح الواردِ من سورية وإيران، وخصوصاً الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى وعددها حوالي 400 إلى 1200 في يد الجهاد الإسلامي، فهي ستكون قد أضعفتهم، وتستطيع بالتالي فرض هيمنتها عليهم لكونها تملك الكوادر البشريَّة الأكبر والموارد الأكبر، وبالتالي ستكون قادرة على فرض، أو رفض، أي حل سياسي حالي أو مستقبلي في غزة. يبلغ متوسط الصواريخ المطلقة من غزة، في الحرب الحالية، أكثر من 100 صاروخ يومياً. وقد أحصت صحيفة نيويورك تايمز حوالي 1150 صاروخ تم إطلاقهم من غزة، في الفترة مابين 8 و 15 تموز. علماً أن هناك مايزيد عن نصف هذا العدد تم إطلاقه في الفترة مابين، 1 و 7 تموز؛ للمقارنة، فقد كان حزب الله قد أطلق أكثر بقليل من 3700 صاروخ على إسرائيل خلال أربعة وثلاثين يوم من القتال في 2006. وبذلك تكون الفصائل الفلسطينية قد خسرت أكثر من نصف صواريخها متوسطة المدى. كان شيٌء مماثل قد حصل في خريف العام 2012، خلال عملية «أعمدة السحاب». في تلك المرة كان المخزون قد استُنفذ ممادفع فصائل المقاومة للقبول بالوساطة المصرية. للتذكير، ففي عملية «الرصاص المسكوب»، 2008-2009، كانت إسرائيل وحدها هي من أعلنت وقف إطلاق النار من طرف واحد، والفصائل أعلنت من ناحيتها القبول بذلك، بعد أن تشاورت فيما بينها. أما في 2012 فلم تنتهي الحرب إلا بفرض اتفاق تهدئة بضمانة مصر محمد مرسي. أما اليوم، فما هي خيارات المقاومة في غزة إذا ما قارب مخزون الصواريخ على النفاذ؟ من سيفرض اتفاقاً شبيهاً باتفاق 2012؟ فهذه الحرب ستنتهي إلى تهدئة، بكل تأكيد، وذلك لاستبعاد أي احتمال لتدخل بقية أطراف محور المقاومة. وهذا الاستبعاد له أسبابه أيضاً.
موقف بقية أركان محور المقاومة
إذا ما وضعنا جانباً ما تنسبه القيادة السوريَّة لحماس من أفعالٍ معاديةٍ نفَّذتها داخل سورية خلال الأزمة الحاليّة وركَّزنا على أحداث اليوم، فتصرفات وتصريحات أركان محور المقاومة، وخاصةً دمشق وطهران اللتان بذلتا جهداً كبيراً لتأمين السلاح والأموال للفصائل المختلفة في قطاع غزَّة، لا تظهر أنَّ هناك من يتحمَّس للمنازلة الإسرائيلية الفلسطينية الآن. لذلك أسبابٌ كثيرة. من ناحية أولى، وإذا ما أردنا أن نناقش الوضع بصراحة وموضوعيَّة، فعندما تمَّ تقديم الصواريخ بعيدة المدى، من طراز M302 السوري وغيرها لفصائل المقاومة، فالهدف كان مزدوجاً: 1) توفيرُ ردعٍ لإسرائيل إذا ما أرادت اجتياح القطاع و 2) مشاركة الفصائل في غزَّة بإمطار إسرائيل بالصواريخ عندما تقع الحرب الإقليميَّة المنتظرة بين إسرائيل وسورية/ أو إيران / أو حزب الله. وقد يكون الهدف الثاني أكثر أهميَّة في ذهن عواصم المقاومة التي استمرَّت بالتسليح، رغم كل الصعاب التي تواجهها؛ وسفينة Klos-C التي ضبطتها إسرائيل مطلع آذار الماضي هي مجرد عينة. تلك السفينة، بحسب الرواية الإسرائيلية، كانت تحمل أسلحة من بينها حوالي 30 صاروخ M302 سوريِّ الصنع مداه 200 كم. وبحسب نفس الرواية، فهذه الصواريخ نُقلت جواً من دمشق إلى طهران وثمَّ من ميناء بندر عباس الإيراني إلى ميناء أم القصر العراقي ثمَّ إلى البحر الأحمر، حيث تمَّ اعتراضها، قبل وصولها إلى ميناء بورتسودان، حيث كانت لتعبر براً وصولاً إلى غزة، وليبلغ المسار الإجمالي حوالي 10 ألاف كيلومتر في رحلة تقارب الشهر. كل هذا الجهد هو لنقل حوالي 30 صاروخاً فقط. هذه التفاصيل تُظهر أنَّ هدفَ نقل الصواريخ هو استراتيجيٌّ بحتٌ وإلا لما كانت دمشق وطهران تكلفتا كل هذه المشاق في هذه الظروف. هذه الأرقام تظهر أيضاً أن مراكمة الصواريخ، في قطاع غزة بالكميات المذكورة أعلاه، هي عملية معقدة تحتاج فترة تتراوح مابين عام إلى عامين.
السبب الثاني، هو الشعور، وخصوصاً لدى دمشق وحزب الله، أن هناك من يحاول تحقيق عدة أهداف في نفس الوقت: 1) تبييض صورة حماس التي ظهرت خلال فترة الربيع العربي على أنها قدمت ولائها لقطر وللإخوان المسلمين على علاقتها بدمشق وطهران، 2) إضعاف الفصائل الأخرى في فلسطين، وهو مايعني أيضاً إضعاف محور المقاومة، عموماً، وتقليص خياراته وإعادة حصرها بحماس، 3) دفع سورية وحزب الله إلى موقع تكون فيه خياراتهما أحلاهما مر: إما الدخول في حرب مع إسرائيل في أسوء توقيت بالنسبة لسورية وحزب الله، أو القبول بالتهم التي تقوم الوسائل الإعلامية المعادية بترويجها منذ سنوات، 4) تكريس حماس، وقطر من خلفها، كصاحبة القرار الأول والأخير في قطاع غزة. هذا وقد عبرت مصادر إعلامية معروفة بقربها من حزب الله عن خشيتها من أن حماس تعمل، بشكل صريح، لفرض نفوذها على قطاع غزة وإزاحة الفصائل الأخرى، وتوريط حزب الله في جنوب لبنان، وذلك من خلال الصواريخ الغامضة المصدر التي تم إطلاقها على شمال فلسطين المحتلة، واتخذتها إسرائيل ذريعة لكي تقصف، أكثر من مرة، مناطق جنوب لبنان. شيء مماثل حصل أيضاً على الجبهة السورية في منطقة القنيطرة. ولكن الموقف السوري جاء صريحاً أكثر حينما أكد الرئيس بشار الأسد، في خطاب القسم الدستوري، أن فلسطين تبقى القضية المركزية ولكن يجب التمييز "بين الشعب الفلسطيني المقاوم الذي علينا الوقوف إلى جانبه، وبين بعض ناكري الجميل منه.. بين المقاومين الحقيقيين الذي علينا دعمهم، والهواة الذين يلبسون قناع المقاومة حسب مصالحهم لتحسين صورتهم أو تثبيت سلطتهم".
الخلاصة
مع استبعاد تدخل بقية أطراف محور المقاومة، واستبعاد إمكانية ايصال كميات من السلاح والذخيرة إلى قطاع غزة، خصوصاً في ضوء الاستهلاك الهائل من الصواريخ، ومع غياب التنسيق الحقيقي بين فصائل المقاومة في غزة، ومع استمرار وجود موافقة شعبية في إسرائيل على استمرار الحرب الحالية في غزة، فإن السيناريوهات المنطقية والمرجحة هي قاتمة للغاية وهي تتراوح، في أحسن الأحوال، بين أن تعلن إسرائيل، من جانب واحد، وقف إطلاق نار، على نحو شبيه بماحصل في 2008-2009 أو أن تستمر إسرائيل في عملياتها العسكرية حتى تستطيع فرض اتفاق، غالباً بوساطة قطرية أو تركية، يتم التعهد فيه بضبط عملية إطلاق الصواريخ من غزة. ومهما كان الاحتمال، الذي ستؤول إليه الأمور في نهاية هذه الحرب، فالنتيجة الأكيدة هي أن فصائل المقاومة في غزة قد وقعت في الفخ وخرجت من أي معادلة ردع لمدة عام كامل، على أقل تقدير، ريثما يتم ترميم القدرات العسكرية، إن أمكن ذلك أساساً.
إضافة تعليق جديد