أركون والفرق بين المسيحيَّة والإسلام
لقد سألت مرَّة محمَّد أركون عن هذه النُّقطة فأجابني بما معناه: لا يمكن أن نقارن بين شخص محمَّد وشخص يسوع النَّاصريّ إلاَّ إذا أخذنا بعين الاعتبار الفرق الكبير بين الظروف التَّاريخيّة الَّتي كانت سائدة في فلسطين إبَّان ظهور يسوع، والظروف التَّاريخيَّة الَّتي كانت سائدة في الجزيرة العربيَّة إبَّان ظهور محمَّد بعد ستّة أو سبعة قرون.
إنَّها ظروف وسياقات مختلفة تماما. وبالتَّالي فمن السّهل أن نقول محمّد كان مع العنف، ويسوع مع السَّلام. من السَّهل أن نقول الإسلام ديانة عنف وحرب وضرب والمسيحيَّة ديانة ضعف وسلم واستسلام. هذا كلام فارغ لا معنى له بالنّسبة للمفكّر أو المؤرّخ المحترف. لماذا؟ لأنَّه عندما ظهر يسوع النَّاصريُّ كانت فلسطين محتلَّة من قبل الامبراطوريَّة الرُّومانيَّة الجبَّارة ولم يكن له أيُّ حظّ في استلام السُّلطة على فرض أنَّه يرغبها. ولذلك قال: مملكتي ليست من هذا العالم. أو: اعطوا لقيصر ما لقيصر وما لله لله. لقد قال ذلك لكي يطمئن حكَّام فلسطين “فيحلُّوا” عنه ويتركونه يبشّر بالدّين الجديد دون خوف منه. فهو لا يزاحم أحدا على أيّ سلطة ما عدا السُّلطة الرُّوحيَّة والأخلاقيَّة. أمَّا محمَّد فقد ظهر في الجزيرة العربيَّة حيث لا توجد سلطة مركزيَّة وإنَّما فقط قبائل عربيَّة متناحرة يغزو بعضها بعضا كما هو معروف. وبالتَّالي فالسُّلطة كانت فارغة وتنتظر من يقطفها أو يأخذها إذا جاز التَّعبير. ولذلك كان محمَّد مضطرا إذا ما أراد أن تنتصر الدَّعوة إلى أخذ السُّلطة. بل كان مجبرا على ذلك وليس له خيار. فأعداؤه كانوا شرسين جدًّا ويريدون به شرًّا ولو وصلوا إليه لقتلوه. ومعلوم أنَّهم حاولوا ذلك مرارا وتكرارا ولكنَّه نجى منهم بأعجوبة.
لنقل بأنَّ العناية الإلهيَّة نجَّته منهم وهذا هو رأيي الشَّخصي. فالأنبياء محميون من فوق شئنا أم أبينا نحن “العلمويين” العقلانيين جدًّا. ومعلوم أيضا أنَّه سكت على الإهانات والتَّحرشات والظُّلم سنوات وسنوات. ولكنه اضطر في نهاية المطاف إلى حمل السّلاح غصبا عنه ليس من أجله هو وإنَّما من أجل الرّسالة. فقد كانت أعزَّ عليه من روحه. كان مستعدا لأن يموت من أجلها. كانت روحه رخيصة في سبيلها. وقد برهن على ذلك أكثر من مرَّة. يضاف إلى ذلك أنَّه مات وليس في جيبه فلس واحد تقريبا ولم يورث شيئا يذكر لعائلته. وهذه صفة العظماء أيضا. إنَّهم يموتون عادة فقراء لأنَّ الثَّروة ليست همَّهم بل ولا تخطر على بالهم على الإطلاق. يهمُّهم شيء آخر أعلى وأجل، شيء يملك عليهم أقطار نفسهم، شيء أكبر منهم. لذلك اضطرَّ نبيُّ الإسلام إلى خوض المعارك والحروب لكي تنتصر الدَّعوة في نهاية المطاف. لم يكن هناك من حل آخر.
لا ريب في أنَّ هذه الظُّروف الصّراعيَّة الدَّامية انعكست على النَّبيّ والقرآن وخلعت عليهما طابع العنف بشكل إجباريّ لا مفرَّ منه. نقول ذلك على الرَّغم من أنَّه لم يكن مجانيًّا ولا مقصودا لذاته وإنَّما من أجل غاية نبيلة تتجاوزه: هي انتصار الرّسالة الجديدة. والقرآن بشكل من الأشكال ليس إلاَّ سيرة ذاتيَّة مقنعة للنَّبيّ محمَّد والصّراعات الَّتي خاضها. ولكنّها أحيانا تكون صريحة مباشرة. بالطبع كونها مقنعة لا يعني أنَّها تستحيل على الفهم لمن يعرف أن يقرأ ويفهم بين السُّطور. على أيّ حال بسبب ذلك أصبح الكثيرون يربطون بينها وبين العنف، بل ويقيمون مطابقة بين النّبيّ والعنف، أو الإسلام والعنف. من هنا ضرورة أن يقوم المسلمون بمراجعة تاريخيَّة صارمة لأصول الإسلام وبداياته الأولى. لماذا؟ لكي يقولوا للعالم كلّه بأنَّ هذا العنف كان إجباريًّا ضمن ظروف تلك المرحلة وبالتَّالي فلا يشكّل جوهر القرآن ولا الطَّابع الأساسيّ لشخص النَّبيّ محمَّد. فهو أميل في أعماقه إلى الرَّحمة والشَّفقة والخير العميم. “وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين”. “وإنَّك لعلى خلق عظيم”.
ينبغي أن يكشفوا عن الأبعاد السّلميَّة والأخلاقيّة في شخصيَّة النَّبيّ محمّد وفي نصّ القرآن ذاته. فالقرآن الكريم ليس كتاب عنف من أوَّله إلى آخره كما زعم ميشيل أونفري عن جهل. إنَّما هو خليط من أيات القتال/ وآيات السَّلام، من آيات التَّهديد والوعيد/ وآيات الصفح والوعد والغفران. وبالتّالي فعلينا نحن مسؤوليَّة التَّركيز على آيات السّلم والمغفرة والرَّحمة في نصّنا المؤسّس الأعظم. وهي أكثر عددا من الثَّانية. وعلينا أن نقول بأنَّ آيات العنف كانت مرتبطة بظروف عصرها الصّراعيَّة وكانت إجباريَّة لأنَّ الإسلام كان مهدَّدا. وأمَّا الآن فلم تعد ملزمة ولا ينبغي تعميمها على كلّ العصور لأنَّ الإسلام انتصر وترسَّخ وأصبح دينا عالميًّا ولم يعد مهدَّدا في وجوده ذاته كما كان عليه الحال في عهد النَّبي. وهكذا نستطيع القول بأنَّ الجوهريَّ في القرآن وشخص النَّبيّ محمّد ليس العنف والكراهية وإنَّما السّلم والرَّحمة والتَّسامح ومكارم الأخلاق. بمعنى آخر علينا أن “نستله من كلّ سلبيات السّيرة المزعجة والأفعال الدَّمويَّة المؤسفة كما تُستل الشَّعرة من العجين” على حدّ تعبير حسَّان بن ثابت!
يضاف إلى ذلك أنَّ النَّاس كما قال لي أركون ليسوا بالضَّرورة أوفياء لمباديء دينهم وأصوله الأولى على عكس ما نتوهَّم. ليسوا محكومين بها إلى أبد الدَّهر أو مخلصين لها في كلّ الظُّروف. والدَّليل على ذلك أنَّ الإنجيل لا يحتوي على آيات عنف إلاَّ نادرا ومع ذلك فقد مارس المسيحيون العنف بشكل هائل ليس فقط إبَّان الحروب الصَّليبيَّة وإنَّما أيضا أثناء الحروب المذهبيَّة الضَّارية بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين. لقد سحق الكاثوليكيون البابويون البروتستانتيين “الزنادقة” سحقا لا يقلُّ خطورة عن سحق الدَّواعش حاليًّا للشّيعة أو للأيزيديين والمسيحيين..فكيف نفسّر ذلك؟ لماذا لم يمنعهم الإنجيل من اقتراف العنف الدَّمويّ وهو يميل إلى السَّلام إلى حدّ الاستسلام أحيانا: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر؟ وبالتَّالي فهناك المبادىء/ وهناك التَّطبيق، هناك المُثل العليا/ وهناك ما جرى فعلا على أرض الواقع. والبشر ليسوا ملائكة حتَّى ولو كانت شخصيَّة نبيهّم ومبادىء دينهم ملائكيَّة.
أخيرًا أعتقد جازما أنَّ النَّبيَّ محمَّدا لم يكن شخصيَّة مغرمة بالعنف المجَّانيّ كما صوَّروه إبَّان العصور الوسطى، أو من خلال الصُّور الكاريكاتوريَّة الكريهة اليوم، أو كما تصوّره الدكتورة إيمان مصطفى البغا أيضا بكلّ افتخار! وهنا يلتقي التَّطرُّف الغربيُّ بالتَّطرف الإسلامي. هذا هو التَّحالف الموضوعيُّ بين المتطرّفين. هل تدرك بأنَّها تسيء لدينها وتلحق به أفدح الأخطار؟ وقصة قتل ثلاثة شعراء لا تدلُّ على أعماقه الحقيقيَّة ولم يفعلها إلَّا غيرة على الرّسالة في لحظة كانت فيه مهدَّدة فعلا هذا إذا كان قد فعلها حقًّا. لو لم يكن مفعما بحبّ الخير لما استطاع تأسيس دين عالمي وحضارة رائعة ظلَّت منارة للعالم لفترة طويلة. وحدهم الأشرار لا يبقى منهم شيء ولا ينجزون أيَّ شيء مفيد للبشريَّة. لو لم يكن مفعما بحبّ الخير لما أسَّس دينا جديدا مدخلا العرب في حداثة ذلك العصر: أي دين التَّوحيد. وذلك عن طريق تزويدهم بكتاب معجز كما حصل لليهود والمسيحيين من قبل. وحدهم العرب كانوا محرومين من هذا الكتاب. لو لم يكن عظيما لما استطاع اختراع كون رمزيّ جديد محدثا القطيعة الهائلة مع الدّين العربيّ السَّابق له وكلّ التَّصورات القديمة الَّتي تربى عليها في طفولته. وقد عرض نفسه بذلك للخطر الأعظم..لو لم يكن نبيًّا ملهما لما استطاع تأسيس لغة قرآنيَّة جديدة لا نزال نعيش عليها حتَّى اليوم. وهي متغلغلة في روحنا وأعماقنا بل وحياتنا اليوميَّة.
الآن قد تبدو لنا قديمة وربَّما عاديَّة في بعض جوانبها ومناخاتها النَّفسيَّة. ولكن في وقتها؟ لقد تفجَّرت كالنُّور الوهَّاج فأضاءت سماء الحجاز، فالجزيرة العربيَّة، فالعالم. هذا هو القرآن. وهذه هي صفة الثَّوريين أو التَّغييريين الكبار في التَّاريخ. إنَّهم يفكّكون عالما بأسره لكي يبنوا على أنقاضه عالما جديدا. يضاف إلى ذلك أنَّ النَّبيّ العربيَّ جمع بين عبقريتين لا عبقريَّة واحدة: العبقريَّة الدّينيَّة والعبقريَّة السّياسيَّة. فبعد أن كسَّر الأصنام وجمع العرب حول دين واحد وإلاه واحد أصبح من السَّهل عليه أن يوحّدهم سياسيًّا. التَّوحيد العقائديُّ أوَّلا.
وهكذا نفخ الرُّوح ودفع بهم لفتح العالم. على هذا النَّحو انطلقوا وفي حناياهم يتوهَّج كلام القرآن والوحي الإلهيّ! ولولا ذلك لما استطاعوا فتح مناطق شاسعة واسعة في ظرف سنوات معدودات. ولما استطاعوا التَّغلب على أكبر امبراطوريتين في ذلك الزَّمان: الفارسيَّة والبيزنطيَّة. لولا ذلك لما استطاعوا تشكيل امبراطوريَّة ضخمة تمتدُّ من حدود الهند والسّند إلى حدود إسبانيا وفرنسا وجبال البيرنيه. فالرُّوح إذا ما شحنت “بالكلام الجديد” قادرة على صنع المعجزات. إنَّه يعطيها طاقة هائلة لا تقدَّر بثمن. إنَّه يفتح لها الآفاق المسدودة. إنَّه يشحنها شحنا بالممّكنات. ومشكلة العرب حاليًّا هي أنَّهم محرومون من هذا الكلام الجديد. إنَّهم متعطشون له كلَّ التَّعطش ولكنَّه يتأبَّى عليهم. لا يوجد مفكّر عربيٌّ واحد قادر على بلورته كما فعل محمًّد في عصره. لم تحن لحظته بعد على ما يبدو. ينبغي أن يتعذَّبوا أكثر لكي يستحقونه. ينبغي أن يشرفوا على الهلاك تماما. إنَّهم يدورون على أنفسهم في حلقة مفرغة دون أن يستطيعوا التَّوصل إليه. مشكلتهم أنَّ روحهم مغلولة، مقيَّدة بالأصفاد. ولا يمكن أن تنطلق روحهم من الشَّرنقة، لا يمكن أن يتوصَّلوا إلى الكلام الجديد1 مرَّة أخرى إلَّا بعد تفكيك الكلام القديم الَّذي كان سبب نجاحهم يوما مَّا. ولكنَّه أصبح الآن عالة عليهم بعد أن استنفد طاقته ومفعوله الحضاريَّ. أكاد أقول بأنَّ العرب بحاجة حاليًّا إلى نبيّ جديد! ولا أستطيع أن أقول أكثر من ذلك عن هذه النُّقطة الحاسمة، ولا زائد لمستزيد .يكفي أنّي أغامر بنفسي أكثر من اللُّزوم إذ أقول هذا الكلام السَّخيف!
ولكن تبقى الإشكاليَّة العويصة والرَّهيبة مطروحة. أنا واع بذلك كلَّ الوعي ومتحسب له ومتخوّف منه أشدَّ التَّخوف. فبما أنَّ أصول الإسلام الأولى- على عكس المسيحيَّة- ارتبطت بأحداث عنف وقتال وسفك دماء فإنَّها تحوَّلت إلى باراديغم أعظم لكلّ العصور اللاَّحقة. لقد تحوَّلت إلى نموذج مثاليّ أعلى يُقتدى به لكلّ أجيال المسلمين حتَّى اليوم. من هنا قوَّة داعش وكلّ حركات الإسلام السّياسيّ. فهي تمنح منها معينا لا ينضب. وهي تبرر كلَّ أفعالها الفظيعة بواسطتها. وضميرها مرتاح حتَّى بعد أن ترتكب أفظع المجازر بحقّ النّساء والأطفال في الدَّاخل والخارج..فهي الَّتي تعطيها قوَّة معنويَّة هائلة على تفجير العالم. هذا شيء مؤكّد. وهنا تقع على كاهل المثقَّفين العرب والمسلمين مسؤوليَّة رهيبة. ينبغي عليهم أن يغربلوا التراث فيفرزوا ما هو عنيف فيه/عمَّا هو مسالم، ما هو طيّب إيجابي/عمَّا هو رديء سلبيٌّ، ما هو كونيٌّ خالد/عمَّا هو ظرفي عارض. هناك آيات كونيَّة/ وآيات عرضيَّة مرتبطة بحيثيات زمانها ولا يمكن تعميمها على العصور اللاَّحقة. فكما أنَّ الأصوليين لا يركزون إلاَّ على آيات القتال والعنف فإنَّه يحقُّ للتَّنويريين العرب ألاَّ يركّزوا إلَّا على آيات الصَّفح والسَّلام. بودي أن أقول للدَّواعش كلّهم: لكم تراثكم/ ولي تراثي! لكم قرآنكم/ ولي قرآني! لكم ابن تيمية وما شاكله/ ولي ابن عربي. لكم الغزالي/ ولي ابن سينا أو الفارابي. لكم يوسف القرضاوي أو محمَّد العريفي/ ولي عياض بن عاشور أو محمد الحدَّاد. لكم الصُّورة الأصوليَّة الإرهابيَّة العنيفة عن سيّدنا محمَّد/ ولي الصُّورة التَّاريخيَّة الإنسانيَّة العظيمة عن نبيّنا ومفخرتنا محمَّد. لكم السّفح المظلم من التراث/ ولي السَّفح الآخر المضيء. أنتم أحرار وأنا حرٌّ.على هذا النَّحو سوف يحصل الفرز في السَّنوات القادمة بيننا وبينهم. وبالتَّالي فالمعركة بين إسلام الأنوار/ وإسلام الظُّلمات سوف تكون أضخم معركة في تاريخنا. أضيف بأنّي لن أكتفي بعباقرة التَّنوير العربيّ الَّذين ظهروا في العصور الوسطى وإنَّما سأضيف إليهم مدفعيَّة ثقيلة جدًّا: هي عباقرة التَّنوير الأوروبيّ من أمثال: جان جاك روسو، وفولتير، وكانط، وهيغل، ونيتشه وبول ريكور، ولوك فيري، وريمي براغ نفسه وعشرات غيرهم. وسوف أكرّس لهم كرَّاسات صغيرة، واضحة، مفهومة حتَّى من قبل تلامذة الإعدادي والثَّانوي. وسأدخلها في برامج التَّعليم وأعمّمها على كلّ المدارس والجامعات العربيَّة دون استثناء. وسأخوض المعركة على المكشوف. ينبغي أن يعرف الطَّالب العربيُّ كيف جرت ملحمة الحداثة في أوروبا وكيف انتصر التَّنوير بعد معارك طاحنة على الأصوليَّة والأصوليين.
الهامش:
1- وهو شيء أبعد ما يكون عن التَّحقق حتَّى الآن. أقصد بالكلام الجديد هنا بالطَّبع هضم جوهر الحداثة الفلسفيَّة في اللُّغة العربيَّة.
وأقصد بالكلام القديم الكلام التراثي المكرور المجتر على مدار القرون والَّذي لم يعد يقنع أحدا. بل أصبح متهالكا قديما باليًا ليس فيه قطرة ماء أو نسمة روح. ولكنَّه لايزال رازحا على قلوبنا وصدورنا لأنَّه يؤمّن الطمأنينة والسَّكينة لعامَّة المسلمين ثمَّ لأنَّه لا يوجد غيره في السَّاحة تقريبا. غنيٌّ عن القول أنَّ الكلام العربيَّ الجديد لن ينهض إلَّا على أنقاض الكلام القديم الَّذي كان جديدا في وقته قبل ألف وأربعمائة سنة ثمَّ استنفد طاقته. من هنا ضرورة تفكيك النَّص القرآنيّ وكلّ التراث بالمعنى الفلسفيّ العميق لكلمة تفكيك وليس بمعنى التَّهجم والتَّجريح. بالتَّفكيك نقصد هنا مجرَّد تطبيق المنهجيَّة التَّاريخيَّة -النَّقديَّة على القرآن كما طبّقت على الإنجيل والتَّوراة من قبل علماء أوروبا. فهذا التَّفكيك هو الَّذي سيحرّر الطَّاقات المخزونة للعرب. وهو الَّذي سيفرز ما لا يزال صالحا في التراث عمَّا بطل مفعوله وأصبح عالة علينا كآيات التَّكفير والقتال وكره الآخر وتطبيق الحدود المرعبة كحدّ الرَّجم والجلد وقطع اليد إلخ...أمَّا آيات من نوع: “فمن يعمل مثقال ذرَّة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرَّة شرًّا يره”. فسوف تظلُّ ترافقنا وتهدينا إلى أبد الآبدين. ولحسن الحظّ فهناك عشرات غيرها بل ومئات في كتابنا العظيم. كما وتوجد في التراث قيم أخلاقيَّة وإنسانيَّة عُليا لا يمكن التَّخلي عنها بأيّ شكل. وبالتَّالي فالتَّفكيك لا يعني إطلاقا تدمير التراث كما يزعم بعضهم. وإنَّما يعني فرز ما هو صالح/عمَّا هو طالح ولم يعد مناسبا لهذا العصر. وعموما فكلّ ما يتناقض بشكل صارخ مع قيم الحداثة الكونيَّة وحقوق الإنسان وكرامته ينبغي تحييده والتَّخلي عنه عن طريق ربطه بظروف لم تعد ظروفنا وعقليَّة قديمة لم تعد عقليتنا. وكلّ ما يتماشى مع قيم الحداثة الكونيَّة داخل تراثنا ينبغي التَّمسك به بل ونفض غبار الزَّمن عنه وتلميعه. لذلك أدعو لمواجهة طغيان الكلام الأصوليّ القديم على العرب إلى شيئين أساسيين: أوَّلا الكشف عن النُّصوص التَّنويريَّة في تراثنا وإعادة طبعها وتقديمها بلغة عربيَّة حديثة وإدخالها في برامج التَّعليم لكلّ الدُّول العربيَّة. وثانيًّا ترجمة أمَّهات النُّصوص التَّنويريَّة الأوروبيَّة وإدخالها في برامج التَّعليم أيضا. هذه هي الطريقة الوحيدة لمكافحة نصوص ابن تيمية وبقيَّة النُّصوص التراثيَّة التَّكفيريَّة الَّتي تهيمن علينا اليوم. نحن الآن في معركة يا سادة، في خطّ الجبهة الأوَّل! وإنَّها لمهمَّة عسيرة. وإنَّها لقصَّة كبيرة، هائلة، مخيفة. ولكن على قدر أهل العزم تأتي العزائم...
هاشم صالح
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد