«جبهة النصرة» تعود إلى حلب
«جبهة النصرة» تعود إلى مدينة حلب بعد حوالي عام ونصف العام من الخروج الكبير منها، منتصف العام 2014، في أعقاب هزيمتها المدوّية في المنطقة الشرقيّة على أيدي تنظيم «الدولة الاسلامية»، واضطرارها إلى تجميع قواها من جديد للإقلاع بمشروع زعيمها أبي محمد الجولاني بخصوص إقامة إمارة إسلاميّة، وهو ما حدث في محافظة إدلب.
وتأتي عودة «النصرة» إلى حلب، في ظلّ ظروف سياسيّة وعسكريّة معقّدة تمرّ بها الساحة السورية عموماً والحلبيّة خصوصاً، لا سيما في ظلّ تصاعد الحديث عن حملة عسكريّة كبيرة يجهّز لها الجيش السوري لاستعادة المدينة، وبالتزامن مع تصاعد أحداث العنف في المدينة التي شهدت أوّل تفجير انتحاري استهدف مقراً تابعاً لـ «أحرار الشام» منذ أيّام، وذلك بعد عامين من غياب هذه التفجيرات عن المدينة. وممّا لا شكّ فيه أنَّ هذه العودة ستؤدّي إلى خلط أوراق الجماعات المسلحة في حلب، والتي لن تسرّها رؤية «النصرة» وهي تستعيد هيمنتها في المدينة. وفي هذا السياق أُعلِن، أمس، عن الاندماج الكامل عسكرياً وسياسياً وإدارياً بين «الجبهة الشامية» و «ثوار الشام».
وكشفت الأرتال الضخمة التي سيّرتها «جبهة النصرة» بشكل متتالٍ نحو حلب، خلال الأيام السابقة، ووثّق دخولها للمدينة حساب «مراسل حلب» عبر مقاطع مصوّرة نشرها على «تويتر»، سرّ الحواجز التي نشرتها «الجبهة» خلال الأسبوعين السابقين، في بعض أحياء المدينة، والتي أثارت موجة واسعة من الانتقادات والاحتجاجات بين صفوف ناشطي المدينة. فهذه الحواجز لم تكن غاية بحدّ ذاتها، بل كانت، كما أظهرت الوقائع، تمهيداً لاستقبال الأرتال القادمة وتأمين حمايتها وضمان أمن المقار والمستودعات التي ستحطّ رحالها فيها. وكانت «النصرة» قد أقامت حواجز عدة أكبرها على الطريق الوحيد الواصل بين حلب وريفها الشمالي (الكاستيلو). والحاجز الثاني على دوار الصناعة في حي باب النيرب، والثالث أمام كازية الكنج في حي الكلاسة. كما قامت بمصادرة عدد من المباني والمستودعات في بعض أحياء حلب كالمشهد والفردوس لاستخدامها كمقار ومكاتب لقادتها وعناصرها القادمين.
وأظهرت المقاطع المصوّرة المنشورة، أرتالاً ضخمة من السيارات محمّلة بمقاتلين ومدجّجة بكل أنواع الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وهي تشقّ طريقها باتّجاه مدينة حلب وتدخل إلى أحيائها في ما يشبه الاستعراض العسكري. ويتألّف أكبر هذه الأرتال من مئات السيارات والشاحنات المزودة بالرشاشات. وما لم تظهره الصور، هو أنَّ هذه الأرتال كانت مصحوبة أيضاً بأعداد أخرى من الدبابات والمدفعية والعربات المصفحة، كما أفاد عدد من أهالي الأحياء التي دخلت إليها.
ورسمياً، عزت «جبهة النصرة» إرسال هذه الأرتال الضخمة إلى ضرورة تعزيز جبهة حلب لحمايتها من العمليّة العسكريّة التي يحضر لها الجيش السوري والتي تدلّ عليها، بحسب ما يتناقله مقربون منها، الحشود التي يجمعها الجيش على جبهات عدة حول المدينة. غير أنَّ هذا التبرير لم يقنع أحداً من نشطاء المدينة وقادة الفصائل فيها، خاصةً أنَّ تعزيز جبهات القتال يتطلّب التحشيد على خطوط التماس التي تشهد مواجهات مع الجيش السوري في أرياف حلب وليس داخل المدينة. وكان أوّل المحتجّين العسكريين مصطفى برو، قائد «تجمع فاستقم كما أمرت»، الذي وصف الخطوة «النصراوية» بأنَّها «تحرير المحرّر»، في إشارة إلى الاتّهام الذي طالما وُجِّه إلى تنظيم «داعش». وتساءل: «ما الذي جاؤوا لأجله»، واصفاً القائمين على الخطوة بـ «اصحاب العقول العقيمة». من جانبهم، أبدى العديد من الناشطين تخوّفهم من عودة «جبهة النصرة» وتحرّكها المفاجئ داخل مدينة حلب. وما زاد من قلقهم، أنَّ «النصرة» لم تستجب لمبادرة طرحها بعض قادة الفصائل وتتمحور حول إنشاء جهاز شرطة موحّد يتفرّغ لمهمّة ضمان الأمن داخل المدينة، على أن يخرج جميع المقاتلين باتّجاه نقاط الرباط ضدّ الجيش السوري. وهذا يعني أنَّ «جبهة النصرة» تضمر غايات أخرى لا تريد الكشف عنها.
وتشير معلومات حصلنا عليها من مصدر خاص، إلى أنَّ دخول أرتال «جبهة النصرة» كان مقرّرا منذ أشهر عدة، وحتى قبل التدخّل الروسي في نهاية أيلول الماضي. وأكّد المصدر، أنَّ المخطّط كان يقضي أن تأتي هذه الأرتال بعد فترة وجيزة من تعيين أبي هاجر الحمصي «أميراً للجبهة» على حلب في شهر آب الماضي، إلَّا أنَّ تسارع الأحداث وهبوب «عاصفة السوخوي» الروسيّة وهجوم الجيش السوري على ريف حلب الجنوبي، اضطر «النصرة» إلى تأجيل هذه الخطوة.
ولا يستبعد بعض الناشطين أن تكون لـ «جبهة النصرة» أهداف عدة في هذه المرحلة من وراء عودتها إلى أحياء حلب، قد يكون على رأسها ضمان موطأ قدم لها في العاصمة الاقتصادية للبلد، تمهيداً للإمساك بخيوط من اللعبة، تتيح لها فرض وقائع جديدة لعرقلة العملية السياسيّة التي وصف زعيمها الجولاني المشاركة فيها «بخيانة دماء الشهداء» ولم يخفِ نيته السعي إلى إفشالها. كما أنَّ تطورات الأوضاع الميدانيّة والتقدم الكبير الذي أحرزه الجيش السوري على عدد من الجبهات في اللاذقية وحلب ودرعا، دفعا قيادة «جبهة النصرة» إلى الإسراع في تنفيذ المخطّط الذي طالما داعب مخيلتها منذ السيطرة على إدلب، وهو ضمّ حلب إلى «إمارتها»، خاصة في ظلّ الخشية من أن تؤدّي عمليات الجيش وتقدمه نحو الريف الغربي، إلى تطويق معاقلها في إدلب ومحاصرتها.
ويتخوّف الناشطون أن يؤدّي دخول «النصرة» إلى حلب إلى تفاقم الحالة الأمنيّة وتطور الخلافات مع الفصائل، إلى اشتباكات مسلّحة كما حصل في أكثر من مكان. وما عزّز هذا الاحتمال، هو أنَّ المسؤول الشرعي العام في «جبهة النصرة» سامي العريدي، أردني الجنسية، أشار في تغريدات عبر حسابه الرسمي على «تويتر» إلى أنَّ «بعض الفصائل في المناطق المحرّرة هي ملاذ لخلايا البغدادي ولبقايا المفسدين»، وهو ما ضاعف مخاوف الناشطين من أن تكون الغاية الحقيقية هي إطلاق حملة جديدة للقضاء على المفسدين، كما جرى في ريف إدلب العام الماضي. ويبدو أنَّ الاتهامات التي بدأ أنصار «جبهة النصرة» توجيهها إلى فصائل، دون تسميتها، بالتعامل مع «النظام السوري» وتحضير حلب لتسليمها إليه، تصب في هذه الخانة.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد