رواية عن نشوء «داعش» في بلدة كفر حمرة
في العام 2013، ظهر «داعش» إلى العلن كتنظيم له امتداداته في العراق وسوريا ليتوسّع لاحقاً في مصر واليمن ويُصبح له العديد من المجنّدين في مختلف دول العالم. خلال مسيرة امتدت لأكثر من سنتين، تناقلت وسائل الإعلام قصصاً عن وحشيته على لسان منشقّين عنه أو مدنيين فرّوا من بطشه.
لكن، في سلسلة من ثلاث حلقات لمجلة «فورين بوليسي» الأميركية، تأتي «المذمّة من داخل البيت»، فيُقدّم «أبو أحمد»، وهو عنصر سوري فاعل في «داعش» شهد توسّع التنظيم الهائل بأم عينيه وأمضى أشهراً إلى جانب أعتى المُقاتلين الأجانب، رؤية «فريدة» عن سياسة زعيم التنظيم أبي بكر البغدادي «الماكرة» التي مهّدت الطريق لتوسّع «داعش» في سوريا، وعن جهود تنظيم «القاعدة» للحدّ من صعود «الدولة»، وعن الأسلحة المُرعبة في ترسانة ما يُسمى «الخلافة»، وعن توجّه «جماعة خراسان» الغامضة التابعة لتنظيم «القاعدة» إلى سوريا، لاستعادة بعض أتباع «الدولة».
قافلة «الخلافة»
في منتصف نيسان العام 2013، وصلت سيارة لونها خمري إلى مقرّ «مجلس شورى المجاهدين»، وهي جماعة «جهادية» سورية بقيادة «أبو الأثير»، في بلدة كفر حمرة شمال سوريا. لا شيء كان يوحي أن هذا اليوم مُختلف. لا أمن إضافيا عند بوابة المقرّ. الإنترنت كان يعمل طبيعيا. لم تكن السيارة جديدة كفايةً لجذب الانتباه، ولكنها أيضاً لم تكن قديمة. لم تكن مدرّعة، ولم يكن لديها لوحة ترخيص.
ترجّل من السيارة أربعة رجال بينهم رجل ذو لحية طويلة يرتدي قلنسوة سوداء مطوية مثل قبعة يعلوها شال أسود مُتساقط على كتفيه. في ما بعد، أدرك «أبو أحمد» أن الزائر هو أبو بكر البغدادي.
كل صباح، لمدة خمسة أيام على التوالي، كانت السيارة الخمرية اللون تُنزِل البغدادي ونائبه حجي بكر، في مقرّ «مجلس شورى المُجاهدين» في كفر حمرة، ثمّ تُقلّهما قبل غروب الشمس، مع السائق نفسه من المقرّ، إلى مكان سريّ ليلاً. في صباح اليوم التالي، كانت السيارة تعود أدراجها لإيصال البغدادي وبكر إلى المقرّ.
وعلى مدار تلك الأيام الخمسة، داخل مقرّ «مجلس شورى المجاهدين»، تحدّث البغدادي على نطاق واسع ومكثّف مع مجموعة من القادة «الجهاديين» المُهمّين في سوريا. كان هؤلاء من أكثر الرجال المطلوبين في العالم، كلهم تجمّعوا في غرفة واحدة، جلسوا على الفراش والوسائد على الأرض. وقاموا بتجهيز الفطور والغداء الذي كان عبارة عن دجاج مشوي وبطاطا مقلية وبعض المشروبات الغازية والشاي. وكان البغدادي يشرب إما «بيبسي» أو «ميرندا».
بالإضافة إلى البغدادي، كان بين الحاضرين: أمير «مجلس شورى المجاهدين» أبو الأثير، وأبو مصعب المصري، وهو قائد «جهادي» مصري، وعمر الشيشاني، وهو قائد جهادي شيشاني جاء إلى سوريا من جورجيا، وأبو الوليد الليبي، قائد «جهادي» من ليبيا أتى إلى سوريا، وعابد الليبي، وهو أمير من جماعة «البتّار الليبية» واثنان من قادة «النصرة» الأمنيين، وحجي بكر، الرجل الثاني في التنظيم بعد البغدادي.
تساءل «أبو أحمد» مذهولاً من تجمّع هذا العدد الكبير من كبار القادة: «لماذا أتى البغدادي من العراق إلى سوريا؟ لماذا اجتمع كل هؤلاء القادة والأمراء معه؟ وما هو الأمر الملحّ الذي جعل البغدادي نفسه موجوداً حتى نهاية الاجتماع؟».
وجاءه الجواب من أحد المُشاركين في المحادثات: «الشيخ هنا لإقناع الجميع بالتخلّي عن جبهة النصرة والجولاني. ينبغي على الجميع الانضمام والتوحّد تحت راية الدولة الإسلامية في العراق والشام والتي ستصبح قريباً دولة».
كذبة الولاء لـ «القاعدة»
واجه البغدادي مشكلة كبيرة في بداية سعيه لتحقيق هدفه بالحصول على المبايعة. فمعظم القادة المجتمعين بايعوا زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، فكيف يُمكنهم التخلّي فجأة عن الظواهري و «القاعدة» والتحوّل إلى البغدادي؟
وفقاً لـ «أبي أحمد»، أقنعهم البغدادي بأنه بايع الظواهري بيعة «غير مُعلنة بطلبٍ من الأخير»، مؤكداً أنه كان يتصرّف تحت قيادة زعيم «القاعدة».
وبما أن الظواهري، ربما الشخص الأكثر صعوبة في العالم للوصول إليه إذ إنه لم يظهر علناً منذ سنوات، ولا يزال مختبئاً في مكان ما في باكستان أو أفغانستان، لم يملك هؤلاء القادة أي وسيلة للتحقّق من صحّة ادعاء البغدادي.
وبما أن الظواهري غير قادر على التوسّط في النزاع بنفسه، كان على القادة حسم أمرهم بأنفسهم. فإذا كان البغدادي يتصرّف بأمر من الظواهري، فعليهم اتباع التراتبية والانضمام لـ «داعش»، أما إذا كان البغدادي يتصرّف مستقلّا، فإن خطته للاستيلاء على «النصرة» والمجموعات الأخرى تُعتبر «تمرّداً» وهذا قد يُقسّم «القاعدة» ويُوجِد فتنة بين كل «الجيوش الجهادية».
لذلك بايع القادة البغدادي «بيعة مشروطة»، قائلين: «إذا كان ما تقوله صحيحاً، فإذاً سندعمك»، وفقاً لـ «أبي أحمد».
خلال اللقاء، تحدّث البغدادي أيضاً عن إقامة «دولة إسلامية»، مشيراً إلى أن الأمر مُهمّ لأن المُسلمين بحاجة إلى دولة بأراضيها الخاصّة يُمكنها التوسّع منها عالمياً.
اختلف المشاركون إلى حدّ كبير على فكرة إقامة دولة. فمنذ وجوده، يعمل تنظيم «القاعدة» في الظلّ، كممثل خارج نطاق الدولة. لم يُسيطر علناً على أي أراض، بل ارتكب أعمال عنف من أماكن غير معروفة. بقاؤه كمنظمة سريّة كان له ميزة كبيرة: كان من الصعب جداً على العدو أن يجده أو يهاجمه أو يدمره. ولكن عن طريق إنشاء دولة، حسب رأي القادة سيكون من السهل جداً على العدو إيجادهم ومهاجمتهم. دولة ذات حدود معروفة ومؤسسات رسمية ستصبح هدفاً سهلاً.
قال «أبو الأثير»، لمقاتليه قبل وصول البغدادي، إنه ضدّ إعلان الدولة بشدّة، «بعض الناس يتحدّثون عن هذه الفكرة غير الحكيمة. ما هذا الجنون من إعلان الدولة خلال هذا الوقت من الحرب؟». بينما رأى «عمر الشيشاني» أن إعلان «الدولة» سيكون بمثابة دعوة مفتوحة للعدو لمهاجمتها.
وعلى الرغم من تردّد الكثيرين، أصرّ البغدادي على إنشاء دولة لأنه كان يطمح لـ «الحدود، والمواطنة، والمؤسسات، ولبيروقراطية العمل»، معتبراً أن عمل «الجهاديين» ذهب كلّه هباءً لأنهم لا يبسطون سيطرتهم صراحةً على أراضٍ خاصة بهم.
ولخّص «أبو أحمد» كلام البغدادي: «إذا استطاعت مثل هذه الدولة الإسلامية البقاء خلال مرحلتها الأولى، إذاً يُمكنها البقاء إلى الأبد».
وكان للبغدادي حجة مُقنعة أخرى: «يُمكن للدولة أن تكون بيتاً وحضناً للمسلمين من جميع أنحاء العالم. لأن تنظيم القاعدة كان متوارياً دائماً في الظل، كان من الصعب على المسلمين العاديين الانضمام له. ولكن الدولة الإسلامية، يُمكنها أن تجتذب الآلاف، بل الملايين، من أصحاب الفكر الجهادي وستكون كالمغناطيس».
ووفقاً لـ «أبي أحمد» قارن البغدادي والقادة الآخرين هذا الشيء بـ «هجرة النبي من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة هرباً من الملاحقة».
وناقش القادة المجتمعون على نطاق واسع كيف يُمكن لـ «الدولة» أن تعمل، كيف ستتعامل مع سُكانها، ما هو هدفها، وما هو موقفها من الأقليات الدينية.
وبعد أيام من الحديث، وافق كلّ مُشارك، بمن في ذلك المُشكّكون الأوائل، على خطّة البغدادي بشرط تعاون «الدولة الحديثة الولادة» بالكامل مع «النصرة» و «أحرار الشام». ووافق البغدادي على هذه الشروط. وكانت الخطوة التالية، على الفور، مُبايعته.
واحداً تلو الآخر، وقفوا أمام البغدادي، صافحوه وكرّروا الكلمات الآتية: «أبايع أمير المؤمنين، أبي بكر البغدادي القرشي، على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وعلى اثرة عليّ، وألا أُنازع الأمر أهله، إلا أن أرى كفراً بواحاً لي فيه من الله برهان».
ثم طلب البغدادي من كل قائد إحضار بعض من مقاتليه. دعا «أبو الأثير» المُقاتلين البلجيكيين والهولنديين والفرنسيين الذين كانوا تحت قيادته لهذه المناسبة. ومن بين الأجانب الذين التقوا البغدادي شخصياً وأعلنوا ولاءهم له كان «أبو سيّاف» (البلجيكي نبيل ازاهاف) والمعروف باسم «الذباح»، و «أبو الزبير»(البلجيكي زكريا اسباي)، و «أبو شيشان البلجيكي» (محمد سارالابوف)، و «أبو تميمة الفرنسي» الذي قُتل في تموز 2014.
في وقت لاحق من ذلك اليوم، عبّر الأوروبيون، الذين كانوا بمُعظمهم مُجرمين صغاراً في أمستردام وبروكسل وباريس، بكل حماسة للجميع كيف أنهم بايعوا البغدادي. وقام الكثيرون بالمثل. فيما بايع «أبو أحمد» «أبا الأثير».
بالنسبة لـ «جبهة النصرة» وقائدها أبو محمد الجولاني، كان هذا التطوّر كارثياً. كانت قيادة «النصرة» تُعارض بشدّة الانضمام لـ «داعش» لأن هذا يعني نهاية «القاعدة» في سوريا وانتهاء تأثير الظواهري في ساحة «الجهاد» الأكثر أهمية في العالم. أمر الجولاني مُقاتلي «النصرة» بعدم الانضمام لـ«داعش»، مُنتظراً إعلان الظواهري عمّن يجب أن يقود «الجهاد» في سوريا.
لم تمتثل الأغلبية العظمى من قادة ومقاتلي «النصرة» لأمره، وانضم 90 في المئة من مُقاتلي «النصرة» في حلب لـ «داعش» بعد بضعة أسابيع فقط، وفقاً لـ «أبي أحمد».
وعلى اعتبار أنهم «الأغلبية الواضحة بين المُقاتلين»، أمر جنود البغدادي الجُدُد المُوالين القلائل المتبقّين لـ «النصرة» بالخروج من مستشفى العيون، الذي كان، حتى ذلك الحين، قاعدة «النصرة» الرئيسية في المدينة.
في كل مكان في شمال سوريا، استولى تنظيم «داعش» على مقارّ «النُصرة» ومخابئ الذخيرة ومخازن الأسلحة. والمُثير للدهشة أن جناح «القاعدة» في سوريا أصبح يُقاتل فجأةً فقط من أجل وجوده. عصر جديد قد بدأ، عصر «الدولة الإسلامية».
نغم أسعد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد