عن صواريخ «ستينغر».. وأفغنة سوريا
بدت الحرب السوريّة كما لو كانت تُسيَّر على نحو غير مسبوق، نحو إنتاج أرضية تمهد مجمل الظروف أمام كبار المنخرطين، في سبيل صناعة الحل «النهائي» الناجز والخاضع لحتميّة «تفوق» الولايات المتحدة وروسيا، سواء في مجال «الرعاية» المباشرة للحرب الأهليّة الداخلية، أو في تمكنهما (المتفاوت) من غالبية المفاصل المتحكمة بالديبلوماسية الدولية. وقد ساهمت في تكوين القناعة هذه التبدلات الميدانية والتغييرات السياسية المرافقة لوقائع المعركة الجديدة، إضافة الى استشعار دمشق والمقربين منها بأن خطوطاً حمراء ذاتية تسيّر نسق «المشروع» الأميركي في الداخل السوري، القائم على فكرة رفض التدخل المباشر أو تعزيز فرص إسقاط النظام، في مقابل قناعة أخرى لدى المعارضين، مفادها أن «أصدقاءهم» الإقليميين والدوليين باتوا عاجزين عن المناورة في ظل «التمدد» العسكري الروسي، وفرض موسكو قواعد جديدة في إدارة الأجواء وحتى في طبيعة الحرب البريّة.
اقترنت جرعات التفاؤل لدى جمهور إنهاء الحرب على توازناتها الحاليّة، بالحديث المتواتر عن «عقيدة» أوباما، واتجاه الأميركيين نحو تخفيف زخم تواجدهم في المنطقة، والصعود شرقاً لتعزيز عملية «احتواء الصين»، والتي تتطلب مجهوداً متواصلاً ولعقود طويلة. وعلى هذا المنوال، ترسخت قناعات رفع اليد عن المنطقة انطلاقاً من سوريا، لا سيّما بعد تخفيض الأميركيين سقف طموحات حلفائهم المحليين وكذلك الإقليميين، حتى ظهرت الأمور وكأنها تذهب نحو لفلفة الحرب في شاكلة تبقي المنظومة «الفوقية» الحالية على حالها، أو على الأقل بما تبقى منها، مع الحفاظ على الخريطة «الوطنية» من دون الأخذ بالاعتبار مجمل التبدلات الجيوسياسية التي كوّنتها فسيفساء الحرب.
يتطلب الخروج بتقدير لطبيعة الموقف بعد التلويح الأميركي الخجول بورقة الصواريخ المضادة للطائرات، قدراً مختلفاً من جرعات التفاؤل والبناء عليها، بمعزل عن مسار الهدن «الزمنيّة» الخاضعة للشد والجذب بين واشنطن وموسكو، لكنه لا يفترض بطبيعة الحال البناء على إمكانية حصول مواجهة شاملة بين الروس و «حلف شمال الأطلسي»، إذ إن طبيعة «الميدان» المختلَف عليه لا يمكن أن تشكل سبباً أو مدخلاً نحو صراعات دولية تتجاوز حدود حروب الوكالة، أو تدعيم الأطراف المقاتلة بما يمكّنها من تغيير المعادلات. لكن تعزيزاً كهذا قد يسهم في تحويل الحرب السورية إلى معركة استنزاف متبادلة طويلة الأمد، تعتمد خواتيمها على طبيعة التبدلات في موازين القوى الدوليّة، ومدى إمكانية إحداث اختراقة حقيقيّة في تركيبة العلاقة الشائكة بين الأطراف الاقليمية الفاعلة، أو بين هذه الأطراف والقوى الدوليّة وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية.
في خضم الاحتلال السوفياتي لأفغانستان خلال ثمانينيات القرن الماضي، آثرت الولايات المتحدة اعتماد «عقيدة» ريغن في إدارة الملف الأفغاني لمواجهة موسكو، في ظل تشجيع مستمر للأميركيين من حلفائهم الإقليميين للانغماس أكثر في المعترك الأفغاني لاستنزاف السوفيات في أسوأ ظروفهم التاريخية. هكذا اقترنت حماسة الرئيس الباكستاني محمد ضياء الحق بطموح رجل الاستخبارات الأميركي مايكل جي فيكيرز، لتنتج مقاربة أكثر حدة في التعاطي مع الطرف المقابل في الحرب الباردة «العظمى». ارتكزت هذه المقاربة على إغراق الساحة الأفغانية بمئات الصواريخ المضادة للطائرات العمودية والنفاثة من طراز (FIM-92)، ضمن عمليّة «سايكلون» الشهيرة، لتبدأ مشاهد الطائرات المحترقة في صياغة الصورة النهائية للحرب الأفغانية، وربما الصورة النهائية للاتحاد السوفياتي ذاته.
ما بين «عقيدة» الراحل رونالد ريغن وتلك الخاصة بالرئيس الحالي باراك أوباما، ثلاثة عقود لم تكن كافية لإعادة صياغة حدود الاستثمار الممكن والمتاح، عند التعاطي مع الجماعات الإسلامية الراديكاليّة، خاصة أن الاتصال العقائدي والفكري وحتى «التنظيمي»، بين «مجاهدي» الحرب الأفغانية قبل ثلاثين عاماً ومجاهدي الحرب السوريّة، ما زال قائماً وبنسب متفاوتة. بل إن بعض القادة في صفوف التنظيمات الناشطة في سوريا كانوا من المقاتلين البارزين في الحرب ضد السوفيات. هكذا تبدو أميركا وكأنها على وشك إخراج الأرنب القديم ذاته ومن القبعة القديمة نفسها، على اعتبار أن الأداة هذه قد نالت حصّتها من الاختبار العملي، وباتت سلاحاً فعالاً في إحداث تغيير درامي، خاصة في حروب الاستنزاف ما بين الجيوش المتقدمة والمجموعات العسكرية غير النظاميّة. وما يساعد على ذلك هو أن الإقليم حافل بـ «الأصدقاء» المتحمسين لتمويل وتجهيز الجماعات المقاتلة السورية بالأسلحة النوعيّة اللازمة لاستنساخ التجربة الأفغانيّة.
في مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» العام 2011، قال مايكل جي فيكيرز منظر حرب «الستينغر» والذي عمل لاحقاً مستشاراً لدى وزير الدفاع الأميركي السابق ليون بانيتا، إن الولايات المتحدة تحالفت مع الشيطان لهزيمة شيطان آخر، وإن أصدقاءها في حرب أفغانستان أضحوا ألدّ أعدائها هذه الأيام، لكنه أضاف عبارة أكثر عمقاً، تتمحور حول ضرورة الاستمرار في ضرب «الجهاديين» في سوريا واليمن والعراق وأفغانستان والصومال، خاصة سوريا. علماً أنه قال هذا الكلام قبل انطلاقة الحرب الأهليّة الحالية، تحديدا خلال العام 2008، حيث أن إعادة استثمار هذه العناصر في حروب الوكالة الحديثة قد يؤدي إلى مخاطر تاريخية كبرى. وهذا منطق يتقاطع مع مخرجات الفوضى السورية، حتى من دون تحويل «الجهاديين» خطابهم نحو استعداء الولايات المتحدة باستثناء «تنظيم الدولة الإسلاميّة» طبعاً. إذ سجلت الأعوام الأخيرة تكاثراً تاريخياً للخلايا الراديكالية الناشطة في الغرب، والتي تسببت بعشرات عمليات القتل في صفوف المدنيين، في ظل تمدد غير مسبوق لمثل هذه الجماعات، وحصولها على معاقل آمنة في سوريا وبعض مناطق اليمن، بالحد الأدنى من ضربات الطائرات الأميركية المسيّرة عن بعد.
لا يفترض هنا الخروج بصورة واضحة لاتجاهات الحرب الأهليّة السورية، في ظل العمليّة السياسية الهشة التي تنشط فيها الديبلوماسية الدولية في سبيل إيجاد مخارج تحفظ ما تيسّر من ماء وجه جميع المتدخلين الكبار. لكن المعضلة الأساس تتركز في التناقض الهائل في أدوات الإدارة الأميركية، إذ تبدو وزارة الدفاع وكأنها تعمل بعقل «واعٍ» وخاص بها، بمعزل عن التطورات التي ساهمت في تشكيل المقاربة الجديدة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، حيث لم يعد من الممكن اعتبار السير باتجاه دعم الجماعات الراديكاليّة أو «الإرهابيّة» مجرد خطوة في لعبة الشطرنج الكبرى مع الروس، خاصة أن إدخال السلاح النوعي في المعركة اليوم، مهما كان مؤذياً في المنتج العسكري المباشر، الا أنه سيشكل مجرد مقدمة لتوسيع حدود الانخراط الروسي وربما الحلفاء الإقليميين أيضاً. لكنه سيفضي إلى نتائج مباشرة ومؤثرة في تعزيز عمليّة «الاستيلاد» الداخلي للجماعات المتطرفة، ويفتح المنطقة وحتى الغرب على احتمالات فوضوية أكثر دموية من نماذج تنظيم «الدولة الاسلامية» أو «جبهة النصرة».
عبد الله زغيب
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد