إدوارد سعيد وماركيز لم يفلحا بإخراج الرقص الشرقي من العتمة
الرقص الشرقي من الفنون الأكثر تداخلا مع العادات الاجتماعية رغم تحفظات المجتمع عليه ووصمه بالدونية والضعة! يستدعي الناس الراقصة ويحتفون بها لمنح مناسباتهم السعيدة الوجاهة، لكن الرقص يظل رغم ذلك حالة محاطة بسياج من التحفظات. ثمة من يعزو هذه المفارقة إلى المسافة بين نظرية الرقص كفن وتطبيقاته العملية التي تصل أحيانا حد الابتذال. وآخرون أكثر صراحة يعتبرون أن المفارقة تفضح ازدواجية، من بين ازدواجيات عدة نحياها في مجتمعاتنا العربية، تمضي خلالها الأمور المتناقضة في خطوط متوازية لكنها، تتقاطع أحيانا لتولد الأسئلة الانفجارية.
كانت المفارقة الأكبر، عندما كتب إدوارد سعيد عن الراقصة المعروفة تحية كاريوكا. يومها، أكد البعض أن مفاجأة سعيد نتجت عن اهتمام عالمي بالفن الشعبي، واعتناء غير مسبوق بدراسة الفئات المهمشة. الرقص كفعل مهمش ثقافيا، أصبح فجأة بسبب سعيد، داخل المتن. لأن المبادرة عندما تأتي من مفكر بحجمه له اهتماماته المعروفة، تنقل موضوع الرقص الى داخل بؤرة اهتمام المثقفين. ولأن المثقفين العرب يحبون عادة التقسيمات المسبقة والمتعسفة بين ما هو ثقافي وما هو غير ثقافي، فقد حاول البعض الوصول إلى مبرر لائق ثقافيا. هناك من استحضر تاريخ تحية كاريوكا السياسي، وحاول التأكيد على أن إدوارد سعيد اهتم بنضالها لا بجسدها الذي كان وقت الكتابة قد أصبح كيانا متحفيا! وهناك من أشار إلى أنه كان يعيد الاعتبار لا إلى الرقص فقط بل إلى المرأة أيضا. وهو بذلك يختلف عن ماركيز مثلا الذي كتب عن شاكيرا لمجرد أنه كان منجذبا إلى مجالها المغناطيسي كأنثى. وإذا افترضنا صحة ما قيل عن ماركيز، فهل يمكن أن نؤكد أنه لا ينطبق على إدوارد سعيد؟ سؤال لن يجد إجابة يقينية. لكن القول بإعجاب سعيد بكاريوكا كراقصة، لا ينبغي بكل تأكيد، أن ينظر إليه على أنه يقلل من شأنه كمفكر. في عام 1950 كان سعيد في القاهرة، في كازينو بديعة، شاهد تحية كاريوكا ترقص، ربما لم تلاحظ هي وجوده أساسا. فهو مجرد فرد بين العشرات الذين يتابعون أداءها. شعر وقتها كما لو كانت تقدم وصلة من الحركات الايحائية الغامضة. يبدو أنها رؤية غير فردية، فهناك من ينطلق من هذا التلويح الايحائي إلى نتائج أبعد، تسيطر على رؤيتنا إلى الرقص الشرقي ككل.
الروائي فتحي امبابي يرى أن الرقص الشرقي يقدم إيحاءات لا تتم: "إنه تعبير أحادي الجانب عن علاقة واضحة جدا بين امرأة تعرض مفاتنها أمام مجموعة من الرجال، وهو ما يعني أن هناك إثارة للغرائز، لكنها إثارة بها إزاحة. انه رقص يبني علاقة وهمية تختلف عما يقدمه الرقص الشعبي النوبي والمصري واللبناني والكردي. في تلك الرقصات يكون هناك طرفان دائما، مما يجعل الفن يمضي في إطار علاقة سوية. أما الرقص الشرقي فيعد دون أن يفي، مما يجعل العلاقة غير سوية على الإطلاق". هذا التحليل يخرج بالرقص الشرقي من دائرة الفن إلى دائرة أخرى تتماشى مع عروض من نوع آخر. تعليق يعقب عليه امبابي قائلا:" المشكلة تكمن في الراقصة نفسها، ومدى إحساسها بما تقدمه وما إذا كان فنا أو شيئا آخر. من هنا يصبح الحديث عن تطوير هذا الفن أسوة بفنون أخرى تعتمد على الأداء الجسدي عبثا. فالباليه والرقص التعبيري والشعبي يمكن أن تتطور، أما الرقص الشرقي فلا ينطبق عليه هذا الكلام. لأن المفهوم السائد عند الراقصات عنه غير مكتمل". يبدو أن وجهة النظر هذه لا تتضمن تعاليا من المثقف على الرقص الشرقي بقدر ما تعبر عن وجهة نظر سائدة حتى على المستوى الأكاديمي. ورغم أن الفنون الشعبية كلها حظيت باهتمام الأكاديميين إلا أن الرقص الشرقي ظل استثناء.
فن مطرود من رحمة الأكاديميات
"أكاديمياً نحن لا نقترب من الرقص الشرقي على الإطلاق"، عبارة تقريرية لها ما يبررها عند الدكتور حسام محسب، أستاذ الرقص الشعبي المصري بالمعهد العالي للفنون الشعبية. فهو يؤكد بحسم أنه فن يعتمد على الإغراء. كلمات الدكتور محسب تنقل الرقص إذن بطريقة تلقائية إلى دائرة الفنون المبتذلة التي لا تستحق أدنى اهتمام أكاديمي، أما مظاهر الاهتمام الأخرى كإقامة مهرجان أو انشاء مدرسة لتعليمه، فلا تعدو أن تكون مصدرا لاستفادات مادية للقائمين عليها، حسبما يرى محسب. وهو يضيف:" أعتقد أن هناك من غذى سحر الشرق لدى الغربيين بأجواء الف ليلة، وقام بتصدير الرقص الشرقي على أنه رقصنا الشعبي حتى أصبح الكثيرون هناك يعتقدون ذلك، بينما نحن، لا نوليه هنا اي اهتمام أكاديمي، ولا نخصص له ساعات دراسة او مناهج". لكن تعاملت الدراسات الشعبية مع كل شيء دون أن يحكمها الإطار الأخلاقي في أحيان كثيرة. فالهدف النهائي علمي، تعليق يجيب عليه الدكتور محسب قائلا: "دراسة الفولكلور لا تتعامل مع الرقص فقط. فعندما ندرس الرقص البدوي مثلا نجده متداخلا مع نسيج المجتمع البدوي الذي تخضع عاداته وتقاليده، للدراسة والتعرف على الظروف التى نشأ فيها وتطوره ودلالاته وكيفية تعبيره عن متغيرات حياتية. وهو ما لا يمكن أن يتحقق مع الرقص الشرقي، لأنه غير متلاحم مع مجتمع محيط به بنفس الدرجة".
لكن هل فكرت كمتابع عادي في الأسباب التي جعلت الرقص الشرقي يتوقف عند مرحلة البدايات دون أن نشهد له تطويرا حقيقيا؟ سؤال يرد عليه حسام محسب قائلا:" لأنه يعتمد على القدرات الشخصية للراقصة. والراقصات جعلن الإضافات محصورة في أسلوب الهز أو المنطقة التي تهتز أكثر. هنّ لم يتعاملن معه كفن وإنما أصبحت كل راقصة تكتسب شهرتها من قدرتها على جذب الانتباه بأفعال غير فنية". يبدو الدكتور محسب حانقا مما يحدث "لأن الرقص الشرقي سرق الأضواء من الرقص الشعبي المصري الذي بدأ ينقرض. ولأن المتفرج الأجنبي بات مقتنعا أن الرقص الشرقي هو الرقص الشعبي المصري. وكثير من أفراد المجتمع المصري أصبحوا لا يذكرون رقصات شعبية عديدة. وهكذا أصبحنا في مواجهة خطر حقيقي باندثار فنون اكثر رقيا. نحن نحتاج أن ندعم مهرجانات مثل مهرجان التحطيب (رقصة شعبية مصرية يستخدم الرجال الراقصون فيها العصي)، عقدت دورته الأولى بمدينة الأقصر في منتصف التسعينات ولم تتكرر. هذا مجرد مثال من بين أمثلة عديدة لفنون تحتاج تكريسا بدلا من تركيز الأضواء على الرقص الشرقي رغم عدم أهميته". عدم الأهمية مسألة لا توافق عليها الشاعرة فاطمة ناعوت، بل هي ترى العكس:" فكما تمرّدٌ الشعرُ على (عادية) اللغة، فالرقصُ تمرّدٌ على (عادية) الجسد. الجسدُ يمشي ويركضُ وينام ويجلس ويقعد وينثني لالتقاط شيء من الأرض. لكن الفنَّ يجعله يرسم في الهواء لوحاتٍ تشكيلية لا تعبأ بالوظيفة البيولوجية، والانتصار يكون للوظيفة الجمالية وحسب. وفي كل يوم نطالع أبحاثاً وتقاريرَ جديدةً تؤكد فوائد الرقص على الصحة النفسية والبيولوجية والاتزان الروحي. ويذهب المؤرخون إلى أن الرقصَ ظهر كطقس عبادة في الحضارات القديمة قبل أن يتحول فناً يصاحبه فنٌّ آخر هو الموسيقى. وحتى الآن نجد بعض القبائل الإفريقية تتوسله لجلب المطر وإرضاء الرب الغاضب. وكلنا يعرف رقصة سالومي ورقصات فتيات قادش وغيرها من الرقصات التي تحمل دلالاتها وحكاياها".
راقصات الروايات إلى اندثار
وفقا لهذا التصور كانت شخصية الراقصة أكثر حضورا في إبداعات الكثير من الكتاب أمثال نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس. فهي في النهاية شخصية تملك ثراء دراميا بحكم عالمها الذي كانت خفاياه غامضة بالنسبة لكثيرين. لكن في أجيال تالية بدأت هذه الشخصية تتقلص أدبيا، ملاحظة أولى تليها أخرى، لماذا اقتصر استحضارها على الكاتب الرجل دون الكاتبة المرأة؟ أهي حالة من شبق الإبداع الذكوري؟ أم ازدراء من الإبداع النسوي؟ أم أنها حالة تعال عامة من مبدعين رأوا أن هناك قضايا أهم من الراقصات التي قد تحصل الواحدة منهن في ليلة على ما يمكن أن يحصل عليه المبدع طوال عمره؟ طوفان من الأسئلة يتعاقب، فترد فاطمة ناعوت:" عادة ما يستلهمُ المبدعُ نموذجَه الإبداعي من خلال مُعادِلِه أو "مُخالِفِه" النوعيّ. فالمرأةُ تستلهم الفارسَ والفاتحَ أي عوليس أو صلاح الدين، في حين أن ملهمة الرجل هي حواء أو نصفه الحلو، بالتعبير المصري، حتى وإن كانت الأم. بالتأكيد هذا منزعٌ كلاسيكيٌّ تجاوزه المبدعون الآن. ليس بإسقاط النوع عن البطل، بل بإسقاط البطل ذاته. وهذا أحد أهم مفردات الخطاب ما بعد الحداثي من حيث سقوط السلطة وتنحية البطل لصالح إعلاء المهمش والبسيط إلى آخر تلك النزعات الجديدة". حتى هذه اللحظة يظل الابتذال عنصرا غير مطروح في كلمات فاطمة ناعوت التي تواصل:" ظلّت الراقصةُ مثالا وتجليًّا يشير إلى فتنة الخالق في إبداع جسد المرأة بإمكاناته المدهشة، بعيدا عن المنازع الشهوانية. الجسدُ في جدليته الرفيعة مع الطبيعة حين لا يحتاج الى كلماتٍ ليقول ولا لغةً لكي يحكي. ومن ثم لن نعجب من أن تظهر الراقصةُ الشرقية كملهمة للمبدع مثلما زبيدة الافتراضية عند نجيب محفوظ، وتحية كاريوكا الواقعية عند إدوارد سعيد. الراقصاتُ كنّ يقدمن تابلوهاتٍ رفيعةً تكاد تحاكي الباليه من حيث اكتنازها للطاقة الدرامية. برعت في هذا نجوى فؤاد وسامية جمال، وأيضا أستاذة الرقص فريدة فهمي وغيرهن. كما كنا نجد في أفلام ليلى مراد خلفيات راقصة مدهشة لأغانيها، تؤديها حسناوات مدربات على الأداء الرفيع. كان للرقص الشرقي مكانته واحترامه من قِبَل المؤسسة الاجتماعية والإعلامية والثقافية، كلون رفيع من ألوان الفنون. ومن ثم كان من الطبيعي أن تكون الراقصةُ ملهمةً للمبدع والمبدعة على السواء". على عكس البدايات أصبحت عبارات فاطمة الأخيرة تبدأ بالفعل الماضي كان، مما يدل على التمهيد لتحول دراماتيكي حدث وقلب الأمور إلى النقيض، تواصل: "لكن أمرين مريرين حدثا فقتلا تماما هذه الظاهرة. أولهما أن الرقصَ تبدّل مفهومه لدى البعض ما أدى إلى انتشار فقيرات الموهبة ممن ظنن أن الرقص مرادفٌ لابتذال الجسد والإثارة المنفرة". ها نحن وصلنا إلى نقطة التقاء أخيرا بين مؤيدي الرقص الشرقي ومعارضيه. في هذه اللحظة الحاسمة التي بدلت فيها فقيرات الموهبة مفاهيم الرقص الشرقي حدث متغير آخر ربما يكون رد فعل، وقد يكون حدث مواز دخل في سياق ما نتحدث عنه بحدة. تقول فاطمة ناعوت:" واكب ذلك بزوغ عصر الانحطاط الذائقيّ في الربع الأخير من القرن الماضي. الأمر الثاني هو سيادة المد الدينيّ في العصر الساداتي. ذلك المد السلفيّ الذي لو استطاع لحرّمَ وألغى كل ألوان الفنون من موسيقى إلى تشكيل إلى أدب إلى غناء، فضلا عن الرقص بطبيعة الحال. كل هذه الأشياء مجتمعةً كرّست فكرة خاطئة مفادُها إن الرقص إهانة لجسد المرأة وبالتالي للمرأة نفسها. ومن ثم من النادر أن تجد الراقصة ملهمة للكاتبة. على أنني أؤمن أنه لا جنسَ فنيًّا في ذاته مبتذلٌ، كما لا جنسَ فنيًّا بذاته رفيع. بل عبر كل فن بوسعنا أن نرصد الرفيعَ والمنحط. ولهذا كانت "نيلي كريم" في أحد أفلامها ملهمةً لي فكتبت فيها وعنها مقالا وقصيدة بوصفها الباليرينا الخلاسية التي قررت أن تحيا". لم تكن نيللى كريم تؤدي رقصة باليه عندما كتبت عنها فاطمة، وإنما كانت تقدم تابلوهات لرقصات شرقية، والرقصات الشرقية نجحت في لفت انتباه المبدعة فاستلهمتها وكتبت عنها.
مهنة مثل كل المهن... ولكن
بعيدا عن عالم المثقفين والأكاديميين الذي يتعالى حينا ويتجاهل الآخر أحيانا (أو الأخرى في هذه الحالة!) يبدو عالم الراقصات مثيرا لآخرين، خاصة هؤلاء القادمين من بعيد. قبل سنوات أصدرت الجامعة الأميركية بالقاهرة كتابا عنوانه "مهنة مثل كل المهن"، ترجمت مرفت عمارة فصولا منه ونشرتها بأسبوعية "أخبار الأدب" القاهرية، وظهر بوضوح أن مؤلفته كارين فان نيو كيرك رصدت تحولات الراقصات، وقدمت أوجه الاختلاف بين فئات عديدة منهن، ففرقت بين العوالم والغوازي قائلة:" وصف "سافاري" العوالم بأنهن كن الاكثر مثابرة على التعليم لذلك كان يطلق عليهن لقب العالمات. وهي الفئة القائمة على تعليم النساء كتابة الشعر، والتأليف الموسيقي، والارتجال في الموال، والغناء والعزف، حيث كن يقدمن عروضهن للنساء فقط في الحرملك، لذلك يلاقين احتراما وإجلالا طالما لايقدمن عروضهن أمام رجال ويلتزمن قواعد الاحتشام. أما الغوازي فيقدمن الفن علنا في الشوارع وأحيانا في صحن المنزل، والموالد والمناسبات الدينية، ويعشن كمرتحلات في قبائل منفصلة مثل الغجر، حيث قدر عددهن سنة 1817 بحوالي من 6 إلى 8 آلاف، كلهن مسلمات يتحدثن العربية بالإضافة إلى لغة سرية تعرف "بالسيم" غير معروفة خارج نطاقهن".
مرحلة ازدهار الرقص كانت مع الحرب العالمية الثانية. الازدهار بلغ حدا غير مسبوق، لكنه أيضا شهد ظواهر كوميدية: "عندما حلت الحرب العالمية الثانية حدث ازدهار مرة أخرى، كثير من الراقصات انطلقن في أوروبا وحصلن على عقود عمل بالنمسا، ورقصت حكمت فهمي أمام هتلر وموسوليني، ورقصت أمينة محمد أمام جورنج في ليبيا، وامتلأت الملاهي الليلية بالضباط الانجليز. وللحصول على رضاء الانجليز غيرت شوشو بارودي اسم الرقص الشرقي إلى: رقص الحلفاء ونجاح الديمقراطية(!!) وشارع الهرم الذي شقه الخديوي اسماعيل اثناء افتتاح قناة السويس لنقل ضيوفه من القاهرة إلى الأهرام أصبح اكثر المناطق فخامة وترفا"، لكن نظرية الرقص كفن اصطدمت بالتطبيقات المبتذلة من جديد وتفاعل كل ذلك مع تحولات المجتمع والفكر السياسي المختلف فبدأت المواجهات من جديد".
صمود أسطوري رغم التضييق
وكما حدث في الحرب الاولى، بدأت الشرطة في مهاجمة وتفتيش الصالات، وزادت سلطة "الاخوان المسلمين" خلال الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وبعد الحرب شنت حملة ضد الدعارة والملاهي الليلية. وفي سنة 1949 اعتبرت الدعارة عملا يعاقب عليه القانون بالحبس فترة تتراوح ما بين ثلاثة شهور وثلاث سنوات.( يلاحظ هنا أن المؤلفة ربطت الدعارة بالرقص مما يدل على وجود تجاوزات أدت إلى هذا الخلط) وأصبح عليهن العمل في الخفاء والذوبان في أنحاء القاهرة. واحترق كازينو بديعة مصابني في حريق القاهرة سنة 1952. وجاء عبد الناصر ليحث على إعادة الحياة إلى الفن الشعبي، والرقص والموسيقى الفلكلورية، لاعادة إحياء مجد الثقافة العربية. وكان ينظر للراقصات الشرقيات حينها، على انهن صورة سيئة للنساء العربيات المسلمات، وألزمت الراقصات العربيات ارتداء الملابس المحتشمة، وتغطية الوسط، وعاد اختراق القوانين للظهور مرة أخرى. فغطت الراقصات الوسط بقماش شفاف، بلون جلد البشرة أو شبك متحرك، مع اضافة الانوار الحمراء والجرس للتنبيه من "كبسة" بوليس الآداب. ووضع السادات سنة 1973 نظاما جديدا يتطلب مزيدا من وثائق التسجيل والشهادات، تحت اشراف هيئة المصنفات الفنية، على المسارح والافلام والموسيقى والرقص، مما يتطلب إجازة منها، لتأدية تلك النشاطات لا يحصل عليها الا بعد اجتياز الفنانة امتحاناً تثبت فيه قدراتها الفنية العالية سواء في الرقص أو الغناء، وقبل ذلك عليها إحضار تقرير من الشرطة والضرائب. وتتكون لجنة الامتحان من أربعة محكمين لتقدير الدرجات حول مستوى الاداء والملابس والسلوك تجاه العملاء، تمنح بعدها شهادة لتنضم إلى اوراق من وزارة السياحة وبوليس الآداب للسماح لها بالعمل في الملاهي الليلية. كما تكتب وظيفة "فنانة" في البطاقة الشخصية مما يتيح لها التواجد بعد منتصف الليل في الشارع دون القبض عليها بتهمة ممارسة الدعارة، مع تحديد شكل الزي بحيث يحتوي فتحة تبدأ عند الركبة، ومنع التعامل مع الزبائن نهائيا". العوامل كلها تجتمع ضد الرقص ومع ذلك يظل قادرا على الصمود(!).
الفيديو كليب غيّر معنى المتعة
يلخص الروائي فتحي امبابي بعض هذه العوامل بقوله:" ظهور التلفزيون وانتشار الفيديو كليب، أديا إلى انحسار دور الراقصة في أماكن بعينها ومناسبات محدودة، قبل ظهور التلفزيون كانت مشاهدة الراقصة أشبه بطقس شهري وتيمة متكررة في حياة بعض المصريين. وكان طبيعيا أن توجد شخصية الراقصة في الأعمال الأدبية. الآن تغير مفهوم المتعة. وهو المفهوم الذي أرى أنه كان مرتبطا بشكل ما بالعبودية والجواري. في روايتي "نهر السماء" عبرت عن ذلك. كانت شخصية الراقصة التي كتبتها تتصرف كجارية تحكي كيف أنها أسيرة هذا النوع من الرقص، تعيش حالة فصام بين حب مفقود والرقص الذي أصبح تعبيرا عما تحلم به وما ترغبه". العودة إلى تناول الأدب لشخصية الراقصة يطرح سؤالا: هل كانت الكتابة عن الراقصات حكرا على الكتاب الرجال؟ سؤال يرى امبابي أنه جائر، ويبرر: "شخصية الراقصة كانت موجودة في اعمال كتاب الخمسينات، انحسرت بعض الشىء في أدب الستينات، وعندما تزايد عدد الكاتبات كانت الكتابة عن الراقصات قد انحسرت لدى معظم الكتاب، اى انها كانت مرحلة لم تلحق بها المرأة الكاتبة".
أثناء هذا النقاش حول الرقص الشرقي هناك عشرات الراقصات بلا شك يؤدين وصلاتهن دون ان يشغلن أنفسهن بجدليات المثقفين الذين لا يجد بعضهم قراء بعدد المعجبين براقصة واحدة. وفي الوقت نفسه يتعرض الرقص الشرقي لمحاولة سرقة غريبة. فقبل عامين اصدرت جامعة تل ابيب دراسة حذرت فيها من إقبال الفتيات الأجنبيات على تعلم الرقص على يد راقصات عربيات. وحسبما نشرت يديعوت احرونوت كانت هناك تحذيرات من استيلاء العرب على هذا الفن الذي رأت أنه ابتكار يهودي قديم، او على اقل تقدير يعتبر تراثا مشتركا بين الإسرائيليين والمصريين يمكن أن يبني جسور السلام بين الأجيال الحالية!
ايهاب الحضري
المصدر: الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد