تخريفات المشايخ حول وحش آخر الزمان
سامح عسكر: أشاع الشيوخ بين الناس أن من علامات الساعة خروج (وحش كبير وضخم) يكلم الناس بكلام البشر، وستكون هذه معجزة ناطقة ورسالة بقُرب فناء الكون..لكن عند تأمل القرآن والآية التي يستدلون بها تجد شيئا آخر مختلف..
قالوا في تفسير قوله تعالى "وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون" [النمل : 82] أن هذه الدابة المقصودة هي مخلوق غريب ومخيف وكبير ، وكما ترون في الصور تعج قنوات اليوتيوب بصور مختلفة لها من خيال صانعيها.. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن فورا، قول الدابة بآياتنا...وهل الآيات الدالة على وجود الله تنسب لله أم للدابة؟..هذا أولا، أما خروجها كعلامة للساعة معلوم أنه لإقامة الحجة..فما الحجة التي تقوم بها وقد كذبت أقوام صالح بالناقة ونوح بالسفينة ويونس بالحوت..إلخ..هذا يعني أن بعث الدابة في ذاته وبالتصور الذي يتصوره الشيوخ هو مجرد تحصيل حاصل لن ينتج إيمان كما يتخيلون..
كذلك هذه حادثة كبرى لم تحدث حتى مع الأنبياء..فمع معجزات موسى وعيسى وصالح ونوح ويونس إلا أن هذه البهيمة لم تخرج لهم..فما الحكمة في خروجها يوم القيامة؟..وهكذا.. دون قائم بأمرها يفسر ما عليه الدابة..كيف ستكلم الناس وبأي لغة؟..ماذا لو قالوا أنها خدعة أو فسروها تفسيرا علميا؟..أو جاءت صدفة على منطق الشذوذ كما يحدث لبعض الحيوانات التي رآها الناس تتكلم كالقطة التي ظهرت في مصر وغيرها..على فرض حدوثها قطعا..
إن أقل استنتاج للواقع يؤكد أن مثل هذه الحوادث لن تضيف شيئاً للمنطق الإيماني، حتى مجرد تصور مجئ الدجال كان محالاً على الفهم والتصديق..حتى أن سلف المسلمين أنفسهم اختلفوا حول ماهية الدجال وهل بعث أم لا..وهل شكله ينطبق كما جاء عليه في الروايات أم هو إنسان عادي..كما تصوروه ابن صياد اليهودي..
فما الحكمة إذن من إرسال بهيمة متكلمة كحجة على الناس، بينما التجارب أثبتت أنها حجة فاشلة، فلا الناس صدقت ناقة صالح ولا سفينة نوح ولا حتى عصا موسى..إن أعظم ما تفعله تلك الدابة لن ينتج أكثر مما أنتجته الآيات السابقة..مع الفارق أنها حدثت –في الإسلام- على أيدي الأنبياء..وعليه فخروج الدابة هذه- وبنفس هذه الصورة البهيمية –يلزمه خروج نبي أو رسول يعضدها أو يبشر بها ويشرح منطقها..
دعونا نتعرف على تصور الشيوخ لتلك الدابة أولا:
نقل الرازي هذا التصور المشاع قائلا:.." أن طولها ستون ذراعا، وروي أيضا أن رأسها تبلغ السحاب. وعن أبي هريرة ما بين قرنيها فرسخ للراكب
وثانيها: في كيفية خلقتها، فروي أن لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها: رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن أيل وصدر أسد ولون نمر وخاصرة (بقرة) «1» وذنب كبش وخف بعير.
وثالثها: في كيفية خروجها عن علي عليه السلام أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها. وعن الحسن: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام
ورابعها: في موضع خروجها «سئل النبي من أين تخرج الدابة؟ فقال من أعظم المساجد/ حرمة على الله تعالى المسجد الحرام» وقيل تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية
وخامسها: في عدد خروجها فروي أنها تخرج ثلاث مرات، تخرج بأقصى اليمن، ثم تكمن، ثم تخرج بالبادية، ثم تكمن دهرا طويلا، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد، فقوم يهربون قوم يقفون » ...انتهى
ثم علق الرازي على هذا التصور قائلا:.."واعلم أنه لا دلالة في الكتاب على شيء من هذه الأمور، فإن صح الخبر فيه عن الرسول قبل وإلا لم يلتفت إليه"..(التفسير الكبير 24/572) ويبدو أن الرازي لم يعجبه هذا التصور المشاع فأراد أن لا يتحمل تبعات تشوهه وخروجه عن جادة المعقول والمشروع، لكن وبحكم نشأته كفقيه أشعري ووجوده ضمن محيط إيماني إسلامي متشدد لم يطعن كلية في هذا التصور إنما أحاله فقط للمصادقة مع الكتاب والسنة
مبدئيا: حمل معنى الدابة على الحيوانات فقط أو الحشرات لا يتفق مع اللغة، ولا يستقيم كذلك مع منهج القرآن، ففي الكتاب أن الله أطلق لفظ الدابة والدواب على كل من .."يدب على الأرض"..بمن فيهم البشر، وهذا يعني أنه وربما كان المقصود من تلك الدابة إنسان داعية أو فقيه متبحر أو نبي يقيم الحجة على تلك الأقوام المقصودة في الآية..
تأمل معي سبعة آيات تطلق لفظ الدابة عاما بمن فيهم البشر:
الآية الأولى.. "ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دآبة والملآئكة وهم لا يستكبرون".. [النحل : 49] ، وفصل الملائكة عن الدواب قرينة أن المقصود من الدابة كل من يدب على الأرض بدلالة أن الملائكة في السماء لا تدب..كذا ولفظ السجود عاما..ومن أكثر من البشر سجودا؟..هذا إن اعتبرنا أن بقية الدواب تسجد أو أنها مكلفة..
الآية الثانية .."والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع"..[النور :45]
قال الرازي.." أن المراد من الدابة التي تدب على وجه الأرض ومسكنهم هناك فيخرج عنه الملائكة والجن، ولما كان الغالب جدا من هذه الحيوانات كونهم مخلوقين من الماء، إما لأنها متولدة من النطفة، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء لا جرم أطلق لفظ الكل تنزيلا للغالب منزلة الكل"..(التفسير الكبير 24/406) وهنا يثبت الرازي تضمين البشر ضمن الدواب -التي تدب على الأرض- ولا تعيش إلا بالماء..وقد فصل الرازي رأيه ذلك تفصيلا فلسفيا رائعا من الصفحات 407: 409 في نفس الجزء ضمن ستة تقسيمات نوعية تعرض فيها للعلاقة بين الإنسان والحيوان منطقيا.
و يقول مقاتل.." فمنهم من يمشي على بطنه يعني الهوام ومنهم من يمشي على رجلين الإنس والجن والطير ومنهم من يمشي على أربع قوائم يعني الدواب والأنعام والوحش والسباع"..(تفسير مقاتل بن سليمان 3/204) لاحظ تضمين مقاتل الإنس ضمن الدواب في لفظ إشارة الجمع.
الآية الثالثة .."ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة".. [الشورى :29 ]
الآية الرابعة.."إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون".. [الأنفال : 22]وفيها يقول الفخر الرازي في تفسيره.." وقيل: بل هم من الدواب لأنه اسم لما دب على الأرض ولم يذكره في معرض التشبيه"..(التفسير الكبير 15/469) ويؤيد ذلك في تفسير مجاهد قوله.." عن ابن عباس: إن شر الدواب ، قال: "هم نفر من بني عبد الدار"..(تفسير مجاهد 353) وشر الدواب بالعموم تعني أن هناك.."خير الدواب"..وإلا شبههم بالدواب هكذا دون وصمهم بالشر..والمعنى أن الناس بين أخيارٍ وأشرار ..وأشرهم الذين لا يعقلون.
الآية الخامسة.."إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون".. [الأنفال : 55] ونفس الحال في الآية السابقة، فما ينطبق على وصف الذين لا يعقلون بشر الدواب..هنا أيضا شر الدواب هم الكفار، وفي المنطق خير الدواب في هذه الآية هم المؤمنون.
الآية السادسة.."خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة".. [لقمان : 10]
الآية السابعة.."ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة"..[فاطر :45 ] هنا ذكر الدابة بين أمرين أولاهما: البث والخلق، وثانيهما: الإفناء والعدم، وهو منطق يؤكد تاريخ البشر حسب الإيمان، فلكل بداية نهاية، ومثلما خلق الله الدواب وكل من يدب على الأرض سيفنيهم، ومثلما جاء الإنسان من عدم سيفني، وبما أن الإنسان مشمول بالخطاب فلا حاجة لاستثناءه..
كذلك فلفظ.."تُكلمهم".. هنا له ثلاثة معانٍ في اللغة:
الأول: بمعنى (تحدثهم) وهو المقصود من تفسير الشيوخ وبه استنتجوا أنها بهيمة..وتُقرأ هكذا بضم التاء وتشديد اللام.."تُكلّمهم"
الثاني: بمعنى (تجرحهم) قال الرازي.." واعلم أنه يجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضا على معنى التكثير يقال فلان مكلم، أي مجرح"..(التفسير الكبير 24/572)
الثالث: بمعنى (تُحزنهم) من المصدر .."إكلام"..فلان مكلوم أي مهموم وحزين، وتُقرأ هكذا بضم التاء وتخفيف اللام مع الكسر.."تُكلمهم".
هذا يعني أن تعريف الشيوخ والقدماء للدابة بالتفسير اللغوي الأول جاء موافقا لثقافتهم السمعية التي تصورت (مخلوقات غريبة وعجيبة) ستخرج آخر الزمان، وهو تصور كان مشاع في معظم الحضارات، ولنا في وحوش آلهة اليونان نموذج، أما الآن فمن السهل نقض هذا التصور بعد تطور العلوم وسرعة نقل المعلومات وشيوع المعرفة، فأفضل ما أنتجته الحضارة هو.."التوثيق"..وهو منتج قضى تماما على الثقافة السمعية للأوائل وأخضعها بالكاد للتحليل العقلي والعلمي..بل والإيماني أيضا..بدلالة إنكار بعض هذه السمعيات الخرافية من بعض المؤمنين المجتهدين.
كذلك ما معنى أن تخرج الدابة لإثبات عدم اليقين بينما عدم اليقين صفة عامة للبشر ملازمة لهم منذ بدء الخليقة..وإرسال الرسل والأنبياء كان ثبوتا لعدم اليقين والشك الإنساني وكذا الانحراف عن المنهج، ألا يتعارض ذلك مع ادعائهم بأن الناس سيتفقون على المسيح ويعم الإيمان والصلاح آخر الزمان؟..فمن هم ياترى القوم الذين لا يوقنون؟..هل هم الأخيار الذين سيسلموا على أيدي المسيح..أم هم الأشرار التي نزلت من أجلهم الدابة؟؟..ثم نقضوا قولهم هذا بأن القيامة ستقوم على أشرار الناس...كلها تصورات وتنبؤات طفولية عن المستقبل..بينما الدين عف نفسه عن الخوض في هذه الأشياء باحتكار علم المستقبل لله فحسب بقوله:
" وما كان الله ليطلعكم على الغيب"..[آل عمران : 179] " قل لا أقول لكم عندي خزآئن الله ولا أعلم الغيب"..[الأنعام : 50] " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو"..[الأنعام : 59]
إذن الخوض في هذه الأمور المستقبلية حرث في البحر وجهل عظيم وتخريف متعمد للشعوب..فلا جرم إذا رأيت شيخا مسلما يعقد عشرات الحلقات والخطب لحكاية أشراط الساعة إلا وتستنتج فورا أنه يعيش في مجتمع متخلف، فقد أصبح شغله الشاغل والأوحد والأعظم أن يعيش مع حواديته واختراعاته تعايشا نفسيا وعقليا وروحيا..فلا يطمئن لغيرها حتى لو لجّ الجمل في سم الخياط..
الخلاصة: لا توجد بهيمة تخرج لتكلم الناس أو يظهر وحش مخيف كما في أفلام السندباد ..الآية خاصة بعذاب قوم أو حجة بدلالة قوله تعالى..."إذا وقع القول عليهم أخرجنا"..والسؤال ما هو القول؟..حسب الشيوخ فسروه بأنه يوم القيامة وهذا غير صحيح..القول يعني الحجة ..يعني الإثبات ..يعني التبشير..وهي مهمة تليق بالأنبياء والصالحين، وهو قول يتفق مع معاني اللغة التي تشمل الإنسان ضمن الدواب التي تدب على الأرض، أما قوله بآياتنا فيعني أن الدابة إنسان يتحدث بالوحي الإلهي على نحو.."أن الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون".. إذ لا يستقيم أن يتحدث غير معصوم أو إنسان عادي بهذا الخطاب ..فما بالك بحيوان أو بهيمة كما يعتقد الشيوخ..
وقد ضرب الرازي مثالا على جواز ذلك بنسب الآية للمتكلم عربيا كما في قول خواص الملك.."خيلنا وبغالنا"..بينما هي ليست ملكهم.
على الشبكة قرأت اجتهادا للدكتور عبدالسلام الكبسي وصل فيه أن الدابة هي عذاب فرعون وقومه، بدلالة السياق المتحدث عن بني إسرائيل فأرسل الله عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع، وقد يكون المقصود من الدابة هؤلاء كعذاب، وهو يتفق مع السياق القائل.."وإذا وقع عليهم القول"..يعني العذاب..وهو تأويل مقبول لجواز قصد الدابة بمعنى الحيوان أو الحشرات..إلخ..لكن تبقى إشكالية الكبسي بمعنى تحدث هؤلاء..أو قد يكون المعنى مجازيا..وهو المستفاد من إرسال هذا النوع من العذاب.
ما دفعني للكتابة في أمر الدابة هو سؤال على صفحتي الخاصة بالفيس بوك عن ماهية وأمر الدابة..رددت حينها أن الآية وسياقها تخص العذاب ، لكن معنى الدابة نفسه مختلف وفيه اجتهادات كثيرة من ضمنها ما ذكره الدكتور علي الكيالي..وهو تفسير قريب من تفسير الدكتور الكبسي..لكن وقفت في النهاية أن الآية عندي متشابهة يجب التوقف فيها لكثرة معانيها، والمتشابه عموما أقل من المحكم القرآني القائل في هذا السياق بأن الساعة ستاتي بغتة..أو فجأة..وهو سياق قرآني ينفي أن تكون هذه الدابة أو غيرها من أشراط الساعة..وما ذكر في الأحاديث بشأن ذلك لا يعدو كونه ثقافة عامة كانت تناسب شعوب هذا الزمن.
أخيرا: لقد ظهر أن تفسير الشيوخ لأمر الدابة على أنها بهيمة مخالف لمقررات اللغة العربية ومنطق القرآن، كذلك مخالف للحس البدهي والتفسير العقلاني القائل بأن إرسال الدواب للحديث وإقامة الحجة هو تحصيل حاصل لن ينتج أكثر مما أنتجته ناقة صالح وغيرها من الآيات المثبتة في القرآن بوضوح، ولا يعني ذلك إنكار آية الدابة في سورة النمل..بل هي محاولة لتأصيل وفهم القرآن من جديد بعدما علقت به أدران التخلف والعادات والأعراف القبلية والمناطقية والثقافات المحلية..الذي أصبح القرآن في ظلها مجرد نص جامد يشيع الخرافة..وفي تقديري أن الشيوخ نجحوا بإشاعة أمر الدابة في تعزيز هذه الفكرة..
إضافة تعليق جديد