أنسي الحاج: استراحة الموازنة
التصاق المارونيّة باللبننة فَتَحَ على لبنان أبواب العالم الغربي واسعة وجَلَبَ له ما جَلَب من أسباب الليبراليّة. من جهة أخرى، دُفّع لبنان لقاء هذا الالتصاق أثماناً سياسيّة ونفسيّة كبّده إيّاها محيطه العربي ونصفه الداخلي سواء بسواء. ودَفَع الموارنة أنفسهم الثمن ترهّلاً تدريجيّاً في مجتمعهم بسبب «ارتخاء السلطة».
كان يقال لبنان ويُقْصَد الموارنة والموارنة ويُقْصَد لبنان. وإذا شطح سياسي أو مثقّف من غير الموارنة ناحية «لبنانويّةٍ» ما اعتُبر متمورناً، كحال شارل مالك والأخوين رحباني.
الآن جاء دور السنّة. اللبننة السنّية. يستطيع الموارنة أن يرتاحوا: صليب لبنان انتقل من ظَهْرهم إلى ظَهْر السنّة.
أوّل «المنشقّين» الرسميّين كان رياض الصلح. ودَفَع الثمن اغتيالاً. آخر «المنشقّين» الرسميّين أيضاً رفيق الحريري. ودفع الثمن اغتيالاً. وبينهما وبعدهما غيرهما. حتّى غمَرَ الانشقاق «الشارع السنّي» .
غير أن الفرق كبير في موقف المحيط. فلن يقابل مسلمو العالم العربي سنّة لبنان المتلبننين بالتخوين ولا بالإهمال المهذّب. سنّة لبنان عرب مثلما عرب العرب سنّة. لو كان موارنة لبنان مسلمين لما تُرك لبنان لمصائبه ولا أُرسلت إليه مصائب العرب غير المرغوب فيها عندهم.
لن نقول: هذه هي الحقيقة. فهذه هي الحقيقة من دون الحاجة إلى إعلانها بطريقة مسرحيّة. هذه هي الحقيقة البائسة العارية سياسيّاً واجتماعيّاً وأدبيّاً. احتاج لبنان إلى ثلاثة أرباع القرن ليتبنّاه العرب مُلَبْنَناً. وصارت الجامعة العربية لا تَقْبَل إلاّ أن تكون «الأزمة» اللبنانيّة شأناً عربيّاً. نجّنا يا ربّ. وصار تدخّل فرنسا في الشاردة والواردة مباركاً. وصار قصف المخيمات مباركاً. وصار التصدّي لسوريا مباركاً.
المشكلة كانت الموارنة. ما إن نقل الطائف السلطة من الماروني إلى المسلم حتّى انحلّتْ. من حقّ روح بيار الجميّل الأوّل أن تقيم دعوى إعادة اعتبار ضد المتلبننين الجدد، سياسيّين وكُتّاباً. معظمهم الساحق كان في أيّامه هاجماً بالسكاكين الماديّة والمعنويّة على اللبننة (المسمّاة انعزالية متصهينة) ضارباً بسيف الفلسطيني والسوري والليبي والعراقي والصومالي وبالمال السعودي والليبي والعراقي ومَن تيسَّر من المتبرّعين. وصاروا لا يكتفون برفع شعارات الكتائب بل يزيدون فوقها. وهذا أحد زعمائهم، الفتى الصيداوي البيروتي السعودي، يهتف: «لبنان أولاً ولبنان ثانياً ولبنان ثالثاً».
مع تمنّياتنا أن يقولها معه يوماً الفقراء، جميعهم ومن كل الطوائف ـــــ وليس في المواسم الانتخابيّة وحدها ـــــ فتكتسب معناها الكياني ولا تظلّ وقفاً تارة على «الانعزاليّين» وطوراً على «أصحاب المُلْك».
ليسترح الموارنة. وليتهم يغتنمون الفرصة لمحاولة العودة إلى بعض الجذور، كالفكر والأدب والفنّ، فضلاً عن الأرض. فمن هذه الجذور، ومن الكفاح الحرّ والإبداع المتحرّر في ميادينها، أطلّوا على العالم وتميّزوا. المارونيّة ليست مرادفة للسلطة كما أُريد لها عَرَضاً بل للحريّة. لا لحريّة الإيمان فحسب، بل لحريّة الكفر أيضاً. أي للحريّة. وبهذا المعنى هي أكثر من مارونيّة وأكثر من مسيحيّة وأكثر من لبنانيّة.
ليسترح الموارنة. ها هم الدروز يستعيدون التصدُّر اللبناني بعد غيبة قصيرة في العروبة، والسنّة يكتشفون نعمة لبنان الماروني بلا سلطة الموارنة، وأمّا الشيعة، فلو «أنصفهم» الطائف كما «أنصف» السنّة لربّما كانوا اليوم إلى يمين 14 آذار.
لا أحد يريد غير السلطة. لو جُعلت السلطة مداورة بين الطوائف لما بقي هناك ذريعة لإسرائيل ولا لسوريا. وربما كان التفاوت الاجتماعي قد تقلّص. ولما انفَسَدت القضيّة الفلسطينيّة. ولما احتمى الشيعة بدمشق وطهران. ولما ذهب اليأس بكمال جنبلاط إلى حدّ «الحسم العسكري». ولكان تَلَبْنَنَ الجميع من زمان. بمَن فيهم، ربّما، سوريا.
مبروك للسنّة. عطلة مُستحقَّة للموارنة.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد