انطلاق الدورة 51 لمهرجان لندن السينمائي
البريطانيون مولعون بالأرقام، كولعهم بدهاء اللعب بها. فسوقا المال والجنيه الاسترليني هما عصبان لا فكاك بينهما، والقرار السياسي الذي دفع برئيس الوزراء السابق توني بلير الى ركب موجة الحربين في أفغانستان والعراق بدا كأنه مرتهن، الى حد بعيد، بثقليهما وحركيتهما اللتين تبرّران «إعادة» الروح الامبريالية وهبتها الجماعية وسط العاملين في «وايت هول»، مقر حكومة بلاط سان جيمس العريق. و«مهرجان لندن السينمائي»، الذي بدأ أمس الأربعاء، لم يغفل التصريفين المتلازمين: الأرقام والسياسة. للأولى، اشتملت العروض على 184 فيلماً روائياً طويلاً و133 قصيراً من 43 دولة؛ وللثانية، حضرت حديثة وكابول والقاهرة وبيروت وكردستان العراق وطهران والشيشان. فالقائمون عليه يحرصون على أن هذه الدورة الـ51 (17 تشرين الأول ـ 1 تشرين الثاني 2007) لن تغفل الحرب على الإرهاب والولايات المتحدة وهجمات أيلول وتوابعها، مسوغاً سينمائياً للعديد من الإنتاجات، إما لتبرير ما يحدث، أو للانتقاص من القرار المتعجّل في استعمار بلدين دفعة واحدة.
حروب
في هذا المضمار، يجتمع جديدا الأميركي براين دي بالما «مُنقّح» عن فتاة المحمودية واغتصابها من قبل جنود أميركيين قبل التمثيل بجثتها وطمرها على عجل، وتبرير (لاحقاً) الجريمة بالمسلحين وهجماتهم، وهي الكذبة نفسها التي برّر جيش الاحتلال بها مجزرة حديثة، التي سلبت أرواح 24 مدنياً انتقاماً لمقتل جندي في القرية الصحراوية التي أعاد البريطاني نل برومفيلد، صاحب «أشباح» (2006) و«ألين حياة وموت سفاحة» (2003)، تمثيلها (صُوِّر الفيلم في الأردن) بتفصيلٍ دامٍ، في حين ظلّ الممثل والمخرج روبرت ريدفورد في كاليفورنيا ليقتنص حكايتي ثنائيين إنسانيين: الشابين إريك وإرنست اللذين أرادا أن يقوما بعمل ذي معنى في حياتيهما الخاويتين (بتأثير من أستاذهما ريدفورد)، فالتحقا بالقتال في أفغانستان ووواجها موتيهما الرخيصين. في المقابل، يسعى السناتور غاسبار إرفينج (توم كروز) في واشنطن الى استخدام جهود الإعلامية ميرل ستريب وتحقيقها التلفزيوني حول مصير الطالبين لكسب أصوات ناخبين. بيد أن الجبهة الداخلية (العائلية تحديداً) كانت هاجس الفيلم الثاني للمخرج جيمس ستراوس «غريس رحلت»، عن معاناة أب (جون كوزاك) لا يجد تبريراً لمقتل زوجته المتطوّعة في حرب العراق، في مقابل إصرار شقيقه على ضرورة فضح الإدارة وكذبها. هذه الأخيرة (الكذبة) هي مفتاح الخطاب السياسي لجديد المشاكس مايكل مور «سيكو»، حول النظام الصحي ومؤسّساته وضماناته التي تُنكَر على المواطن الأميركي، فيما تكون مبذولة بسخاء على معتقلي غوانتانامو السيئ الصيت.
ستكون القاهرة الحضن السينمائي كالعادة لجديد المخضرم يوسف شاهين «هي فوضى»، الذي سيشعّ على شاشات دور عرض قلب لندن «ليستر سكوير» (في العام الماضي، كان النجاح من نصيب مروان حامد وباكورته «عمارة يعقوبيان»)، شاداً هذه المرة من عزمه المسيس (بعد خيبات فيلميه في الأعوام الماضية) ضد إرهاب السلطة، عبر حكاية أحد مأموريها، الذي يمارس غلواً يصل الى حد التعذيب والاغتصاب. بينما يستعير صاحب «المراوغة»، الحائز الـ«سيزار» الفرنسي عبد اللطيف كشيش، حكايات مهاجري الشمال الأفريقي الى مرسيليا، مسلّطاً اهتمامه على شؤون العائلة والصداقات وخيبة الأمل والاندماج والاستغلال في عمله الثالث «البذرة والبغل»، علماً بأن عنوانه الإنكليزي هو «سر الحبوب» (سأعود الى هذين الفيلمين بقراءة متأنية في مقالة لاحقة).
وقائع إنسانية
في بيروت، تُشبك اللبنانية نادين لبكي الطرافات والتهكّم حول الأنوثة والطائفية ونزعات الحب وخيباته (من بين أمور أخرى) في باكورتها «سكّر بنات» (راجع المقالة النقدية حول الفيلم في «السفير» في عددها الصادر بتاريخ 22 حزيران الفائت). من ناحية أخرى، تعرض كردستان فتنتها الطبيعية في فيلم المخرج هونير سليم «دول»، الذي عُرض في بانوراما الدورة الأخيرة (شباط الماضي) لمهرجان برلين، وهو أضعف بكثير من سابقه «كيلومتر صفر»، مع غلّ عصابي أكبر ضد الأتراك هذه المرة، بعد أن شتم عرب بلده في «صفره». حكاية الفيلم الجديد تدور حول شاب كردي يهرب بعد محاولته الفاشلة لاغتيال القائد العسكري التركي، ويقيم علاقة مع فتاة من قومه صادفها وهي هاربة من أزلام صدام الذين خطفوها وحوّلوها الى جسد للاغتصابات الجماعية، ويصر على الزواج بها، على الرغم من اعتراض أهله. طهران لن تطل بواقعها المتجاذب اجتماعياً على وقع كبار سينمائييها، كعباس كياروستامي ومحسن مخملباف وجعفر بناهي وغيرهم، بل برسوم متحركة من توقيع الإيرانية مرجاني ساترابي (مع فنسنت بارانو)، التي استعارت سلسلة كتبتها وبثّت فيها حياة من نوع مبتكر ضَمَن لها جائزة لجنة تحكيم في الدورة الأخيرة (أيار الفائت) لمهرجان «كان»: اللعبة السينمائية هنا قائمة على سيرتها التي تقودها من محيط العائلة المتمركسة ونضالها ضد الشاه وتسلطه، لتنتهي سجينة شرطيات آداب الملالي، قبل أن تفلح في مغادرة البلاد الى أوروبا. العمل أخّاذ بعوالمه، بيد أن سرديته تحمل تدليسها السياسي المباشر المنطلق من عداوة مسبقة الدوافع لنظام لا يختلف بتسلّطه عن سابقه، مرمية على الشاشة من دون أن تفسح لمتفرجها حيزاً للسجال الإيديولوجي، مع حقب تمرّ سريعاً أمامه، إذ إن عليه الاقتناع بأن حياة من هذا النوع لا تمت الى التفكيك بصلة. إنها لعنة تدور بتواصل مدهش، تنتج كائنات مشلولة ومنكسرة الى الأبد (صوّرت ساترابي مشاهد إيران بالأسود والأبيض، ولوّنت بزهو المشاهد الأوروبية). هناك أيضاً مشاركة سورية بعد غياب طويل عبر فيلم الرسوم المتحركة «خيط الحياة» لرزام حجازي، عن رحلة افتراضية لصبي تتحقّق على يدي عجوز يعبر خلالها حاجز العمر كي يحقّق أحلامه، مكتشفاً أن خيط الحياة أجمل وأكثر غنى. ويشارك الإسرائيلي يران كوليرين بكوميدياه «زيارة الفرقة الموسيقية»، التي أثارت اهتماماً نقدياً عاصفاً في مهرجان «كان» في أيار الفائت، تناول فيه ضياع فرقة الإسكندرية للموسيقى العسكرية سبيلها في اسرائيل وهي في طريقها الى حيفا، ليقع رئيسها في حب صاحبة مقهى.
رهان الجغرافيا
حربا الروس في أفغانستان والشيشان تُطرحان بزاويتين سينمائيتين متحاملتين بجرأة على عسفيهما المزدوجين: «ألكسندرا»، المرأة العجوز بطلة عمل أندريه سوكوروف (له العمل الانقلابي الشهير «الفُلك الروسي»)، ترسم خطاً أخلاقياً ضد الخراب الحاصل في غروزني، وتجادل العساكر أثناء زيارتها معسكر حفيدها، وتصادق نساء شيشانيات حوّلتهن الحرب الى مقايضات في كل شيء، فيما يراهن مواطنه ألكسي بلابانوف (صاحب «شقيق» و«عن النزوات والرجال») على انعكاسات الاجتياح العسكري الفاشل لكابول، والضغوط التي يتعرّض لها أهل الداخل الروسي في «حمولة 200»، حول اختطاف شرطي فتاة مراهقة هي ابنة ضابطه، ويمارس عليها حقداً ومهانة نيابة عن السلطة التي لن يتمكّن من الوقوف أمام جبروتها. والعنوان يستعير التعبير العسكري عن شحنات جثث القتلى الروس القادمين من معارك جبال البلد البعيد.
اهتمّت ساندرا هيبرون، المديرة الفنية للمهرجان، بالجغرافيا، قائلة إنها تمثّل رهاناً مستحدثاً لدى مخرجين كثيرين، نقلوا اهتماماتهم المحلية وارتحلوا الى بقع متضاربة العادات والقيم والتواريخ، مقاربين حكايات ذات معان إنسانية متضاربة الهويات: فالكندي ديفيد كروننبيرغ حرّك أبطاله القساة وسط لندن، في حكاية عن المافيا الروسية التي توطّنت في أكثر أحيائها رقياً لممارسة تصفيات قوة وإرهاب عائلي لا مثيل لدمويته، وذلك في جديده «وعود شرقية» (فيلم الافتتاح). أما الأميركي وايس أندرسون (له «راشمور» في العام 1988 و«عائلة تيننباومر الملكية» في العام 2001) فيأخذ ثلاثة أخوة الى الهند في رحلة تجلّ دينية، تعرّفهم الى نواقص عواطفهم ومداركهم بالآخر في «الشراكة (دير جيلينغ)»، وهو فيلم الختام. مخرج «فيتز غرالدو» و«غضب الرب» الألماني فيرنر هيرتزوغ، ذهب الى فيتنام في «فجر الإنقاذ»، وصوّر عملية هروب مجموعة طيّارين أميركيين أسرى بقيادة كريستيان بال. البريطاني من أصل هندي المخرج الشاب الموهوب أسيف كاباديا أخذ ممثلتيه الصينيتين ميشيل يو وميشيل كوسيك الى القطب الشمالي، في رحلة ملحمية لسيدة تتعرّض للاغتصاب، تنقذ رضيعة تربيها قبل أن تقتلها وهي شابة يافعة، والسبب تعلّقها برجل أبيض (البريطاني شون بين) ظهر من دون سابق دعوة وسط الجليد وعزلته. ويُشارك هذا العمل سابقه «المحارب» بثيمة الانتقام. النمساوي ألدريش سيدل يخصّص القسم الأول من عمله الصادم «واردات وصادرات» بأوكرانيا، حيث نلتقي بالأم الشابة أولغا التي تهفو الى الهجرة الى فيينا فتمتهن الاستعراض الجنسي عبر شبكة «إنترنت». والإسباني أنتونيو مونوز دي ميسا يتهكّم على مفهوم الصداقة والخيانة في عمله «أصدقاء خيسوس» (يسوع بالإسبانية)، الذي يأخذ فيه أبطاله الموسيقيين الى نيويورك ليعالجوا محنة زميلهم الذي تركته حبيبته، ويكتشفوا لاحقاً علاقتها الآثمة بأحد أعضاء الفرقة.
زياد الخزاعي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد