الرؤية الزرقاوية وإرثها
حار التيار السلفي الجهادي منذ ظهوره قبل ربع قرن في التوفيق بين أممية الإسلام وإقليمية حركاته التي حاولت أغلبها ممارسة الجهاد ضد حكومات بلادها.
ومع الضربات التي تلقتها في بلدانها وبعد مقتل العشرات واعتقال المئات، كثر الفارون من الأنظمة والمفتشون عن "المأوى"، ولم تكن يومها إلا أفغانستان.. فاجتمع "أرباب السوابق" الجهادية هناك.
لكن لما لم يكن البعد الأممي إلا تعاطفا انفعاليا آنيا يثور مع الحدث ويبرد بانتهائه، لم يتمحور الفكر السلفي الجهادي في طفولته المتأخرة تلك حول رؤية واحدة، إلى أن ظهرت التجربة الأولى للقاعدة في الجبهة الجهادية العالمية التي كانت الرجة الفكرية الأولى التي استفزت العقل الباطن لإعادة ترتيب الأممية الإسلامية.
ومع نجاح ضربات القاعدة خصوصا على جسد أميركا الجالوتي، لفتت أنظار الآلاف المستضعفة إلى بن لادن باعتباره رقم الأمة المسؤول والفاعل في معادلة الصراع العالمي.. فمثلت القاعدة الخلافة حلم عزتنا اليتيمة، وصار بن لادن خليفتها الذي يتكلم بروح المسؤولية الأخروية عن كل من يتعرض لها (الأمة).
لكن القاعدة بهذه الخطوة الجبارة، مع وجود النواة الأولى لدار إسلام طالبان، لم تستطع أن تكسب إلا من هم بدون مأوى، رغم أن الكثيرين أصبحوا بدون مأوى! لكنهم كانوا يرنون إلى منطلق لهم في بلادهم، فلم ينتموا إلى القاعدة رغم أهميتها الأممية.
ورغم ضآلة تأثير هؤلاء في ساحتهم -من هؤلاء الأردنيون- آثر أغلبهم الاستفادة من مظلة القاعدة ومأوى طالبان عسى أن ينشئ مجموعة طلائع جهادية لمستقبل بلاده، ومنهم الفارس المترجل أبو مصعب الزرقاوي رحمه الله.
حاول أبو مصعب عبر اتصالاته تجنيد الشباب الشامي في جمعه المتواضع ليعود يوما إلى ساحتيه الأردن أو فلسطين، فآزره بعض السوريين والعراقيين ليكونوا "جند الشام".
ولما وصل بعض طلائع جند الشام إلى كردستان (جناح رائد خريسات عام 1998) ووجدوا من يناصرهم من مجاهدي الحركة الإسلامية الذين وجدوا فيهم سندا وفي ساحتهم معبرا، وأنشؤوا لأنفسهم قاعدة تجميع جيدة ومأوى قريبا، ولكن المنشئ والمشرف والأمير كان أبو عبد الرحمن وليس الزرقاوي.
تفاعلت مجموعة أبو عبد الرحمن مع شباب كتيبة سوران من داخل الحركة الإسلامية في كردستان، وعندما انفصلت كتيبة سوران ومعهم الشاميون كوَّنوا يوم 1/9/2001 "جند الإسلام في كردستان"، لكن استشهاد الأخ أبو عبد الرحمن الشامي رحمه الله في أكتوبر/تشرين الأول 2001 في هجوم لجماعة (الرئيس العراقي الحالي) جلال الدين الطالباني على الجند، أصاب جماعته بحيرة فآوى أغلبهم إلى إيران.
عند سقوط طالبان كان أبو مصعب ومن معه في تلك الفترة كبقية العرب الأفغان حيارى يفتشون هذه المرة عن ملجأ ليختفوا فيه، فتلمحت لهم كردستان.
كان العبد يخطط وكان الله في شأن، فإذا بإدارة جورج بوش تقرر الحرب على العراق.. فسنحت الفرصة لكل الجهاديين، وكان ذلك لأبو مصعب فرجا وفرصة وضربة معلم..
استفاد من وصوله المبكر إلى العراق، ومع السقوط السريع للنظام وجد الأرضية مثالية لتحركه، فاستطاع أن يجمع من الأكراد الذين وافقوا على إمارته -وهم من مجموعة التوحيد- وأن يحشد من العرب التائهين بعد سقوط النظام ما شاء الله له أن يحشد.
فشكل جماعة التوحيد والجهاد فامتلك خلال أشهر الأرض والشباب والتجربة والمال.. فركز على محافظة الأنبار القريبة من ساحته الأصلية -الأردن- ليجعلها منطلقه العسكري إلى ساحتيه، لكنه استعجل فاصطدم!
وجد الأخ أبو مصعب ساحة أوسع من قدرة خيله بل تخيله، وطاقة أكبر لتوظيفها، ومشاكل بلد أعقد من أن يستوعبه، وأعداء تكالبوا عليه مجتمعين وهو ينفرد.
* كان عليه أن يتقوى بقوة يكون لها احترام بين المسلمين عموما والعراقيين العرب منهم خصوصا ليرسخ قدمه ويسند ظهره، فكان أمامه العراقيون والقاعدة.. فاختار الثاني، وكان لابد من تزكيتها إياه، ولم تكن في البداية سهلة، لكن بعد مرور عامين وظهور تأثيره صارت خطته تتقاطع مع خطة القاعدة، أو كان يجب أن تتقاطع، فآثرت القاعدة تأميره رغم تخوفهم من بعض متغيراته الفكرية وممارساته.
* اصطدم بالمشروع "الوطني" لجماعات الجهاد العراقية التي كانت تمتلك تاريخا ورؤية ومشروعا وقوة.. لم يفعل أخونا أبو مصعب في العراق مع قادة الجهاد ما فعله المجربون بن لادن والظواهري في أفغانستان مع قادة الجهاد، هم كانوا في خدمة الجهاد الأفغاني جهدهم وجهادهم كان رديفا لهم، لكن أبو مصعب ربما شعر سذاجة أن العراق خال أو شبه خال! وأن مشروعه يجب أن يقبل.. فاصطدم مبكرا بالجماعات الجهادية العراقية التي كانت بحاجة -كالأفغان الأوائل في زمن الخذلان الإسلامي هذا- إلى دعم الأمة! لا أن تفرض عليها أجندة صراع خارجية، وخصوصا من القاعدة الأممية في زمنٍ يعتبر إحسان الظن بها جريمة!
* وكانت له إساءات للجهاد:
1- لم يكن في أهل العراق ولا بينهم -وهم أهل قتال وحروب- من يقتل خصمه ذبحا، فلما فعل هو ذلك وأعلن، أساء إلى نفسه وإلى من يليه.
2- فتواه عن الشيعة عموما وجواز قتلهم وقتالهم، في تشددٍ يأتي عادة من سلفيين ينتمون إلى بلدان لا يوجد بها شيعة!
3- تكفيره من يشارك في العملية السياسية في العراق تحت سيطرة الاحتلال، وجواز قتله وقتل من يجيز ذلك، فقتل بأمره أناس مشهود لهم من أهل السنة.
4- قتله المتطوعين في سلك الشرطة في الرمادي، وقد كانوا كلهم من السنة وبعضهم من أفراد الجماعات الجهادية الأخرى أدخلوا كعيون، أو حماية لأعراضهم من همجية الشيعة.
5- تفجير الفندق في عمان، رغم أن كثيرا ممن قتلوا في الفندق كانوا رؤوس مخابرات! لكن الإعلام الأردني استطاع أن يعيد السهم مسموما إلى نحر أبو مصعب! إضافة إلى عرض المرأة العراقية متحيرة وهي بحزام ناسف، مستضعفة لا أحد يتجرأ أن يدافع عنها قانونيا!!
هذه وغيرها تراكمت عند السنة عموما و أهل الأنبار خصوصا رغم صبرهم عليه، وأشهد أن الجماعات الجهادية كانت الأصبر على ممارساته وجماعته القريبة جدا من جماعة التكفير الجزائرية.
بدأ مشروع أبو مصعب يصطدم ويضعف، يصطدم بواقع جهادي لا يتحرك باتجاهه، فاصطدم بالإسلاميين السنة وخصوصا في الأنبار، وحصلت بعض المناوشات بينهم بعد تسليح الحكومة إياهم وبين جماعة أبو مصعب.
ولما تعرض لانتقادات علنية كثيرة سواء من الدكتور الظواهري أو من قادة الجهاد في العراق وخارجه، اضطر إلى خطوات منها:
1- تراجعه عن استهداف الشيعة لكفرهم إلى تركيزه على من يتعاون مع الاحتلال، فاضطر إلى استثناء جماعات الصدر والشيخ الخالصي وغيرهما.
2- اضطراره لاستحداث واجهات جهادية ومن ثم جمعها في إطار ما سمي "بمجلس شورى المجاهدين".
3- اضطراره لترك الإمارة للآخرين.
4- اضطراره لترك الأنبار والتوجه إلى ديالى، ربما هربا أيضا من ضغوط المخابرات الأردنية! وبهذا ابتعد عن منطلقه العسكري ومأواه الأمين.
5- اضطراره للظهور في شريط تلفزيوني مطول وخلفه مناطق كثيرة يمكن التعرف عليها جغرافيا.
6- لو أضيفت إلى ما سبق خبرة العدو وإمكانياته وأجنحة مخابرات متعددة كانت تتعقبه، لعلمنا أن دوره بدأ يتراجع.. رغم أنه رحمه الله أدى دوره بأكثر مما كان متوقعا منه، وعاش -والآجال بيد الله- أكثر مما كان يتوقعه الكثيرون ومنهم هو نفسه!
لقد استطاع الزرقاوي:
* أن يضرب العدو في كل الاتجاهات ويشغلهم بإعادة توازنهم، إلى أن تقوت الجماعات الجهادية العراقية أكثر فأكثر.. فالقاعدة وبإمارة الأخ أبو مصعب رحمه الله سيطرت على جبهة واسعة في مواجهة الاحتلال، يكفي أنه أشرف على 800 عملية استشهادية خلال ثلاث سنوات! هذا ما عدا المواجهات والمتفجرات المزروعة والصواريخ وقصف المدافع.
* أن يجعل من العراق ساحة انجذاب جهادي جديدة للقاعدة، ويكوّن فيها قاعدة مؤثرة على ما حولها.
* أن يرسخ أممية القاعدة في شريحة واسعة من الشباب العراقيين وغيرهم، بحيث يرفع من منزلة قادة القاعدة بين الشعوب المسلمة وأعدائها على السواء.
الآن وقد أفضى الزرقاوي إلى ربه مرفوع الرأس موفور الكرامة، يكفيه ذخرا أنه تربى على صفاء العقيدة وحب التدين والغيرة على حرمات الإسلام، سجن وجاهد، جرح واستشهد، ولم يجاوز الأربعين عاما من العمر إلا وقد ترك تنظيما خلفه يصطف فيه الأسود للموت والاستشهاد بالمئات.
أما تنظيمه فأعتقد أن عليهم أمورا كثيرة:
1- أولها الوضوح بين الأممية "النظرية" والإقليمية "الواقعية"، فقد يحصل خلاف بين قادة القاعدة في بلاد الرافدين بعد فقدان هذه الشخصية المحورية الجذابة، وقد يكون أول نقاط الاختلاف مدى الارتباط الكلي بتنظيم القاعدة ومدى قبول التنظيم لهم، كما قد تضطر القاعدة لأن تؤمر عليهم مؤقتا مجاهدا آخر غير عراقي لحين إعادة التوازن.
2- الالتزام برؤية القاعدة الفكرية والعقائدية وعدم الغلو في التكفير واستباحة الدم، وقد لا يرضى فريق منهم ذلك فيخرج.
3- ربما يقود التنظيم عراقي يمتاز بقوة شخصيته بين العراقيين، وهو أمر ضروري ليوحد الجهد والجهاد مع الجماعات الجهادية الأخرى التي امتازت بوضوح الراية والاستقامة والثبات، كي يحافظ التنظيم على وجهة الجهاد المضادة للاحتلال، وفي نفس الوقت يحافظ على الانتماء الموروث إلى القاعدة الذي كان سببا بعد الله عز وجل ليقف التنظيم على سوقه يعجب أهل الإسلام.
وقد يضعف التنظيم إذا لم يجد من يناسب إمارته كليا، لأن تجارب الحياة -بعد فضل الله- هي التي صقلت الزرقاوي رحمه الله، فشخصيته الكاريزمية المعروفة قبل الاحتلال وبعده غطت على الكثير من الشخصيات المناسبة عمليا.
فاتح كريكار
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد