أدونيس: دمشق ركام وبيروت خطرة
أدونيس في دمشق، ولكن حضوره هذه المرة لا يشبه مرات سابقة، ليس فقط لأنه حضر كتشكيليّ في إطار معرض «شعراء تشكيليون، تشكيليون شعراء» الذي نظمته وأقامته «غاليري أتاسي» أخيراً، فأدونيس هذه المرة جلس طويلاً في المقهى، إلى طاولات المثقفين من أجيال مختلفة أحياناً، وللعب النرد، أو لأخذ نَفَس أركيلة أحياناً أخرى. اشترط للقائنا أن نذهب إلى مقهى ليس في التداول الثقافي، ويستطيع فيه أن يأخذ نَفَس أركيلة. اختار بنفسه مقهى الكمال، الأكثر شعبية. ليس المقهى بالنسبة إليه تبديداً للوقت، «فالوقت عندي أهم رأس مال، ويجب استخدامه دقيقة دقيقة، حتى عندما آخذ الأركيلة فهي ليست مجرد لهو، إنها من أجل شيء آخر».
انتظر البعض أن يحضر أدونيس عبر «دمشق عاصمة ثقافية»، ولكنه أعلن من قبل أن لا علاقة له بمجلسها الاستشاري، ولا بأي من لجانها، كما زعمت «العاصمة». قال إنه اشترط اعتذاراً علنياً من «اتحاد الكتاب العرب»، وإلغاء قرار فصله، ومن ثم إطلاق الحريات، ومن ضمنها إطلاق معتقلي الرأي، فإطلاق دمشق عاصمة للثقافة العربية يجب أن يترافق بإطلاق الحريات. لكن أدونيس لا يوافق بعض المثقفين السوريين الذين طالبوا زملاءهم من المثقفين العرب أن لا يستجيبوا لدعوات ثقافية من دمشق. يقول: «المعارضة لا تقوم لمجرد حرب على النظام، يجب أن يكون لديها مشروع مدني. تبدأ المعارضة في دمشق حين تعلن مدنية الدولة، وفصل الدين فصلاً كاملاً عن السياسة في جميع المستويات. لا معنى لأي مشروع للمعارضة دون هذا. بدون مشروع كهذا تقلّص المعارضة الصراع إلى السياسة فقط، وهذا بشكل أو بآخر خدمة للنظام القائم. ثم لا يمكن لمعارضة أن تتحالف مع قوى دينية، علماً أنني لست ضد الدين بوصفه معتقداً فردياً، ولكن من حق الفرد أيضاً أن لا يؤمن، فحرية اللا إيمان مقدسة كحرية الإيمان».
حينما نتحدث عن دمشق يرثي أدونيس لحال المدينة، يقول: «إنها مقيمة في العقل الغربي أكثر مما هي مقيمة في عقل الدمشقي نفسه، إنها غير موجودة في العمق التاريخي للدمشقيّ. كتبت نصوصاً كثيرة عن دمشق، ولكن أعتقد أنها غير معروفة كما ينبغي». ويضيف: «دمشق القديمة يمكن أن تكون متحفاً من أجمل المتاحف في العالم، ولكن هذا يحتاج إلى عناية عالية، وإلى فهم عال لمعنى الفن وعلاقته بهوية شعب. المادة موجودة ولكن الرؤية للمادة غيرة موجودة، بشكل خاص الرؤية التي تستطيع أن تتحول إلى ممارسة. وكذلك انعدام المؤسسات. لذلك فإن دمشق مجرد ركام. الحس المدني عند البشر غير موجود. مثلاً ما معنى بلدية، نظافة، متحف.. المعاني والدلالات منعدمة في دمشق. هنالك أثر قائم ولكن لا أثر له». ما هي مدينتك الأحب إذاً يا أدونيس؟ يقول:
«تتحول المدينة إلى فكرة أكثر منها واقعاً. دمشق فكرة، القاهرة فكرة.. مثلاً نرى في أسواق حلب متحفاً هائلاً له عمق بشري وتاريخي وفني نادر في مدن العالم. لكن هذا ليس حياً في ممارسة البشر، وكذلك المؤسسة». وهنا يعطي الشاعر نابولي مثالاً لمدينة: «أنا عائد للتو من نابولي، التي كنت فيها بدعوة من لجنة مهرجان نابولي. لقد دعتني المدينة إلى الإقامة ما أشاء، وأكتب نصاً عنها بحيث يجري تحويله إلى مسرحية تظهر على الخشبة في حزيران المقبل. كل مدننا العربية أعرق من نابولي. ذهلت عندما وجدت هذا الوعي الهائل لدى المؤسسة. هناك 75 مكاناً بين متحف وأثر. في سورية لا تكاد ترى متحفاً واحداً معتنى به». أما مدينته الأحب فهي: «تلك التي تعيش فيها كأنك جزء من الأفق، بحرية كاملة على جميع المستويات، حرية لا يحدها سوى اعتدائك على الآخر. بهذا المعنى فإن باريس أحب المدن إليّ. هناك حيث السلطة جزء من حياة البشر لا فوقهم. جزء من حياتهم اليومية، ويناقشونها كما يناقشون الرغيف والكتابة والمقالة. السياسة جزء من الثقافة، بعكس ما لدينا حيث الثقافة جزء من السياسة، الأمر الذي يقتل السياسة والثقافة معاً، ليس هناك سوى التسلط والقهر والهيمنة في الحياة العربية. حيث السلطة غاية عليا، وكل شيء، بدون استثناء، في سبيلها». وعن الفارق بين دمشق وبيروت يقول: «إن بيروت مدينة مفتوحة ومشروع، وهذه هي أهميتها. هناك عناصر متنوعة تتداخل في بناء هذا المشروع، الذي بقدر ما هو مهم هو أيضاً خطر وهش. أما دمشق فينظر إليها من جميع النواحي على أنها مكتملة لا مشروع، وبوصفها مكتملة يجب النظر إليها من زوايا مختلفة عن بيروت. لا بد من رؤية تتفحص هذه الكمالية، تعيد تقويمها من الداخل. لذلك أرى أن هناك حيوية في بيروت وروح مغامرة وانفتاح».
وبخصوص مشاركته في معرض «شعراء تشكيليون..» بأعمال إلى جانب لوحات لإيتيل عدنان وفاتح المدرس وسمير صايغ، نسأله عمّا يقدمه الشعر لتجربته في الفن التشكيلي فيقول: «لا أعتبره تشكيلاً بل قصيدة بعناصر لغوية مختلفة، هذه العناصر مستمدة من أشياء لا معنى لها؛ خرق، قطع حديد، خشب.. أشياء تستعاد من الشوارع وتركّب بطريقة تعطي معنى. هي نوع من إعطاء حرية لليد وامتداد للجسم، وكتنويع على الحرية العقلية. أنا لم أسمها كولاجاً، في العربية لدينا كلمة رقيمة، سميتها كذلك لأن المفردة فيها بعدٌ تشكيلي، فيها التكوين والتشكيل. هذا المصطلح أفضل من مصطلح كولاج. حاولت أن أربط اللغة كحروف بالأشياء بوصفها لغة أخرى، بحيث يصير هناك بناء تشكيلي، لا هو لوحة بالمعنى التقليدي، ولا هو قصيدة بالمعنى المتعارف عليه. إدراك الشيء أسهل من إدراك القصيدة، لأنه يخاطب البصر والحواس. لكن البصر مرتبط بالبصيرة، فالبصر يجب أن يكون بصيرة ثانية، والبصيرة بصر آخر». ولكن متى تعلمت هذا الفن؟ يجيب: «عندي علاقة وثيقة مع الفنانين، أزورهم في مراسمهم، ولدي صداقات معهم، كتبت عنهم، وعملت معهم كتب شعر ورسم. أعيش في جو الفنانين التشكيليين. حين تأتي فترات لا أستطيع الكتابة، ولا حتى القراءة، أحاول ذلك. ذات مرة قلت دعني أعط ليدي تلك الحرية، بدأت أشكّل رقائم، أولاً بدون كتابة، لم تعجبني فمزقتها، ثم حاولت أن أعمل قصاصات ملونة على طريقة الكولاجات الغربية، ولم تعجبني أيضاً ومزقتها. بما أنني أحب الربط بين الأضداد، الوصل بين المتناقضات، قلت لأزاوج بين المادة، الأشياء، وبين اللغة، الكتابة. رحت أنثر تلك الأشياء على سطـــح اللوحة، شيئاً فشيئاً تكوّن هذا الشـــيء الذي وصلت إليه: الربط بين أشد المعــقولات تجريداً، وهي الحروف الأبجدية، وبين المرميات والمهملات من جميع الأشـــياء. أحاول خلق لغة عبر جمع الأضـــداد المتــباعدة. لذلك كــانت النتيجة جديدة؛ لا هي كولاج بالمـــعنى التقليدي، ولا هي قصيدة. قــــوة هذا الشيء بأنه لا شبيه له. مع الوقـــت أحسست أن ما لا أستطيع أن أفصــح عنه باللغة بحد ذاتــها، يمكن قوله بهذه الطريقة بالتعبير».
أما معلمه في هذا الفن المستجد، الذي مارسه لأقل من عشر سنوات، فيعتبر أدونيس أنها الخبرة العملية الحياتية. ويستغرب أدونيس الشاعر أن هناك طلباً على هذه اللوحات، وكيف ينتقل الأمر فوراً إلى ترجمة مالية. يقول: «الحياة غريبة؛ أنت تعمل ديوان شعر تكتبه خلال سنوات، يكون مردوده أقل من عمل قد تعمله بساعة. هذا شيء غير منطقي ولكنه منطق الحياة اليوم. كان هنري ميشو يعيش من الكولاجات أكثر من أن يعيش من شعره».
هذه مفارقة بالطبع، ولكن لعلها مفارقة أخرى تلك التي يشير إليها أدونيس حين يقول «إن الفن التشكيلي في الوطن العربي اليوم هو الأعمق تعبيراً عن الإبداعية العربية، أكثر مما تمثل الرواية أو الشعر نفسه».
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد