الحوارات السرية بين واشنطن وطهران
الرد الايراني على «محفزات الغرب» لن يكون جاهزاً قبل شهرين, لكن الحوار بدأ ولو من موقع الكراهية المتبادلة, بعد ستة وعشرين عاماً من العداء الصريح تخللها فصل «ايران غيت». والسؤال: هل إن مجرد القبول بالحوار علامة ضعف أم قوة, والى اين يمكن ان يقود التفاوض العلني والسري في نهاية المطاف؟
استطراداً: هل إن «الصفقة الكبرى» التي أجهضها ديك تشيني وكوندوليزا رايس عشية غزو العراق, قابلة للإحياء بعد ثلاث سنوات على سقوط صدام, وكيف يمكن الاستدلال الى مضامينها؟
لعبة شد الحبل متواصلة بين واشنطن وطهران بالرغم من قبول ايران العلني والصريح بالحوار, لأن الانقسام الداخلي الأميركي والإيراني معاً قائم حول مضامين هذا الحوار ونهاياته المرتقبة. والمواجهة الإيرانية مع الغرب - واستطراداً مع حلفاء الغرب في المنطقة- مواجهة مدروسة أرست دعمائها المؤسسة الدينية الحاكمة التي أفرزت شخصية الرئيس محمود احمدي نجاد. وهذه المؤسسة التي أقرت الإستراتيجية التسليحية تدرك تماماً النتائج التي يمكن ان تترتب على هذا القرار, في منطقة الخليج كما على المستوى الآسيوي وفي حسابات التوازنات الدولية.
ولم يعد سراً ان «ايران النووية» €ولو بعد سنين€ تستطيع توظيف أوراقها العراقية والسورية والفلسطينية واللبنانية في تحقيق طموحاتها, لأن التزام طهران عميق بـ«حزب الله», ولأن النظام الايراني يدعم ويحتضن حكومة «حماس» وعدداً من الفصائل الجهادية, في مواجهة المقاطعة الأوروبية والأميركية لهذه الفصائل, أما سوريا فتشكل الحليف الاستراتيجي الأهم منذ حرب الخليج الأولى, وقد طوّرت هذا التحالف بكل أشكاله من خلال «مذكرة التعاون الدفاعي» الأخيرة التي تعتبر «أمن سوريا قوة لإيران وأمن ايران أمناً سورياً». ومن هذه الزاوية بالذات يمكن القول إن ايران معنية بصورة مباشرة بتنفيذ القرار 1559, أو ما تبقى منه, بقدر ما هي معنية بإنجاح أو إفشال تنفيذ مقررات الحوار الوطني اللبناني, لجهة إقامة السفارات وترسيم الحدود وتجريد الفلسطينيين والمقاومة من السلاح. والمسألة لا تنحصر بلبنان وإيران فقط, لأن الممر الإلزامي للعلاقات اللبنانية الإيرانية هو سوريا, وهي تشكل بدورها مدخلاً لتطبيع العلاقات الإيرانية الخليجية, في غياب الإستراتيجية العربية المتكاملة التي تحكم السلوك العربي الواحد تحت مظلة الجامعة العربية.
والحضور الايراني في لبنان وفلسطين, كما التحالف القائم بين دمشق وطهران, لا يشكلان بالطبع أوراق التفاوض الإيرانية الوحيدة. فلأول مرة تجد إسرائيل نفسها في مواجهة صواريخ إيرانية متطورة تستطيع ان تقطع مسافة 1500 كيلومتر لتصل الى العمق الإسرائيلي, والاستثمار النووي الايراني ليس مصدر قلق لإسرائيل وحدها, وإنما لعدد من الدول الأوروبية أيضا. وفي الحسابات الإستراتيجية يمكن القول ان اللاعب الايراني يهيئ نفسه لأن يكون اللاعب الأقوى في «هلال الشرق الأوسط الكبير» الذي يمتد من موريتانيا غرباً الى حدود الصين شرقاً, ويضم شمال إفريقيا وسائر البلدان العربية قبل ان يزحف على الجمهوريات الآسيوية للاتحاد السوفياتي السابق التي أصبحت الآن جزاءاً من الاتحاد الأوروبي, وإسرائيل وباكستان ومالطا تعتبر جغرافياً واستراتيجياً جزءاً من هذه المنطقة.
في سياق هذه المعطيات يمكن تصور حجم الصفقة التي يمكن ان تعقد بين ايران والغرب, وعلى أساس هذه المعادلات يناقش الملف الايراني على المستوى الدولي, والإيرانيون الذين يجيدون فن الاستنزاف الدبلوماسي يدركون جيداً انهم قوة أساسية في تمكين الأميركيين من تجاوز الورطة العراقية بأقل ما يمكن من الخسائر, لأن العراق جزء اساسي من «الصفقة» والتسوية, إذا حصلت, سوف ترسم المستقبل العراقي لربع القرن المقبل على الأقل.
موسم الهجرة
ومن الواضح جداً ان مساحة «الصفقة» واسعة وكذلك النتائج المترتبة عليها, وفي رأسها الرهانات النفطية. واضح أيضا ان السبب الرئيسي لارتفاع سعر النفط هو الصين التي تعتبر الآن ثاني اكبر مستورد للطاقة بعد الولايات المتحدة, وإيران هي المصدر الثاني €بعد السعودية€, الى الصين التي تبحث عن منتجين في كل الاتجاهات.ودور النفط الايراني كبير وسوف يتزايد لأن ايران تملك ثاني احتياط عالمي من النفط والغاز في العالم, وهي رابع دولة منتجة للنفط 5% من الإنتاج العالمي, علاوة عن موقعها الاستراتيجي على مضيق هرمز الذي يمر عبره 20% من الإنتاج العالمي. وإيران تزود الصين بـ4% من نفطها, وفرنسا بـ7%, وكوريا بـ9% واليابان بـ10%, وايطاليا بـ11%, وبلجيكا بـ14% وتركيا 22% واليونان بـ24%, وفرض حصار اقتصادي على ايران سيقلق الكثير من دول وشعوب العالم. وإيران بالنسبة الى الصين هي الأهم, لأنها الأقرب جغرافياً والصين تخطط لجرّ نفط حقل "يادافاران" الايراني العملاق عبر خط أنابيب يمر من آسيا الوسطى. وفي العام 2003 ازدادت التجارة بين الصين وإيران بنسبة 50%, وفي السنة التالية أقرت الصين أنها تعاونت مع ايران في برنامجها النووي, وفي العام نفسه وقّعت بكين وطهران صفقة القرن, وهي صفقة تصدير الغاز الايراني المسال الى الصين بطاقة 10 ملايين طن سنوياً ولمدة 25 سنة. ولم تتوقف ايران عند هذا الحد إنما مدت خيوطها الى الهند وباكستان. فقد صرّح أخيرا وزيرا نفط باكستان والهند انه من المرجح ان توقع باكستان والهند وإيران في حزيران الحالي صفقة لمد خط لأنابيب الغاز في مشروع تبلغ كلفته سبعة مليارات دولار بالرغم من الضغوط الأميركية لمنع المشروع. ولتفعيل قدراتها في نقل النفط أبرمت ايران مع إحدى شركاتها الوطنية عقدا لبناء 11 ناقلة نفط, وكذلك الأمر مع كوريا الجنوبية لإنشاء 17 ناقلة, ستكون جاهزة في العام 2009. إذاً ايران تحتاج الى توفير ما يمكن توفيره من النفط والغاز من اجل التصدير الى الخارج في أوج الطلب على الطاقة خصوصاً في المستقبل, ولهذا يصبح دور الطاقة النووية الإيرانية المستقبلية دوراً محورياً,, خصوصاً اذا عرفنا ان 50€ من استهلاك ايران للطاقة يأتي من الغاز الطبيعي و48€ من النفط.
ومن المتوقع أيضا الانتهاء من تشييد اول مفاعل إيراني نووي للطاقة الكهربائية "مفاعل بوشهر" أواخر العام الحالي بطاقة مقدارها ألف ميغاواط تقريباً. وكانت ايران قد وقّعت عقداً في العام 1995 مع روسيا قيمته 800 مليون دولار لانجاز المشروع, وذلك مع استمرار تأكيد طهران أنها في حاجة الى الطاقة النووية لتلبية حاجات سكانها من الكهرباء وخفض استهلاكها الداخلي من النفط والغاز لكي تصدر منهما كميات اكبر. ويجسد مفاعل بوشهر رمز الطموحات النووية الايرانية السلمية, فقد وضع المسؤولون الإيرانيون خطة طموحة تتضمن تشييد 20 مفاعلاً نووياً في غضون السنين العشرين المقبلة. ولا شك في ان هذه الطاقة الإيرانية النووية ستسمح لها بتصدير كميات اكبر من النفط والغاز, خصوصاً الى الصين المتعطشة لكل قطرة نفط. وإذا نظرنا الى الأمور من هذه الزاوية نجد ان الصين متحمسة لإنتاج الطاقة النووية الإيرانية أكثر من
ايران نفسها, وهنا تكمن مشكلة الولايات المتحدة, إذ لا يخفى على أحد الدور الصيني في كبح جماح الولايات المتحدة لاستصدار قرار ضد ايران في مجلس الأمن بالرغم من الجعجعة الأميركية الإعلامية. وإيران بالطبع تعرف تماماً ان نفطها لا محالة زائل, ولهذا تقوم ببناء قدراتها النووية للطاقة لكي تؤمن حاجاتها من الطاقة في مرحلة ما بعد النفط €ربما بعد ثلاثين عاماً€. هذه العوامل مجتمعة تفسر العناد الايراني, ومرده الى ان ايران تقف على أرضية صلبة جداً اذا ما أضفنا الى ما سبق الوضع في العراق والبورصة النفطية.
والصفقات النفطية الغازية هي الوجه الآخر لصفقات أخرى بين الصين وإيران هي الاتفاقات التسليحية, وحجم الإنفاق الايراني على التسلح كبير جداً, وهو يعتمد على التكنولوجيا الروسية والصينية والكورية معاً, ومن هنا انقسام دوائر القرار الأميركي حول الموقف النهائي من ايران, والدعوات المتصاعدة الى توجيه ضربة عسكرية للجمهورية الإسلامية قبل ان تبلغ مرحلة يصعب احتواؤها في المستقبل.
أي حوار؟
في غضون ذلك كلام علني عن الانتقال من القطيعة والمواجهة الى الحوار, للمرة الأولى منذ العام 1979. هذا الحوار الذي باركه المرشد الأعلى يمكن تلمس إرهاصاته الأولى في الرسالة التي وجهها محمود أحمدي نجاد الى الرئيس الأميركي, وفي الرسالة الأخرى التي وجهها كبير المفاوضين الإيرانيين حسن روحاني, مستشار المرشد الأعلى لشؤون الأمن وأحد كبار المفاوضين في الملف النووي, الى مجلة «تايم» الأميركية قبل ايام قليلة من الكشف عن رسالة نجاد. وقد اقترحت رسالة روحاني إعادة الملف النووي الى وكالة الطاقة الذرية والعودة الى التفاوض. في موازاة هاتين الرسالتين كشف الهاشمي رفسنجاني رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام عن موقف مماثل, وتولى كل من علي لاريجاني المفاوض الجديد وروحاني نفسه إبلاغ الأطراف الأوروبية المعنية, وكبار المسؤولين الخليجيين ومسؤولين دوليين بينهم كوفي أنان ومحمد البرادعي, ان طهران مستعدة للتفاوض وهي مقتنعة بأن التسوية ممكنة.
طبق «المحفزات» الغربية يشكل بهذا المعنى بداية تجاوب مع تلهف إيراني للحوار الذي وافق عليه المرشد الأعلى, بالرغم من ان النخبة الإيرانية ليست متضامنة مع هذا التوجه لأنها ترى ان مخاطر الحوار اكبر من فوائده. ويقول فيلنت ليفريت الذي شغل منصب مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي خلال ولاية بوش الأولى, ان واشنطن أجهضت مبادرة ايرانية للحوار طرحت بين العامين 2002 و2003 عبر سويسرا, وهي مبادرة كان خامنئي باركها. ويوضح ليفريت ان ديك تشيني نائب الرئيس الاميركي وكوندوليزا رايس مستشار الأمن القومي يومذاك ضغطا لمنع الحوار المباشر €خلافاً لكولن باول وزير الخارجية€ في ما كان يمكن اعتباره «صفقة ايران الكبرى». اليوم تبدل الوضع وباتت واشنطن راغبة في العودة الى «المبادرة» بكل تشعباتها النووية والنفطية والعراقية والسورية واللبنانية والفلسطينية, سعياً الى تطبيع العلاقات على أسس واضحة, بالرغم من ان ديك تشيني لا يزال يصر على رفض الحوار مع ايران وكوبا... والسبب ربما ان جوج بوش محرج في العراق وان كوندوليزا رايس باتت في صف المحاورين.
وليس سراً ان القطيعة الإيرانية الأميركية لم تكن متواصلة منذ اندلاع الثورة الخمينية, بالرغم من ان اي حوارات علنية مباشرة لم تحصل. فخلال أزمة «ايران غيت» سمح رونالد ريغان باتصالات مباشرة مع الإيرانيين, كما ان بيل كلينتون سمح بمثل هذه الاتصالات. وبعد أحداث 11 أيلول 2001 أجرت إدارة بوش محادثات مع الإيرانيين حول غزو افغانستان وإطاحة طالبان, لكن التعاون الأميركي الايراني في افغانستان انتهى مع بدء التحضير لغزو العراق, وبدء التفجيرات الإرهابية في السعودية التي اتهمت بها ايران. ثم ان طهران امتنعت عن تسليم قيادات «القاعدة» التي لجأت الى الأراضي الإيرانية بعد حرب افغانستان في مقابل تسليم واشنطن قيادات «مجاهدي خلق», ومن يومها أدرج بوش ايران على «لائحة الشر» وأطلق الإيرانيون يدهم لجهة التدخل في الشؤون العراقية.
هل تتعاون طهران أكثر من اجل إحلال الأمن في العراق؟
هل تتنازل الجمهورية الإسلامية عن مكاسبها في لبنان وفلسطين؟
هل إن الصفقة تقضي بفك الارتباط الاستراتيجي بين طهران ودمشق؟
هذه الأسئلة كلها مطروحة, على هامش بل في صلب الملف النووي, على خلفية تراكمات عدائية بدأت ربع قرن ولم تنته بعد, وجاذبية الكراهية قد تكون أقوى من جاذبية الود في رسم مستقبل العلاقات بين ايران والولايات المتحدة, وبين ايران والغرب.
جاد بعلبكي
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد