خيانـة الترجمـة أم وفاء الجهل؟!
خطر لي وأنا أهيئ لهذه المقالة أن أعود إلى «لسان العرب» لابن منظور باعتبار ان هذا المعجم العربي الفريد من نوعه لا يكتفي بتحديد الأصول النحوية للكلمة عبر ردها الى صيغة الفعل بل يتابع اشتقاقاتها الصرفية ووجوه استعمالها ودلالاتها المتحولة. وقد تبين لي أن لفظة الترجمة مشتقة من الفعل الثلاثي «رَجَمَ» بمعنى «رمى» بحيث تأتي الآية القرآنية التي تشير الى النجوم «وجعلناها رجوماً للشياطين» بمعنى: وجعلناها مرامي لهم وعلامات يهتدى بها. فالترجمة بهذا المعنى تشير وتهدي وتدل وليس بالضرورة أن تصيب قلب الهدف. والرجوم أيضا هي الظنون والحدوس بما يتوافق مع قول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى عن الحرب: «وما هو عنها بالحديث المرجّم»، بمعنى أن الحديث عن الحرب هو حديث الوقائع والحقائق وليس حديث الرجم بالغيب أو الظنون المحضة. ولا يحتاج الدارس المتأمل هنا الى كبير جهد لكي يكتشف أن مصطلح الترجمة عند العرب يتصل اتصالا وثيقا بالتخمين والظن وانعدام اليقين. أما الطبري في كتابه «التفسير» فقد رأى أن «كل كتاب حوّل إلى غير اللسان الذي نزل به كان ترجمة وتفسيرا»، معطيا للترجمة معنى التفسير والشرح، متجاوزا بذلك معنى النقل الدقيق للكلمات.
كتب التراجم
لكن اللافت في هذا السياق هو أن الترجمة عند العرب تختلط بمعنى السيرة والتأريخ بحيث تطلق على الكتب التي تعنى بسير القادة والأعلام والكتّاب تسمية «كتب التراجم»، كما لو ان الكتابة عن الحياة ليست الحياة نفسها بل ترجمتها في الكتابة التي لا تطابق الواقع بأي حال. ولا بد لي هنا من أن أروي هذه الحادثة التي حصلت معي قبل أيام والتي تؤكد هذه المشاكلة بين المعنيين. فقد ذهبت الى إحدى مكتبات رأس بيروت طالبا من صاحبها الحصول على بعض المراجع التي تساعدني في الحصول على ما يفيدني في إعداد هذه الورقة حول الترجمة. حتى اذا توارى الشخص المعني قليلا خلف رفوف مكتبته المترامية أحضر لي كتابا للمفكر العربي عبد الله عبد الدايم بعنوان «الترجمة الذاتية» ليتبين لي أن كتاب عبد الدايم يدور حول أدب المذكرات والسير الذاتية التي كتبها المؤلفون بأنفسهم. بما يؤكد الالتباس القائم بين الحياة المعيشية والكتابة عنها، بحيث تصبح المسافة بينهما موازية بشكل أو بآخر للمسافة بين النص الأصلي والنص نفسه منقولا الى لغة أخرى.
قد تكون الترجمات العلمية والنقدية والفكرية بوجه عام أيسر من سواها لأنها أقرب الى النقل والمماثلة منها الى الاجتهاد والتأويل. ومع ذلك فإنها تشتمل بدورها على الكثير من الصعوبة نتيجة للفوارق الحضارية والعلمية بين الأمم. فالمنجز اللغوي لا يمكن فصله بأي حال عن المنجز الحضاري والعقلي والتكنولوجي بما ينعكس على عمليات التوليد والاشتقاق كما على ابتكار المصطلحات والرموز الدالة على التحديث. وقد اعتبر المفكر المغربي عبد الله العروي من جهة أخرى أن لكل لغة مسارها وتكوينها ومنطقها الخاص، ذاهبا الى أن المتكلمين باللغة الفرنسية يستعملون منطقا عقليا وتجريديا، وأن المتكلمين بالانكليزية يميلون الى منطق تصنيفي تجريبي، في حين أن المتكلمين بالعربية ينحون الى الخطابة والتوصيف الإنشائي والإفاضة البلاغية، وهو ما يجعل التنقل بين اللغات ليس تنقلا بين المفردات والمصطلحات العجمية فحسب بل هو انتقال من نسق الى نسق ومن مفهوم إلى مفهوم.
أبعاد الشعر
على أن الأمر بالنسبة إلى الشعر أكثر خطورة مما هو في العلم والفلسفة والفكر النقدي، أو مما هو في الرواية وآداب النثر. فالكلمة في الشعر لا تحمل دلالة معجمية ثابتة ونهائية بل هي مفتوحة على تأويلات ومظان شديدة التنوع، بحيث يجد المترجم نفسه ضائعا وسط تموجات شتى من التراكيب والتفاسير والاحتمالات الشاسعة. ولأن الشعر هو لغة في اللغة كما هو القول الشائع. وهذه اللغة الداخلية هي بالذات ما يصعب القبض عليه، ليس فقط لأن المعنى يقبع دائما في قلب الشاعر، كما تقول العرب، بل لأن هذه اللغة بالذات هي الابنة الشرعية للحساسية المحلية وللهجات المحكية المتواشجة مع تعاقب الأجيال ومع الحكم والاختزالات والأمثال الشائعة، حيث تبدو الترجمة أقرب الى القلب الاصطناعي منها الى الخفقان المتوهج للقلب الأصلي. ولأن اللغة روح وهوية وطريقة في مقاربة العالم، فإن الترجمة اللفظية للشعر لا تؤدي غرضها على الإطلاق لأنها ترى اليه باعتباره تعاقب ألفاظ وتراصف كلمات وتزلجا سياحيا على سطوح العبارات، بينما يظل الشعر كالحياة في مكان آخر، وفق ميلان كونديرا. ومن يترجم الشعر بوصفه ألفاظا متجاورة يبدو كمن يأتي بكل التمديدات اللازمة لوصول الكهرباء، في حين ان ما ينقصه هو التيار الكهربائي نفسه.
أما من يترجم الشعر بوصفه معاني وأفكارا فحسب، فهو كمن يزعم وجودا للروح خارج الجسد أو كمن يرده الى النثر الخالي من أي نسق هندسي أو فتنة جمالية. وقد سبق لأبي عثمان الجاحظ أن اعتبر المعاني مطروحة في الطريق ومشاعة بين الجميع، وأن قيمة الشعر تكمن في أبعاده التشكيلية والإيقاعية. واذا كان الشعر نوعا من الطاقة الحية، وفق تعبير برغسون، فهذه الطاقة تتغذى من لهبها الخاص وينبوعها الداخلي. والمترجم مهما أوتي من البراعة فلن يستطيع أن يسرق النار الأولى أو ينقل الينبوع من مكانه، بل ان جل ما يفعله هو أن يقبس بعض الشرر المتطاير أو بعضا من الماء المتولد عن الينبوع لا الينبوع نفسه. لكن شرطه لكي ينجح حتى في هذه المهمة المتعثرة هو الوقوف على ناصية اللغتين الأولى والثانية قدر ما يستطيع. واذا كان يستند في ترجمته الى لغة ثالثة وسيطة فإنه يعرّض النص البديل الى تصفية مزدوجة يسقط خلالها الكثير من الجمر على الطريق الشائك.
ترجمة الشعراء
إن ترجمة الشعر تبعا لذلك هي أخطر بكثير من أن توضع في عهدة المترجمين «المحلفين» أو الموظفين في مكاتب الترجمة وهيئاتها الرسمية المختلفة. ولذلك فإنني أزعم أن من هو قادر على ترجمة الشعر هم الشعراء وحدهم، أو المحسوسون بشغف الشعر في أسوأ الأحوال. تحضرني في هذا المقام، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ترجمة فؤاد رفقة لرلكه وهلدرلن وبعض الشعراء الألمان، وترجمة الشاعر الراحل ميشال سليمان لبابلو نيرودا في ديوانه «سيف اللهب» حيث استطاع سليمان أن يتفوق حتى على نصوصه الشعرية الشخصية، وأن يقدم للقارئ العربي عملا مترجما يضاهي النص الأصلي في نضارته وبهائه. يكفي أن نقتطع من الترجمة نصا عشوائيا من مثل «روزي العارية خلال الزرع المتشابك/ تفتحت ليدخلها رودو/ وسُمع للأرض حشرجة أو هزيم رعد/ وحيا النهر العاصف القمر/ سلالتان متعارضتان اندمجتا» لكي نلحظ جمالية العبارات وتدافعها المتوتر والإفادة الموفقة من صيغة التثنية في البيت الأخير لكي نصاب بعدوى الشعر حتى دون أن نعرف اللغة الأم. ولدينا أيضا شواهد مماثلة في ترجمة سعدي يوسف لريتسوس أو ترجمة أدونيس لسان جون بيرس وأنسي الحاج لناديا تويني. واذا كان صلاح ستيتية قد صرح إثر ترجمة أدونيس لبعض أشعاره بأن أدونيس قد «أدنسني» أي جعلني أدونيسيا، فلن يضير ذلك المترجم في شيء، لأن ترجمة الشاعر للشاعر هي لقاء على القمة بين لغتين.
ظلال النص
على أن أكثر ما يرهق الشعر ويبعده عن سياقه ومراميه هو ترجمته الى شعر موزون حتى لو كان النص المترجم موزونا في الأصل. ذلك ان نظام الإيقاع والتصويت والنبر ليس هو نفسه في اللغتين الأولى والثانية. واذا كان الوزن في النص الأصلي يفرض على الشاعر الكثير من القيود والتبعات المتعلقة بالتقديم والتأخير واختيار المفردات الملائمة وحذف مفردات أخرى بحيث تزداد الفجوة بين الفكرة ومعادلها التعبيري، فإن هذه الفجوة تصبح مضاعفة تماما في حالة الترجمة، بحيث لا يبقى من النص الأول إلا أشباحه وظلاله البعيدة. أما في الترجمة الموزونة والمقفاة فإن التعسف وليّ عنق الكلام يبلغان حدودهما القصوى، ويصبح النص المترجم شأنا بعيد الصلة تماما عن النص الأول. وفي الترجمة الموزونة تضيع المعايير وتختلط المستويات، بحيث يصبح هوميروس شبيهاً بعنترة بن شداد ولامرتين بعلي محمود طه وبودلير أقرب الى النظّامين المبتدئين في سنوات المراهقة الأولى. وهذا التعسف في الترجمة الموزونة هو ما دفع شاعراً كناظم حكمت إلى لوم مترجمه الى اللغة الروسية ومعاتبته قائلاً «إنني لست راضياً عن ترجماتك تلك. فأنت تكثر الغوص وراء القوافي بحثاً عن الأشكال الشعرية لتتحول ترجماتك لقصائدي الى أشعار جميلة غير أنها لم تعد قصائدي أنا بل قصائدك أنت».
ترجمة الروح
إن الشعر أخيرا هو المعبر الأعمق عن روح الأمة وهويتها وشكل حضورها في العالم وطريقة توقيعها على الزمن. ولهذا السبب توحد الشعراء الكبار بشعوبهم كما بلغاتهم الى حد التماهي، فوُصفت الانكليزية بلغة شكسبير والايطالية بلغة دانتي والألمانية بلغة غوته والروسية بلغة بوشكين والعربية بلغة المتنبي. وهو ما أكده الشاعر الانكليزي ت. س. إليوت بقوله. «انه لأسهل أن نفكر بلغة أجنبية من أن نشعر من خلالها. فما من فنّ يتسم بالقومية اتساما عنيدا كما هو الشعر». على أن ترجمة الشعر رغم ذلك تظل الممر الذي لا بد منه لنقل عدوى فتنته إلى الآخرين. ولا بد أحيانا من هدر دم اللغة الأم لتنسّم بعض من العطر الأخاذ الذي يفوح منها، تماما كما فعل بطل زوسكند في رواية «العطر».
لقد قيل «كل ترجمة خيانة»، وهذا صحيح الى حد بعيد. ومع ذلك فإن خيانة الترجمة أفضل بكثير من وفاء الجهل!
شوقي بزيع
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد