فيلم 'أيام الضجر' قيد العرض الجماهيري
وضع الفيلم السينمائي الجديد للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد (أيام الضجر) قيد العرض الجماهيري في صالة (الكندي) التابعة لمؤسسة السينما السورية، منتجة الفيلم، في دمشق وبعض المحافظات السورية الأخرى منذ عدة أسابيع.
الحدث يبدو بعيداً عن الاهتمام الإعلامي، الذي لقيه الفيلم المذكور لدى عرضه في مهرجان دمشق السينمائي أواخر العام الماضي، حيث كان من المتعذر الحصول على بطاقة لحضور الفيلم بالنسبة لجمهور المهرجان حتى قبل ثلاثة أيام من عرضه... أما الآن فصالة سينما (الكندي) في دمشق على الأقل، والتي تبيع تذاكرها بسعر تشجيعي جداً، تبدو وكأنها تعرض فيلماً قديماً لا يجتذب أحداً!
ولا أسوق هذه المقدمة للنيل من هذا الفيلم بحد ذاته، وخصوصاً أن مخرجه وصف كثيراً بأنه (مخرج الأفلام الجماهيرية) لكن أشير إلى هذه الحال، للحديث فقط عن الوضع المأساوي الذي تعيشه السينما في سورية اليوم، حيث انصراف الجمهور عن سينماه المحلية.. حتى بعد تجديد صالة سينما الكندي بدمشق، وحتى بعد أن باتت مؤسسة السينما، تضع أفلامها قيد العرض الجماهيري.. بعد فترة قصيرة من إنتاجها، بدل الاكتفاء بعرضها في المهرجانات، وتأجيل عرضها الجماهيري لسنوات، كما كان يحدث سابقاً!
- فيلم (أيام الضجر) الذي أثيرت إشكالات وأقاويل حول أحقيته بجائزة (أفضل فيلم عربي) في مهرجان دمشق السينمائي السادس عشر، هو الفيلم الروائي الطويل الثامن لمؤلفه ومخرجه عبد اللطيف عبد الحميد، وهذا يعتبر إنجازاً كبيراً لمخرج قدم أول أفلامه الروائية الطويلة (ليالي ابن آوى) عام 1988، في بلد لا توجد فيه حركة إنتاج سينمائي بالمعنى الحقيقي للكلمة... وقد اشتهر عن عبد اللطيف عبد الحميد ـ عدا عن أنه يكتب سيناريوهات أفلامه جميعها بنفسه- أنه ينجز أفلامه في زمن قياسي، مقارنة ببعض زملائه من مخرجي السينما السورية، وبميزانيات معقولة ومنضبطة إلى حد كبير... لكن عندما نتحدث عن الإنجاز النهائي لـ (أيام الضجر)، وعن جدارته في أن يشكل إضافة ما للسينما السورية، فإن هذه المزايا تتهاوى، وتصبح عديمة القيمة أمام صورة الفيلم ككل!
يعود (أيام الضجر) إلى زمن الوحدة بين مصر وسورية، وإلى عام 1958... وهو يتحدث عن أسرة مكونة من زوجة وأربعة أولاد لعسكري من ريف الساحل السوري، تعيش في الجبهة على الحدود مع فلسطين المحتلة في الجولان السوري... وعندما كانت مصر وسورية تواصلان الاحتفال بقيام الوحدة بينهما (وقع اتفاق الوحدة في 22 شباط/ فبراير) في ذلك العام، نزل بحارة الأسطول السادس الأمريكي في لبنان بطلب من رئيسه آنذاك كميل شمعون (25 تموز/يوليو)، فتم نقل الكثير من الأسر إلى قراها في الساحل، وانتقل الأطفال من أجواء الترقب والإثارة الطفولية التي كانت توحيها الجبهة بالنسبة لهم، إلى أجواء السكون في تلك القرى التي كانت بعيدة تماماً عن كثير من منجزات الحضارة!
ركز عبد اللطيف عبد الحميد، على تفاصيل حياة الأسرة بين زمنين ومكانين، في الجبهة بدا اللعب الطفولي على قدر بالغ من الحيوية، وبدا الفعل الجنسي بين الأب والأم الشكل الأمثل لحيوية تلك الحياة أيضاً... أما في القرية، فقد بدا المكان غريباً، غير قادر على إمداد الأطفال بوسائل اللهو والتسلية التي يحبونها، وغاب الأب عن الأسرة، ليعود في آخر الفيلم وجهه ملفوفاً بالشاش الأبيض، وقد فقد بصره... وفقد قدرته على رؤية الأهل والمكان والحياة بأسرها، في لحظة مفعمة بالمأساة والمرارة!
وهكذا يطرح الفيلم فكرة ملتبسة ومشوشة، حول الحياة على حدود الخطر التي تبدو مسلية، والحياة في قلب ريف ساحر وهادئ ومطمئن، لكنه يبدو ممل ومضجر!
ولاشك أن هذه الفكرة تحوي دلالات تستحق المراجعة، فهل الحياة العسكرية هي النشاط المثالي، وهي الحلم الذي يجب أن يسعى إليه أولئك الأطفال؟! أم أنها مجرد تولهات ذاكرة طفولية لا تميز بين متعة اللعب داخل الدبابة العسكرية المعطلة التي كانت قرب البيت على الجبهة والتي كانت أجمل مكان يصلح للاختباء، وبين نيران تلك الدبابة وما تعنيه بالنسبة لطفولة مجبولة بالتوق إلى اللهو، وتبديد الضجر!
إن الفيلم يغلف فكرة الاشتياق إلى اللعب على حدود الجبهة لدى الأطفال، بحالة المخاطرة الواعية وأداء الواجب، التي يبذلها الآباء من أجل حماية حدود الوطن والذود عنه والتضحية في سبيله... فتبدو هذه هي التبرير النبيل لتلك... لكن في النهاية، لا يستطيع الفيلم أن يميز بين ضجر الأطفال والكبار، ولا بين انكسار أحلام الأطفال، وإجهاض أحلام الكبار... ولهذا لا يمكن أن نتعاطف مع الحالة السكونية المضجرة، التي بدا عليها الريف في عيون أبنائه من الأطفال، إلا باعتبارها منبثقة من ذاكرة طفولية مشوشة، غير قادرة على وعي حقيقة الحياة العسكرية وقسوتها على بنيتهم النفسية قبل الجسدية بالطبع... وإذا كنا نكره تدخل الأسطول الأمريكي في ذلك الوقت والآن وفي كل آن، فإننا لا نستطيع بالتأكيد أن نجعل مشكلتنا معه، في أنه حرم الأطفال من البقاء في الجبهة، ورمى بهم في قرى الضجر.. لأن مكان هؤلاء الطبيعي في قراهم وليس على جبهات القتال التي يمكن أن تشتعل في أي لحظة! أما إذا كانت المشكلة في الأساس، أن الاحتلال الإسرائيلي لأراضي فلسطين، هو الذي رمى بهذا العسكري وأسرته في الجولان كي يحمي الحدود، فنشأ أطفاله وقد ظنوا أن الحياة الطبيعية هي حياة الجبهات، والحياة الاستثنائية المضجرة هي الحياة المدنية في القرى الهادئة... فإن السياق العاطفي المبهج الذي وضع فيه عبد اللطيف عبد الحميد تلك الذاكرة الطفولية، وغياب أي إشارة نقدية لمثل هذا الوضع الشاذ على الجبهة، يجعل الفيلم يندفع في اتجاه معاكس، بعيد عن هدفه الذي يجب أن يخلص له!
-على الصعيد السياسي، بدا الحدث وكأنه يعيد نفسه، فقد استحضر الفيلم أجواء الاستقطاب التي كان يشكلها لبنان، بين قـــوى الموالاة المنضوية تحت لواء المعسكر الغربي- الأمريكي، وبين قوى المعارضة التي تتهم بالولاء لســورية ولحالة المقاومة عموماً.. لكن هذا الاستحضار، رغم أنه كان جاهزاً ليقول رسائله، ويوحي بتطابقه مع الحاضر... بدا ميكانيكاً... فهو لم يدخل في جوهر التغيير الذي طرأ على اللعبة السياسية، خارج تلك المقولات الجاهزة... وهو تغيير ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار، الواقع السياسي السوري المختلف تماماً عما كان في عام 1958، بغض النظر عن معطيات اللعبة الإقليمية الكبرى... بل وحتى على الصعيد الإقليمي لا يمكن أن نرى فترة الخمسينيات، بوجود قوى كبرى كالاتحاد السوفييتي، كما نرى العالم اليوم، بغياب هذا القطب أمام تغول القوة الأمريكية!
لكن يبدو أن الفيلم أراد أن يقدم أطراً عامة تصلح للمقارنة السريعة، ذات البعد الطريف، أكثر من أن يقدم رؤية فيها تحليل عميق وموضوعي ومتوازن!
ولعل هذه الأطر العامة قادت عبد اللطيف عبد الحميد، إلى الكثير من التجاوزات فيما يتعلق بالدقة التاريخية، كأن تبدو جبهة الجولان تحت سيطرة الضباط المصريين، وهو أمر لا يبدو أنه دقيق، إذا علمنا أن ما يفصل بين قيام الوحدة ونزول الأسطول الأمريكي السادس على شواطئ لبنان، كان خمسة أشهر فقط، لم تكن كافية لمثل هذا التغلغل، وخصوصاً إن توحيد برلماني البلدين، وإلغاء الوزارات الإقليمية لصالح وزارات موحدة في القاهرة لم يتم إلا عام 1960!
-جاء الإنجاز الفني في الفيلم، مؤسساً على سيناريو فقير بالتفاصيل، يسعى لتقديم رؤية لا تخلو من قسر متسرع، ولمزج الكوميديا بالتراجيديا بشكل غير محكم دائماً... ولذلك لم يستطع أن يقدم عبد اللطيف عبد الحميد حلولاً مشهدية لافتة تغني السياق الدرامي، الخالي من الصراع أصلاً... والذي ينحو منحى سردياً يفتقر للعقدة ولا يستطيع في الوقت نفسه، أن ينهض ببنائه السردي، عبر تراكمية تغتني بتفاصيل تراكمية مؤثرة. وحتى حالة الإجهاض التي أراد لها أن تأخذ بعداً سردياً، بدت مفتعلة، وغير منسجمة مع السياق، وخصوصاً أنها حدثت في الريف، ولم تحدث في الجبهة تحت تأثير الخوف والرعب المفترضين!
لكن لابد أن نشير إلى نجاح المخرج الواضح في إدارة أبطال فيلمه من الأطفال: (أمين عباس، محمد جبارة، عبد الرحمن ومحمد عرب)، وإلى قدرته على تأصيل الحلول الكوميدية بصرياً (مشاهد سباق تلاميذ المدرسة وتسليم الجوائز) وإلى خلق ذلك التباين في الأجواء بين حدي الحياة في الجبهة والضيعة: إيقاعياً وبصرياً، دون أن ننسى جهود الفنان موفق قات في الديكور هنا.. أو جهد أحمد الأحمد في أداء الدور وفق إمكانيات الشخصية، والحضور الموفق لمعن عبد الحق مقابل ضعف الحضور النسائي عموماً.
إن فيلم (أيام الضجر) هو نموذج للفيلم الذي يندفع نحو قول فكرة، تخدم الواقع السياسي القائم، من خلال رسم لقطة إنسانية تبدو للوهلة الأولى مؤثرة وشفافة ومشغولة ببراءتها الطفولية، لكننا حين ننظر إليها، في نفس السياق التاريخي الذي اقترحه المخرج وكاتب السيناريو لها، سنجد أنها فكرة أحادية الرؤية، لا علاقة لها بالمرحلة... إلا من حيث كونها حالة افتراضية يتم إسقاطها قسراً على ذاكرة طفولية مشبعة بحب الحياة العسكرية، وعلى ذاكرة أخرى معاصرة تسعى لاستظهار صورة الحاضر المختلف، في (مرآة) ماض مختلف أيضاً ولا يصلح لأن يكون مرآة أصلاً... إذا أردنا أن نقول كل الحقيقة بموضوعية وصدق!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد