ذكريات عن نقد الشعر في سورية خلال السبعينيات
-1-
من الممكن القول: إن الحركة النقدية في سورية منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي وإلى الثمانينات منه قد توضعت على فم الرواية والقصة القصيرة فمعظم الكتب النقدية الصادرة خلال هذه الفترة كرست اهتمامها بهذين الفنين ولم تعر الاهتمام بالشعر، نقدياً إلا كتب قليلة معدودة تحسب على أصابع اليدين، ولست هنا بصدد رصد أسباب هذه الظاهرة ولكنني سأنثر بعض الخواطر بشأن دور النقد الأدبي في حركة الشعر العربي الحديث في سورية، ثم انتقل بعدئذ لرصد تأثير النقد على (كتابي الشعرية) في أثناء العقد المشار إليه سابقاً.
يهمني أن أذكر أن عدة كتب صدرت ترصد تيار شعر الحداثة في سورية لنقاد أثبتوا فعاليتهم في هذا الميدان وكان لكتبهم دور جدير بالاحترام والتقدير يحضرني من أسمائهم جلال فاروق الشريف وحنا عبود وبو علي ياسين مع نبيل سليمان وأحمد يوسف داوود وأحمد بسام ساعي ويوسف اليوسف ودريد يحيى الخواجة.
ولاشك أن القارئ لمؤلفاتهم النقدية يستطيع أن يخرج بصورة شبه متكاملة عن حركة الحداثة الشعرية في سورية بمختلف تياراتها وانتماءاتها المذهبية الفنية، واتجاهات أصحابها الفكرية والسياسية من خلال تسجيله للملاحظات التالية:
1- إن معظم كتب هؤلاء النقاد تتمتع بمنهج نقدي متقدم نسبياً على ماسبقه، يغوص إلى عمق العمل الأدبي ويسبر أغواره ويحلل عناصره ويستخلص سمات وخصائص تتعلق بخارطة الاتجاه الشعري المدروس.
2-إن هذه الكتابات النقدية كانت جميعها تعالج المضمون الشعري في تطبيقاتها وفي تنظيراتها وترجحه على دراسة الشكل الفني له ووسائل التوصيل والأداء فيه.
3-هناك محاولة ملموسة في بعض هذه الكتب لتحديد آفاق المصطلح النقدي في ميدان الحداثة وتبيان دلالاته ومفهوماته (الأسطورة، الرمز، الإيحاء، البنية الفنية، التشكيل الشعري ، الصورة الشعرية، إلى ماهنالك). إضافة إلى رسم صورة تاريخية لمخاضات المدارس الأدبية كالكلاسيكية، والرومانسية والرمزية والواقعية الجديدة في الشعر السوري الحديث.
4-علة هذه الكتب اقتصارها في إيراد الشواهد على شعراء الستينيات الذين لعبت عوامل شخصية وسياسية وإعلامية وسواها على إبراز أسمائهم، وصنع هالة مضخمة حولهم وحول أعمالهم الشعرية لايستحقون حجمها وماكانت لتتهيأ لهم لو اكتفوا بمواهبهم الإبداعية الذاتية وحدها فقط، ما أدى إلى إهمال من لم تلعب مثل هذه العوامل في طرح اسمه على ساحة الحضور الشهروي واعتمد على قدراته الفنية لاغير من دون الاتكاء إلا على شرطه الشعري المنحاز للشعر وحده لا لسواه.
هذا هو انطباعي عن النقد الأدبي في سورية المكرس في كتب نقدية خاصة صدرت لتقوم بدورها البنائي وهي لاشك تحمل هماً نقدياً واعياً مجدداً ونبضاً واضحاً في الإحساس بالمسؤولية والشعور بضرورة تحمل تبعاتها.
-2-
أما مأساة مايدعى بالنقد الأدبي في صفحاتنا الثقافية خلال مطالع سبعينيات القرن المنصرم وبداية الثمانينات فقد تصعدت حتى وصلت ذروتها بعد أن كثر المتطفلون على مائدة النقد، فمع حاجة هذه الصفحات إلى المراجعات المستعجلة للكتب الجديدة الصادرة بكل أجناسها الأدبية تكثر المضحكات المبكيات.
وغني عن القول أن نذكر أن من أبسط شروط الناقد الذي يتصدى للقيام بالعملية النقدية أن يقرأ الأثر المنقود بوعي واهتمام وأن يتمتع بالذوق الفني المدرب، وأن يكون علىاطلاع ثقافي مقبول نسبياً وأن يستعمل لغة نقدية يتوفر فيها المصطلح النقدي المتعارف عليه للجنس الذي يقوم بنقده وأن يبتعد عن إطلاق الأحكام الانسيابية المائعة والتعميمات المجانية الخاوية ولايسقط في تناقض آرائه المبثوثة في زوايا نقده وأن يتسلح بأسس نظرية نقدية يتبناها ويطبقها، تقيس العمل الأدبي المنظور فيه مضموناً وشكلاً.
أعتقد أن هذه مسلمات فرغ فن النقد الأدبي أو علمه من الحديث حولها وأضحت من ثبوتياته.
ولكن ماالذي كان يسيء إلى العملية النقدية في صحفاتنا الثقافية التي تصدرها صحف القطر كالثورة والبعث وتشرين والزوايا الأدبية في المجلات الأسبوعية أو نصف الشهرية إبان هذه المرحلة التي نستعيد استحضار صورتها الآن.. ويجعل القارئ لايثق بأعمدة ما يسمى بالنقد الأدبي المنشورة على أنهارها؟
باختصار نجيب: أدعياء النقد والمتكسبون هم الذين يسيئون إلى سمعة النقد الأدبي لدينا إذ من المعروف أن حركة نقدية صحية ناشطة مسؤولة أخذت تتبلور معطياتها في يوميات الصفحات الثقافية في صحفنا خلال عامي 77-78 عندما ساهم في تنشيطها نقاد أو ممارسو نقد على درجة معينة من الثقافة والحس النقدي والمسؤولية الأدبية نذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر: خلدون الشمعة، محيي الدين صبحي، محمد كامل الخطيب، سامي عطفة، فائق المحمد.. ثم لسبب أو لآخر انحسر مد هذه الحركة وفرغت الساحة النقدية من معظمهم فتصدى لملء الفراغ من لايتوافر فيهم الحد الأدنى من متطلبات الناقد الأدبي وهكذا راحت الصفحات الثقافية تطالعنا بكل غث وممجوج لمتسلقي قامة النقد وصح فينا المثل الذي يقول: العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة وكانت ضحية هذه الميوعة النقدية أعمال إبداعية متميزة نظر إليها بتسرع وكتب عنها بإنشائية وحكم عليها بمجانية.
-3-
في الصميم من هذه المرحلة الزمنية المدروسة والمشار إلى تاريخها سابقاً والمستعادة الآن من قبلنا استذكار موثق منشور في حينه بنصوص، كان هناك بأس وأي بأس (وأكاد أقول بؤس) في الحركة النقدية للشعر العربي في سورية.
فمن أجل أن يرضى عنك النقاد الإيديولوجيون- وللإنصاف: المتزمتون منهم- والشعراء الوطنيون، ويدخلون مملكة رحمتهم ويسيغوا عليك بركاتهم ويحشروك في قائمة الأولياء والصالحين والقديسين إلى يوم الدين ويكتبوا عنك مقالة، فيها إشارة عابرة إليك في آخرها بعد مقدمة طويلة متجاوزة في التنظير الشعري المتربص سوءاً بكل من لايسير في ركابه، يمننونك إثرها بأنك لولاها- مقالتهم المصون- لما كنت في عداد المعروضين.. من أجل ذلك كله أو بعضه عليك أن «تطوب» نفسك شاعراً ملتزماً، تكتب بحماسة وصراخية وانفعالية وتقريرية ومباشرة عن قضية فلسطين أو عن العمال والفلاحين والكادحين المسحوقين أو عن خطط التنمية وتسويق النفط والإصلاح الزراعي ونتائج التأميم والسدود السطحية والتعاونية الإسكانية والاستهلاكية ولتكن كتابتك بعدئذ ما تكون: بياناً انتخابياً أو تقريراً مرفوعاً إلى جهة وصائية ثقافية مسؤولة، وليشح عنها الفن ولْيَلْوِ الإبداع رأسه قبلها، ولتنحط إلى مستوى الكلام المسرود ولتمتلئ بالإحصائيات والأرقام- فهي من علامات الوثائقية والتسجيلية- أليس فيها طلبهم من الالتزام المدعى، وهو توظيف الأدب والشعر خاصة في سبيل هدفهم المرحلي المنشود..إه .. يكفيك ذلك فخراً فأنت مرضي عليك، ولكن ياويلك إذا تحدثت في قصيدتك، عن نفسك، وخضت في شؤون تجربة وجدانية عانيتها بذاتك أو بمعرفتك..ياويلك إذا كتبت قصيدة عن عذاباتك الوجودية، عن قلقك في الحياة، كفرد ضمن مجموع، كخلية داخل مجتمع، عن شعورك بالغربة والضياع وهواجس العصر وآلامه ومرارته، عن إنسانيتك المهانة المحاصرة، ويلك إذا تطرقت في إحدى قصائدك لتصوير حالة حب اعترتك وكوتك بنارها، فالحب عندهم يجب أن ينسرب من الخاص إلى العام وينبغي توظيفه اجتماعياً، إذن فأنت معارض في عرفهم لرسالة الأدب في الالتزام، وحينئذ ستنهال عليك سكاكينهم النقدية تمزقك إرباً إرباً، سيقال عنك إنك شاعر مغلق رومانسي تنضح من بئر ذاتك، إلى آخر هذه التعبيرات الجاهزة المضطردة، والذات شيء محرم في مذهب الالتزام الادعائي الضيق المفهوم، السطحي الرؤية، منطقة محرمة يجب عليك عدم الاقتراب من أسلاكها الكهربائية الشائكة وإلا فستكون نتيجتك ونتيجة من يحوم حولها ، فكيف الدخول فيها واختراق مجالها- الحيوي- دَفْعَكَ واضطرارَكَ وسَوْقَكَ إلى الإقلاع عن كتابة الشعر.
إن من تحصيل الحاصل أن يكون الأديب عامة والشاعر خاصة ضمير شعبه ووطنه وأمته في العصر الحديث على وجه التحديد ولدى أدباء الأمة العربية المهددة بالأخطار الاستعمارية والمطامع الإمبريالية، إنه بشكل تلقائي وعفوي وتربوي وميراثي ملتزم بهموم هذه الأمة لتحقيق أهدافها في الحرية والتحرر والعدالة الاجتماعية ووحدة الصف وبناء المجتمع الحضاري المنشود والأديب العربي وهو من عداد الطليعة المكافحة لصنع المستقبل المزدهر أجدر الناس بحمل رسالة الالتزام السامية، لا الإلزام القسري.
هنيئاً لكم، أيها النقاد المؤدلجون في أفكاركم وبالشعراء الملتزمين التزاماً ضيقاً على طريقتكم ولكن من دون فن!؟ ولكي تطرق باب الشهرة وتكتب عنك الصحافة بكثرة، وتصبح (نجماً شعرياً) عليك أن تتمسح بأعتاب ناقد.. أن تسايره وتمشي في ركابه وتكسب رضاه وتوافقه على هواه، وإذا كنت من سكان الأقاليم كمثلي فإن أحداً من النقاد الذين يقطنون في دمشق لن يفطن بك لأنه لا يراك، فإذا سنحت لك فرصة زيارة العاصمة فإن أول شيء مفترض فيك أن تفعله زيارة هذا الناقد، وسيعدك أنه سيكتب عنك وعن شعرك بطاقات حولها، يا أخي أنت شاعر بحاجة إلى أن يقرأ الناقد مجموعتك أكثر من ثلاث مرات حتى يستطيع الكتابة عنك تدليلاً على أهميتك.
قرأت مرة حواراً مع الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وفي ثناياه سأله المحاور لماذا طغت شهرة صلاح عبد الصبور عليك؟ فقال حجازي: عبد الصبور عرف كيف يكسب النقاد وأشباهم.. أرضاهم.. فشهوره.
-4-
أنا أحترم الناقد المثقف الدّضرب، وأعتقد أن له دوراً وإن كان محدوداً في تجربتي الشعرية وعندما أصدرت مجموعتي الشعرية الأولى (مسافة للممكن مسافة للمستحيل) عام 1977 كتب عنها الكثير من المراجعات والمطالعات والدراسات النقدية، انصب بعضها على تثمين لغتي الشعرية المشحونة بطاقات إبداعية فائقة وانصب بعضها الآخر على ضرورة خروجي من أسر عالمي الذاتي والانطلاق إلى البعد الآخر، إلى العالم الخارجي الإنساني ليصير هناك حوار بين الذات والموضوع ونبهني بعضهم إلى أن فضاء قصيدتي لفظي شكلاني لايستند إلى قاعدة فكرية معنوية نضاحة بالمضمون الحياتي المتوتر.
ورصداً للواقع أقول: إنني استفدت من النقد الشفوي في جلساتي وسهراتي مع هؤلاء الزملاء النقاد، أكثر من النقد الكتابي لأن نص القصيدة المنقودة موجود بكليته أمامنا وله حضوره المفصل وكثيراً ما استجبت عند قناعتي واقتناعي لما يوجه إلي من ملاحظات نقدية على عملي الشعري، وقمت بعملية التنقيح والتشذيب، لكن أعظم ناقد استفدت منه فائدة جلى في مسيرة تجربتي الشعرية هو نفسي على الأغلب.
ممدوح السكاف
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد