معارك أم كلثوم: صوتها كان حزباً لم يستطع أي عهد سياسي تهميشه
تنافست دول الحلفاء والمحور في الخفاء أثناء الحرب العالمية الثانية على كسبها في صف أحد المعسكرين، وعاشت صراعات العهد الملكي كفلاحة حصلت على وسام الكمال ولقب (صاحبة العصمة) مما هدد بإعادة الوسام من قبل من حصلن عليه قبلها من أميرات وزوجات سياسيين وأرستقراطيين كبار، وفي عهد ثورة يوليو لم تهدأ المعارك ضدها، فاعتبرت من رموز العهد الملكي البائد، وهَددتْ هي باعتزال الفن بعد أن بلغت المضايقات ضدها حداً لم يراع مكانتها، قبل أن ينقلب الحال إلى نقيضه وتغدو صوت ثورة يوليو وعبد الناصر... وفي عهد السادات كان عليها أن تخوض صراعاً شرساً مع سيدة مصر الأولى جيهان السادات الطامحة للمجد والشهرة... وفي غير عهد من العهود جرى البحث عن صوت يحل محل صوتها الممتلئ بالنفوذ والتأثير على أمل تهميشها وإزاحتها... إلا أنها لم تكن مجرد صوت خارق، بل كانت ظاهرة أقوى من كل البدلاء، وكانت معاركها بحجم تأثيرها الاجتماعي والسياسي والفني في ذاكرة عصرها وما بعده... كما يؤكد كتاب جديد صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب العام الحالي (2009) بعنوان: 'معارك أم كلثوم السياسية والفكرية والاجتماعية' رصد فيه مؤلفه حنفي المحلاوي صراع أم كلثوم الطويل من أجل الاستمرار والبقاء.
يصنف حنفي المحلاوي في كتابه هذا، معارك السيدة أم كلثوم في ثلاثة أنواع حسب طبيعة أطراف الصراع والخصوم.. وهو يخصص لها ثلاث أبواب رئيسية: الباب الأول وهو الأكثر إثارة: معارك سياسية، والباب الثاني: معارك فكرية ومن ضمنها معاركها مع شعراء الكلمة ومع الصحافيين في بلاط صاحبة الجلالة... والباب الثالث: معارك فنية تتناول زملاء المهنة من مطربين وملحنين وموسيقيين، ويوضح المؤلف في سياق تقديمه لكل هذه المعارك، جملة اعتبارات نوجزها فيما يلي:
الأول: أن أعظم المعارك التي خاضتها سيدة الغناء العربي كانت تدور في فلك المعارك المعنوية دون المادية منها.
الثاني: أن أم كلثوم حاولت في كل المعارك التي خاضتها أن تكسب قلوب من كانوا حولها من أجل ضمان التأييد ولو خسرت هذه المعركة أو تلك، خاصة وأن هذه الفنانة كانت تدخل معارك عنيفة ومع أطراف قوية سواء بحكم مناصبهم أو نفوذهم، مما كان يكسبها تعاطف المحيطين بها.
الثالث: أن فن أم كلثوم الراقي كان حائط دفاعها الأول في كل معاركها، وكان في الغالب هو سبيلها إلى تحقيق انتصاراتها المعنوية حتى في وجه أعتى القوى التي واجهتها.
تجاوزت أم كلثوم في معاركها السياسية حجم الفنانة أو المطربة في عصرها، فقد أدرك الجميع منذ النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين، أن هذا الصوت الخارق راح يحفر عميقاً في وجدان المصريين والعرب، حاملا معه رسائل سياسية واجتماعية وثقافية، وقادراً على حمل رسائل أخرى... ومن هنا فقد وعى المتصارعون الكبار أثناء الحرب العالمية الثانية أهمية كسب أم كلثوم إلى معسكرهم واستغلال صوتها في الدعاة ضد خصومهم، وذلك عن طريق بث دعاياتهم السياسية قبيل أو عقب بث أغانيها... ويذكر محمد التابعي أن بريطانيا التي كانت تحتل مصر في ذلك الوقت قد أشارت الى رجال مخابراتها العسكرية بضرورة القبض على أم كلثوم ونقلها إلى لندن، خوفاً من أن تستغلها الدعاية الألمانية لحسابها ضد قوات الحلفاء في الحرب، ويستند محمد التابعي وغيره من الذين كتبوا هذه الرواية على ما ذكره سعيد لطفي مدير الإذاعة المصرية آنذاك، حين أبلغ أم كلثوم بأن محطة لندن عرضت عليه أن تذهب أم كلثوم إلى لندن لتسجيل قطعة غنائية على شريط مقابل مائة جنيه.. إلا أن أم كلثوم رفضت العرض لقلة المال المعروض عليها. وفي مقابل ذلك أنشأت حكومة إيطاليا عام 1937 إذاعة لاسلكية تبث من محطة (باري) من أجل الدعاية المضادة لدول الحلفاء، وقد عرضت على أم كلثوم هي الأخرى بث حفلات خاصة بها.. وقد لاحظ رجال المخابرات البريطانية في الشرق الأوسط أن وكلاء دول المحور راحوا يجمعون من الأسواق أسطوانات أم كلثوم وعبد الوهاب استعداداً لحرب الدعاية، فنشطوا هم كذلك في شراء الأسطوانات.
وقد بلغ الأمر بالحساسية البريطانية تجاه أم كلثوم وما يمكن أن تلعبه من دور، أن السلطات الإنكليزية في مصر، منعت الممثلة الشهيرة فيفيان لي من إحياء حفلة لصالح الجنود على مسرح الأزبكية، لأنه وافق موعدها الخميس الأول من كل شهر، وهو نفسه اليوم الذي تقيم فيه أم كلثوم حفلتها الشهرية... وكان الهدف عدم إغضاب جماهير أم كلثوم العريضة... الأمر الذي أثار فضولا كبيرا لدى فيفيان لي لرؤية أم كلثوم، فذهبت لحضور حفلتها وعندما خرجت قالت عنها: إنها معجزة من معجزات الدنيا!
وإذا كانت معركة الدعاية والدعاية المضادة بين دول الحلفاء والمحور أثناء الحرب العالمية الثانية، تدور حول أم كلثوم بشكل غير مباشر ولا يد لها فيه، فإن المعركة السياسية الكبرى التي وجدت أم كلثوم نفسها في مواجهتها، معركتها مع الملكة نازلي (أم الملك فاروق) التي طلبت من أم كلثوم أن تحيي حفل زفاف ابنتها الأمير فوزية من الأمير رضا بهلوي (شاه إيران فيما بعد) وقد قبلت أم كلثوم بالطبع، إلا أن الملكة نازلي طلبت منها أن تقوم بزفة العروس... وكان من تقاليد أم كلثوم في ذلك الوقت أنها تكتفي بالغناء فقط، ولكنها لا تقوم بزفة العروس... إلا أن سطوة الملكة نازلي الخارجة من سجن زوجها الملك فؤاد بعد وفاته والمتعطشة لإثبات سطوتها، جعلت أم كلثوم ترضخ لطلبها، وكلفت بيرم التونسي بكتابة كلمات الزفة (مبروك لسموك وسموه) إلا أن أم كلثوم أرادت الانتقام لكبريائها بسبب هذه الضغوط فقررت ارتداء فستان أسود... وعلمت الملكة نازلي بالأمر فأرسلت إليها غاضبة تطلب تغيير لون الفستان، إلا أن أم كلثوم المشهورة بعنادها لجأت إلى حل عبقري يحفظ كرامتها... فقامت بتغيير لون بطانة الفستان من الأسود إلى البمبي، وكانت تلك أول مرة يبطن فيها فستان أسود بلون آخر... والطريف أن ذلك تحول إلى موضة في ذلك الزمان سميت (موضة ثومة)!
واشتدت أوار المعركة بعد ذلك حينما منح الملك فاروق أم كلثوم وسام الكمال ولقب صاحبة العصمة، وأعلن ذلك بطلب من الملك الصحافي مصطفى أمين، بعد إحيائها لحفلة نادي الجزيرة الرياضي الذي كان يرأسه أحمد حسنين باشا، والتي حضرها الملك فاروق وغنت فيها (هلت ليالي القمر) ولم يكن ينتشر الخبر، ويتم الإعلان عنه رسمياً حتى بدأ الهجوم العنيف على أم كلثوم، حين أعلنت إحدى الأميرات في إحدى الصحف أنها سوف ترد ذلك الوسام الذي منحها له الملك فاروق، لأنه منح مثيلا له لأم كلثوم، وتبعها في ذلك عدد من الأميرات وزوجات رؤساء الوزارات... وقد شعرت أم كلثوم حينها بالإهانة وبكت واعتبرت ذلك مكيدة من الملك الأم من أجل الانتقام من فستانها الأسود.. ولم يخفف عن أم كلثوم وقع هذه الإهانة سوى زيارة زوجة سعد زغلول (أم المصريين) لها لتطييب خاطرها!
وقد روى مؤلف الكتاب هذه الوقائع بالعودة إلى الكتب والمصادر، إلا أن ما لم يقله في سياق عرضه، هو أنه سواء كان ذلك مكيدة من الملكة نازلي أم لم يكن، فإن أم كلثوم اخترقت بهذا الوسام تقاليد الملكية الصارمة، فهذه المطربة القادمة من أصول فلاحية فقيرة، والتي لم تنل حظاً وافراً من التعليم يتعدى ما تعلمته في كتاب القرية، استطاعت بموهبتها وإخلاصها لفنها أن تفرض نفسها كشخصية مؤثرة، وأن تجعل من منحها هذا الوسام الملكي حدثاً يهز الأوساط الأرستقراطية في المجتمع!
وتواصلت معارك أم كلثوم في العهد الملكي، حين عرض شريف باشا صبري خال الملك فاروق عليها زواجاً عرفياً، فرفضت الأمر مطالبة بزواج شرعي معلن... الأمر الذي أثار العائلة المالكة ضدها مرة أخرى، فوقفت ضد هذا الزواج إذ لا يليق بأحد أفراد الأسرة الحاكمة أصلا أن يتزوج من امرأة من عامة الشعب... وردت أم كلثوم على هذا الرفض، بإعلان خطبتها على الموسيقار الشعبي محمود الشريف الأمر الذي أثار القصر الملكي ضدها مرة أخرى، فذكرها بأن منحها نيشان الكمال، يجعل من زواجها كما جاء في براءة النيشان مرهوناً بإرادة الملك فاروق شخصياً، ومتوقفا على رضاه السامي باعتبارها تحمل لقب (صاحبة العصمة)!
وينتهي العهد الملكي بثورة يوليو 1952، ولا تنتهي متاعب أم كلثوم ومعاركها السياسية، ورغم أن أم كلثوم لبت طلب مجموعة الضباط الذين كانوا محاصرين في الفالوجة في فلسطين أثناء حرب الإنقاذ، حين أرسلوا يطلبون من أم كلثوم ان تغني لهم عبر أثير الإذاعة المصرية (غلبت أصالح في روحي) فاستجابت لطلبهم، وأدخلت هذه الأغنية بشكل طارئ على حفلتها الشهرية آنذاك، ورغم أن هؤلاء جاءوا ليزورونها في فيلتها بالزمالك بعد عودتهم إلى أرض مصر، إلا أن بعض الضباط في مجلس قيادة الثورة اعتبرها من رموز العهد البائد، فأمر الإذاعة المصرية بمنع إذاعة أغانيها، وجرى البحث عن صوت بديل يكون معبراً عن الثورة ووقع الاختيار على ليلى مراد.
وثمة مقولة شهيرة لجمال عبد الناصر من الغريب أن مؤلف الكتاب لا يذكرها في هذا السياق حين قال احتجاجاً على هذا القرار: (هل نلغي الشمس لأنها أشرقت في العهد البائد)، وتمضي العقلية الانقلابية الإلغائية في معاقبة أم كلثوم بإيقاف حقوق الأداء العلني لبث بعض أغانيها الوطنية التي كانت تضطر الإذاعة المصرية لبثها أحياناً، باعتبار أن تلك التسجيلات قد أصبحت ملكاً للثورة، وبالتدخل في انتخابات نقابة الموسيقيين التي أسستها وكادت تفوز بمنصب النقيب فيها بالتزكية، عبر الإيعاز لمحمد عبد الوهاب بالترشح كمنافس لها؛ فضلا عن مضايقات أخرى دفعت أم كلثوم إلى التهديد بإعلان اعتزالها الغناء... لولا تدخل عبد الناصر وزيارتها مع بعض ضباط مجلس قيادة الثورة لثنيها عن هذا القرار وإعادة حقوقها واعتبارها كقيمة فنية واجتماعية سرعان ما أعلنت ولاءها التام للثورة، حين غنت لجمال عبد الناصر عام 1954 وإثر حادثة المنشية التي قيل إنه تعرض فيها لمحاولة اغتيال، أغنية (يا جمال يا مثال الوطنية أجمل أعيادنا المصرية) التي كتب كلماتها بيرم التونسي، والتي يصفها مؤلف الكتاب بـ (الأغنية النفافية) ثم حين سجلت أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 نشيد (والله زمان يا سلاحي) في ظروف أمنية صعبة بسبب أجواء الحرب والعدوان... ناهيك عما قيل عن لجوء أسرة جمال عبد الناصر إلى فيلا أم كلثوم للاختباء أثناء العدوان الثلاثي.
وهنا لا بد أن نختلف بشدة مع مؤلف الكتاب، الذي صور موقف أم كلثوم من ثورة يوليو باعتباره تزلفاً سياسياً محضاً، هدفه اتقاء شر الإلغاء الذي طال الكثير من رموز العهد الملكي وحسب... فأم كلثوم كفلاحة مصرية نشأت في بيئة فقيرة لا بد أن تكون في تفكيرها وانتمائها أقرب إلى المبادئ المعلنة للثورة منها إلى العهد الملكي، وما علاقة الصداقة الحقيقية والصادقة التي ربطتها بعبد الناصر بعد ذلك إلا تعبيراً عن اشتراكها في الأصول والأجواء الاجتماعية مع هذا الزعيم، التي أضحت أشبه بوزير إعلام خفي لنظامه بعد النكسة، حين راحت تجوب البلدان شرقاً وغرباً، وتحيي الحفلات الغنائية، وتجمع التبرعات من أجل محو عار هزيمة 1967 التي تسبب بها نظامه، ومن أجل تمويل ما سمي بعد ذلك بحرب الاستنزاف... وقد بلغ ما جمعته من تبرعات أكثر من ميلوني جنيهاً، ناهيك عن الحزن الشديد الذي ألم بها إثر وفاة عبد الناصر عام 1970، حيث قطعت زيارتها إلى موسكو، وعادت يلفها الحزن والسواد... كما لا يذكر مؤلف الكتاب أن أم كلثوم غنت بعد رحيل عبد الناصر رثاء حاراً له من خلال قصيدة نزار قباني (عندي خطاب عاجل إليك) التي عهدت بها إلى أعظم ملحني القصائد رياض السنباطي ليلحنها وقامت بتسجيلها عام 1970... ومما لا شك فيه أن هذا الرثاء لم يكن تزلفاً لسلطة قائمة بالتأكيد، لأن عهد السادات جاء انقلاباً كلياً على سياسة عبد الناصر وعهده!
وربما كان ما يورده المؤلف عن المعركة الشرسة التي دارت بين أم كلثوم وجيهان السادات في عهد الرئيس محمد أنور السادات، تحمل بذور صراع حقيقي، أكثر مما حاول أن يصور في عهد عبد الناصر...
أما أبرز تلك الصراعات فما روي عن زيارة أم كلثوم لأنور السادات كي تهنئه بالرئاسة، إذ قالت له (مبروك يا أبو الأنوار بقيت الريس) ما أثار حساسية أشعلت المعارك ضدها فيما بعد... وثمة رواية أكثر إثارة لهذه الواقعة، تقدمها مصادر أخرى غير الكتاب الذي نعرض له، إذ يذكر بعضهم أن أم كلثوم هنأت السادات بالقول: (مبروك يا أبو الأنوار) فانتهرتها السيدة جيهان بالقول: (اسمه الريس إذا ماكنتيش تعرفي.. بذمتك كنت تقدري تقولي لعبد الناصر كده) ورغم أن السيدة جيهان السادات لا تفتأ تنفي ذلك نفياً قاطعاً في حواراتها التلفزيونية، وتعتبره نوعاً من الشائعات المغرضة التي ألفوها عنها وعن عهد زوجها (الرئيس المؤمن) كما كان يحب أن يسمي نفسه، وتبرر ذلك بالقول أن (أم كلثوم أذكى من أن تخاطب الرئيس بأبي الأنوار) إلا أن محاولة تهميش المشروع الخيري الذي أنشأته أم كلثوم تحت عنوان (أم كلثوم للخير)، بإنشاء مشروع (الوفاء والأمل) من قبل جيهان السادات ليست واقعة مغرضة بالتأكيد!
وإذا كانت رواية مؤلف الكتاب حول مضي السيدة جيهان قدماً في حربها الكيدية ضد نفوذ أم كلثوم الاجتماعي والسياسي والفني، ومحاولة اكتشاف صوت جديد يحل محلها، عبر تشجيع (إفراج الحصري) ابنة مقرئ القرآن الشهير الشيخ محمود الحصري، والتي اشتهرت باسمها الفني (ياسمين الخيام) من أجل احتراف الغناء ومنافسة أم كلثوم، أو تشجيع عفاف راضي كي تلعب هذا الدور، أقول إذا كانت هذه الرواية تحتمل التأمل قليلاً، فإن المؤلف ينجرف في هذا السياق نحو كثير من التفسيرات الساذجة لجذور المعركة مع أم كلثوم، منها أن السادات كان يشعر بعقدة نقص تجاهها، لأنه قام في نهاية الخمسينيات بإيصالها إلى سلم الطائرة بأمر من عبد الناصر عندما ذهبت للعلاج من مرض الغدة الدرقية في أمريكا... ولا نعتقد أن السادات كان يجهل أن أم كلثوم في السبعينيات هي شيء آخر، فقد كان يهب ملوك ورؤساء الدول إلى استقبالها وتوديعها والتقاط الصور التذكارية معهم عندما كانت تزور بلداً من البلدان... ناهيك عن أنها في العهد الذي تولى فيه الرئاسة، كانت امرأة مسنة على أبواب العقد السابع من العمر وهذا يستدعي تعاملا آخر معها... ومن الاستنتاجات الساذجة التي يذهب إليها المؤلف في تفسير معاركها مع هذا العهد، أن السادات كان يحب المسرح ويهوى التمثيل ولم يكن يحب الغناء... وأنه حتى أعلن غير مرة أنه كاaن يفضل أصواتاً أخرى على صوت أم كلثوم كصوت أسمهان مثلاً... طبعاً هذا لا يفسر بالضرورة الحالة غير الودودة التي ربطته بأم كلثوم، لأن السادات كان يدرك دون شك دور الغناء في التأثير السريع والقوي في مزاج الشارع في ذلك العصر الذهبي للغناء العربي، ناهيك عن أن مكانة أم كلثوم كانت قد أضحت حالة تراكمية متجذرة لا حل لها!
في كل الأحوال تبقى الغيرة النسائية هي التفسير الأنسب لمعارك أم كلثوم في عهد السادات، وخصوصاً أن معظم تلك المعارك كانت طرفها السيدة جيهان لا السادات نفسه، وإن كان لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن علاقتها الخاصة بعبد الناصر، وغناؤها له في حياته وبعد مماته، ربما كانت عاملا مؤثراً... إنما من دون أن ننسى أن السادات كما يذكر المؤلف لاحقا- قبل وساطتها للإفراج عن مصطفى أمين... أي أن القطيعة لم تكن شديدة العدائية على النحو الذي يذهب إليه المؤلف أيضاً!
ومن السياسة إلى الفن والفكر والمجتمع يمضي الكتاب في سرد وقائع الكثير من المعارك لعل أبرزها على الصعيد الفكري، المعركة التي خاضتها أم كلثوم ضد الألفاظ السوقية والهابطة في كلمات الأغنية العربية في عهدها، متسلحة بذائقة رفيعة صقلها دأبها على تثقيف نفسها، وبيئة محافظة آمنت بقيمها التي منعتها من تقديم ما يخدش الحياء العام، أما معاركها الاجتماعية فكانت ضد الفقر والجهل من خلال المشاريع الخيرية والتنموية التي رعتها، وخصوصاً في قريتها طماي الزهايرة... أما على الصعيد الفني فيمكن اعتبار معركة أم كلثوم مع سلطانة الطرب منيرة المهدية، أشرس المعارك التي واجهتها في بداية حياتها الفنية، فقد اتخذ الصراع أشكالا متعددة واستخدمت فيه أسلحة محرمة أبرزها سلاح التشهير بأخلاقيات أم كلثوم، ومحاولة التشكيك في حياتها الاجتماعية، ولم يغفل خصومها في هذا السياق حتى عن المنديل الحريري الذي كانت تحمله في يدها أثناء الغناء، والذي كتبت عنه مقالات وروجت عنه شائعات... وهو ما أوشك أن يجعل والدها الشيخ إبراهيم يستسلم لتلك الحملة، ويعود بابنته مرة أخرى إلى طماي الزهايرة!
ويمكن القول إلى أن كل تلك المعارك السياسية والاجتماعية الحادة، قد جعلت من أم كلثوم امرأة شديدة الصرامة، حتى إذا ما اعترضتها بعض المعارك الفنية، تعاملت معها بكثير من القسوة والشدة التي جعلت خصومها إما يطلبون الصفح كما حدث مع عبد الحليم حين غضبت عليه بسبب خلاف عابر في إحدى احتفالات أعياد الثورة، أو يطلبون الصفح كما حدث مع الموسيقار زكريا احمد الذي وصل خلافه معها إلى المحاكم وانتهى بمصالحة فنية!
ويشير المؤلف إلى أن اتخاذ منيرة المهدية من الصحافة سلاحاً في حربها ضد أم كلثوم، نبه سيدة الغناء العربي فيما بعد إلى أهمية الصحافة ودورها في مسيرة الفنان وتكريس نجاحه، فعملت على التقرب من الكثير من المؤسسات الصحافية والصحافيين الكبار ودعمهم، ولعل أبرز المعارك التي خاضتها في دعم الصحافة، كان دعمها المالي لمؤسسة (أخبار اليوم) للأخوين علي ومصطفى أمين، حينما كانت توشك على الإفلاس بسبب الحصار الحكومي الذي تعرضت له في عهد عبد الناصر والذي منع عنها الإعلانات والدعم، ثم موقفها من مصطفى أمين نفسه بعد سجنه في عهد عبد الناصر أيضاً، حيث كانت تقرضه المال في سجنه بعد أن خاف أصدقائه من مد يد العون عليه كونه سجينا سياسياً، كما سعت للإفراج عنه في عهد السادات وكللت مساعيها بالنجاح بعد حرب 1973
إن كتاب (معارك أم كلثوم السياسية والفكرية والاجتماعية) لمؤلفه حنفي المحلاوي، يبقى جهداً توثيقياً هاماً، لا يعيبه سوى استغراق مؤلفه في الثرثرة المطولة والتكرار من أجل الوصول إلى استنتاجات منطقية حيناً، ومقحمة ومتناقضة حيناً آخر... على حساب متعة سرد وقائع المعارك بشكل مشوق ومكثف وبلغة رشيقة... لكن الكتاب يقدم لنا في النهاية صورة فنانة عاشت حساسية علاقة الفنانين بالسياسة بكل تقلباتها وضروراتها ومجاملاتها، شأن الكثير من الفنانين العرب في غير زمان ومكان... إلا أننا لو قارنا معارك أم كلثوم بما جاء بعدها لدى كثير من الفنانين، فإننا سنكون - بقليل من الموضوعية - أمام معارك نبيلة لسيدة قوية، ذات عزيمة ورؤية، أدركت قيمة نفسها وقدرتها على التأثير فيمن حولها، فسعت لاستغلال الهامش المتاح لها بكثير من الحنكة والكبرياء، من أجل تحويل فنها إلى حزب لوحده، له تأثيره البالغ في الوجدان العربي والذاكرة العربية... مع الإشارة أخيراً إلى أن أم كلثوم لم تضح بفنها يوماً من أجل مكاسب السياسة، بل طوعت علاقاتها السياسية من أجل خدمة وتكريس فنها، وهذا ما حفظ لها مكانتها الاستثنائية في النهاية!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد